في كتاب جاكلين بيرين (اكتشاف جزيرة العرب - خمسة قرون من المغامرة والعلم) الصادر باللغة العربية عام 1963م عن دار الكاتب العربي - بيروت ترجمة الأستاذ قدري قلعابي، تقدم لنا الكاتبة قراءات ودراسات حول الرحلات الغربية لجزيرة العرب في حقب من التاريخ شكلت عملية التدوين لمجريات الأحداث لتلك الفترة الذاكرة التي ما زالت تستعيد حضورها كلما عدنا لمرجعية ذلك الزمان . وتحتل عدن مكانة مهمة في هذه المدونات التاريخية بفعل موقعها الجغرافي الذي جعلها في قلب الصراعات الدولية وحالة لا يمكن تجاوزها بل هي بوابة العالم ونقطة عبور ما بين الشرق والغرب وذلك ما جعل النظرة العالمية تذهب إليها عبر مختلف العصور لأن العالم مر من هنا وعدن مدينة عاصرت من الصراعات والأزمات مثل ما عرفت مراحل من الاستقرار. في عام 1509م زار الرحالة لود فيكودي عدن وعن أحداث تلك الرحلة تقول جاكلين بيرين ( وصلت السفينة التي كانت تمخر على محاذاة سواحل باب المندب إلى ميناء عدن ويقول عنها دي فارتيما أنها اشد مدينة سهلية تحصيناً رآها في حياته ترتفع الجبال على جانبيها والأسوار على الجانبين الآخرين منها. تشرف عليها خمس قلاع ويقدر سكانها بخمسة أو ستة آلاف بيت وترسو السفن في مينائها في أسفل احد الجبال ويرتفع في أعلى هذا الجبل حصن منيع . والحر فيها شديد إلى درجة أن السوق تقام فيها في الساعة الثانية بعد منتصف الليل والسفن التي ترسو فيها تأتيها من بلاد الهند والحبشة وبلاد فارس ولا تكاد السفينة تدخل ميناءها حتى يقبل ضباط السلطان يسألون عن نوع البضائع التي تحملها والبحارة الذين على ظهرها ثم ينتزعون أشرعتها ودفتها ليتأكدوا من أنها لن ترحل قبل تأدية الضريبة المتوجبه للسلطان). عام 1513م ظهر الأسطول البرتغالي أمام سواحل عدن بقيادة الفرنسو دي البوكرك وقد حاول هذا الأسطول الهجوم على عدن غير أن الميناء المحاط بالأسوار القوية صده عن فعله هذا وبعد تلك المرحلة جاء دور تنافس الشركات على منطقة البحر الأحمر وعدن ففي عام 1600م أسست شركة الهند الشرقية البريطانية وفي عام 1602م أسست الشركة الهولندية الشرقية الفرنسية وفي عام 1798م وصلت أول سفينة أمريكية إلى ميناء المخا في البحر الأحمر أما هولندا فقد أرسلت أول مركب لها إلى بلاد العرب عام 1614م وبريطانيا في عام 1609م وكان اسم السفينة التي جاءت إلى عدن صعودٍ وكانت الفترة الزمنية التي استغرقها عاماً كاملاً.وكان قائد السفينة الكابتن شاربي قد ذكر عدن فيما كتب عن رحلته تلك بأنها مكان حصين ممتنع وهي محاطة بسور له ثلاثة أبواب مغلقة وجعل الباب الأكثر تعرضاً من بينها للغزوات من جهة بحر القلزم وهو سهل الإنزال عند الطلب أما الميناء فتحيط به جبال توجد بها عدة قلاع ومراكز مراقبة أما من ناحية البحر فتحميه جزيرة شاهقة موقعها على مرمى بندقية من عدن المدينة أقيم عليها حصن منيع يتعذر فتحه سوى في حال نفدت منه المؤن لان موقعه يجعله في وضع حصين جداً فهو جبل أشبه بالقلعة الجبارة. عام 1600م أرسلت شركة الهند الشرقية سفينة تجارية إلى منطقة البحر الأحمر بقيادة الضابط وليم كلبنج الذي سعى للوصول إلى عدن لغرض إقامة وكالة تجارية فيها غير انه لم ينجز هذا المشروع على أن البريطانيين عادوا وكرروا محاولاتهم بإرسال سفنهم إلى عدن ولكن نجاحهم لم يكن إلا في عام 1612م عندما سمح لهم حاكم اليمن العثماني بحرية التجارة على سواحل العربية الجنوبية وسواحل اليمن وكانت الخطة البريطانية في هذا المجال تبدأ اولاً بإقامة الوكالة التجارية ومن بعد إدخال القوات الحربية لغرض الحماية وخصوصاً في أول وجودهم بالمنطقة. اهتم البريطانيون بعدن بشكل واسع بعد أن وضعها الوكيل التجاري لشركة الهند الشرقية الانجليزية بأنها مكان حصين ممتنع محاط بسور له ثلاثة أبواب وتحميه من جهة