محمود محمد أسدالشعر ذاكرة وبوح وانفعال وموقف وتجسيد. ولغة خاصة. وخيال يحمل التمرّد على الواقع ليسبح بالمراد والمتمنى. ينحو نحو الجمال، ويسعى لدغدغة المشاعر وإثارتها.والتاريخ أرقام ووصف، وانتقال وعدد وأقوال وخطب وبعث للمأمول أيضا. كلاهما موقف مما جرى، وموقف من الحياة والأشخاص ، لهما أدواتهما ووسائلهما، كلاهما يسعى لنسج الحدث ولكن كلاً بطريقته.الشعر يصحبك بعيداً عن جو المعركة ويجعل ميدانها النفس والكلمة والمشاعر، يثير فيك شهوة الكلمة، لكن التاريخ يأخذك بيدك إلى الميدان، يعيد ترسيم المعركة ، ويحدّد خطوطها عن بعد وقرب، من قبل الحدوث وبعد الحدوث، والشعر تستدعيه النتائج ، وتعيد تكوينه، فتبعث اللغة من جديد. بعضهم يرى الشعر خارج نطاق التاريخ والتحديد، وذلك بانتهاء الحدث وموت الشاعر، لكن الشاعر بموته يحيي المناسبة والحدث ، موقعة عمورية ومعركة حطين والحدث وبورسعيد أما التاريخ يريك الأسباب والمسببات، يرى بعضهم أن الشعراء ليس من شأنهم الاستناد على حوادث عصرهم، ولا يرهقون أنفسهم وذاكرتهم بالتسجيل والمحاكمة والرواية واستجداء الموقف، حسبهم الجمال وصب معين الخبرة والحكمة . ربما هناك آراء تمزج بين الرأيين، وهذا ممكن. فالشاعر ليس مؤرخاً حاذقاً ودقيقا لما يجري أو جرى، وليس مطالَبا بالتتبّع والرّصد، وإنهاك شاعريته على حساب الواقع والحدث فحسب. وبالمقابل ليس الشاعر بمعزل عن محيطه الذي يلازمه، ويعايشه في أحزانه ومسراته، وفي إنجازاته ونكباته. شاء أم أبى؟ وذلك ضمن إطار العلاقة المتواشجة. ومن هنا يجد الشاعر نفسه في حالة صراع داخلي بين كونه شاعراً يحلم، ويتمنى، ويرغب الكثير، وبين كونه إنسانا يرى ويتابع ما يجري. فمن يأخذ الآخر؟ هل يأخذه الشعر إلى عوالمه البعيدة الحالمة