البحر الأحمر جزيرة ميون الشاهقة في مضيق باب المندب ، أقيم عليها حصن منيع يتعذر اجتيازه والدخول إلى البحر الأحمر ومن اجل توسيع المد البريطاني في مياه البحر الأحمر ازداد اهتمامها بميناء عدن فمند عام 1618م وسعت حركتها التجارية وعملت على إقامة وكالة في اليمن تراقب مصالحها التجارية كذلك عملت بريطانيا على بذل جهود واسعة منذ أواخر القرن الثامن عشر في اكتشاف شاطئ البحر الأحمر من السويس إلى باب المندب ، والغرض من هذا هو اختصار الطريق البحري حول رأس الرجاء الصالح وتغيير خط السير منه إلى خط البحر الأحمر والى السويس ثم طريق الإسكندرية. لذلك أرسلت عام 1777م شركة الهند الشرقية البريطانية السفينة (روبن) في عملية استطلاع لشاطئ البحر الأحمر حتى وصلت إلى المخا وبعد ذلك تواصلت رحلات السفن البريطانية حتى عام 1831م لجمع اكبر قدر من المعلومات العسكرية ولاستكمال البيانات حول شاطئ البحر الأحمر. وبما أن عدن تحتل موقعاً مهماً عند مدخل البحر الأحمر الجنوبي تشكل حلقة اتصال بين الساحل الشرقي والغربي للبحر الأحمر والساحل الجنوبي للجزيرة العربية فقد وجهت بريطانيا أنظارها إليها منذ عام 1918م لذلك هدفت لتمهيد السبل للسيطرة على عدن وجعلها قاعدة عسكرية واقتصادية في منطقة البحر الأحمر والمحيط الهندي. وفي إطار هذا التنافس الدولي على هذه المدينة ومن هذا المنطلق أرسلت حكومة لندن عام 1802م وفداً إلى سواحل البحر الأحمر وعدن بغرض إقامة علاقات مع حكام هذه المنطقة وكذلك لإثارتهم ضد فرنسا التي كانت قد احتلت مصر وتتطلع لمنافسة النفوذ البريطاني في هذا المكان وبالذات عند مدخل البحر الأحمر من جهة ثانية. وخلال تلك الحقب وبعد دخول بريطانيا إلى عدن عام 1839م أصبحت بعد أن كانت لمدة طويلة مجرد نقطة عسكرية من ضمن النقاط العسكرية البريطانية في المحيط الهندي ، قاعدة عسكرية وميناء لتزويد السفن بالوقود في الدرجة الأولى من حيث الأهمية وكان عام 1828م الزمن الذي أسست فيه محطة لتزويد السفن بالوقود في المخا وفي بداية عام 1829م كان الفحم ينقل إلى جزيرة صيرة في عدن. في عام 1879م عينت الحكومة الأمريكية احد التجار الأمريكيين في عدن وهو المستر وليم لو كرمان قنصلاً فخرياً لها وفي عام 1895م افتتحت القنصلية الأمريكية في عدن بالتواهي وكان القائم بالأعمال فيها المستر باراك وفي ديسمبر عام 1856م وصلت أول سفينة امريكية إلى عدن. وحول التحرك الأمريكي في هذه المنطقة من عدن حتى البحر الأحمر، تقول الدكتورة مديحة أحمد درويش في كتابها (النشاط الأمريكي في جنوب البحر الأحمر - 1918 - 1944 - الصادر عن دار الشرق جدة عام 2008م) التالي: (وقد أنشئت القنصلية الأمريكية رسمياً في عدن عام 1895م وكانت عين الحكومة الأمريكية في منطقة جنوب البحر الأحمر بأسرها، وتولت مسؤولية رعاية المصالح الأمريكية القائمة ورعاية القائمين عليها في تلك المنطقة، بالإضافة إلى ذلك كان من المسؤوليات التي ألقيت على عاتقها العمل على إدخال عناصر جديدة في تجارة عدن واليمن وشبه الجزيرة العربية وما حولها، وفتح قنوات جديدة للتجارة الأمريكية التقليدية وغير التقليدية هناك وبصفة عامة يمكن القول إن إنشاء أي قنصلية أمريكية في مكان ما إنما يكون من منطلق تقديم خدمات فعلية للصالح القومي العام الأمريكي.وكان التمثيل الدبلوماسي الأمريكي محدوداً جداً في المشرق العربي واعتبرت القنصلية الأمريكية في عدن القنصلية الأمريكية الوحيدة الواقعة على الساحل الشرقي للبحر الأحمر بين القدس وبغداد في الشمال وكراتشي وبومبي في الشرق، فكانت لذلك بمثابة برج مراقبة يتابع بدقة التطورات التي تقع في شبه الجزيرة العربية وجنوب البحر الأحمر الأمر الذي أعطى لها أهمية خاصة إذ تحملت مسؤولية أكبر في مراقبة تطورات الأحوال وجمع المعلومات والبيانات والواقع في تلك المنطقة الشاسعة ذات الحساسية العالية في العلاقات الدولية السياسية والاقتصادية والإستراتيجية.ومما لا شك فيه أن مستوى التمثيل الدبلوماسي في أي موقع يلعب دوراً رئيسياً في حجم المعلومات التي يمكن جمعها والنشاط الذي يمكن القيام به لذلك فإنه نظراً لأن مستوى التمثيل الدبلوماسي الأمريكي في عدن كان على مستوى القنصلية، فقد كان ذلك من العوامل التي حدت من حجم ذلك النشاط وتلك المعلومات.وهذا يرجع إلى أن العبء الملقى على عاتق القنصلية كان - من وجهة نظرنا - أكبر من إمكانياتها، خاصة إذا وضعنا في الاعتبار أن نشاط قنصلية عدن كان يغطي - في فترة البحث - البلاد الواقعة على جانبي البحر الأحمر (السعودية - اليمن - الصومال - الحبشة) أي المنطقة التي يطلق عليها دائرة عدن، ومعظم هذه المناطق منفصلة بعضها عن بعض وتفتقر إلى وسائل الاتصال الجيدة، ويقع بعضها تحت طائلة الاستعمار الأوروبي الأمر الذي كان يجعل حركة المسؤولين عن القنصلية الأمريكية في عدن صعبة، كما جعل القنصلية تعاني من بطء شديد وصعوبة بالغة في الحصول على المعلومات عن المناطق التي تتبع دائرتها المذكورة).أما الوثائق الفرنسية فإنها تقدم لنا عدة معلومات تاريخية عن الوجود الفرنسي في عدن كمدينة لها حضورها العالمي، ففي عام 1857م أقامت الحكومة الفرنسية في عدن وكالة قنصلية تصاعدت أهميتها حتى قيام الحرب العالمية الثانية (1939 - 1945م)، وفي عام 1881م أجبرت الأحوال على تحولها لقنصلية مساعدة، وفي عام 1903م عادت من جديد وكالة قنصلية، وكان مديرها القنصل المساعد موريس رياس منذ عام 1899م وظل مقر القنصلية في شركة رياس حتى عام 1928م، وكانت لها عدة مهام في عدن مثل كتاب العدول، وتسجيل وتخليص المعاملات الإدارية مثل الجوازات والقيد الرسمي وتسجيل الشهادات وغيرها من الأعمال.وتذكر وثائق الأرشيف الفرنسي حول عدن التالي: (شهدت النهضة السكانية بهذه المستعمرة البريطانية تطوراً ملحوظاً ففي حين كان يسكنها ما يقرب من ألف شخص عام 1839م، أصبح عدد سكانها تسعة عشر ألفاً ومائتين وتسعة وثمانين عام 1872م ليصل تعداد سكان عدن إلى أربعين ألف نسمة عام 1900م وقد استوطن العديد من الفرنسيين عدن بدورهم وذلك للتفرغ لممارسة تجارة البن القادم من جميع أنحاء اليمن والمعروف ببن (الموكا) والبن القادم من هرار والمسمى لدى الفرنسيين بالبن البربري.وتعدى النشاط التجاري إلى تصدير الجلود والبخور واللبان وشمع العسل والعاج وجميع منتجات بلاد العرب والشرق الأفريقي، وكان السيد الفرد باردي الذي وصل إلى عدن في عام 1878م من كبار التجار الأكثر شهرة حينذاك، وقد أسس لوكالته في الحديدة فرعاً لغرض تمثيل شركة باردي وبوفار وشركاه وكذلك السيد سيزار تبان الذي وصل إلى اليمن في عام 1869م ولديه (5) أو (6) من الموظفين وعمل في الاستيراد والتصدير، كان الممثل المقيم لعدد من الشركات التجارية الفرنسية والأجنبية وللعديد من شركات الملاحة، كما أسس قبل 1884م لشركاته في الحديدة وبربرة وزيلع وهرار ليصبح فيما بعد شريكاً مع وكيله السيد موريس رياس الذي جاء إلى اليمن حوالي 1877م وأسس شركة ظلت متوارثة من قرن من الزمن حتى عام 1970م).هذه بعض المصادر التاريخية التي تكشف مراحل من حضور عدن العالمي، وكيف ظلت هذه المدينة من مناطق العبور ما بين الشرق والغرب، وكيف نظر إليها العالم من منطلق تصارع المصالح وتخطيط الأهداف، فعدن لم تكن نقطة مراقبة بل مركز تحكم في المنطقة وإدارة لصراع المصالح أو المواجهات الدولية، ومن هذا الإطار الممتد مع الأغراض الدولية حافظت عدن على منزلتها، ومازالت حتى اليوم مدينة لا يمكن أن تسقط من حسابات المرور العالمية، لأن العالم مر من هنا.
|
ثقافة
عــــدن.. العــــالم مـــــر مـــــن هـــــنا
أخبار متعلقة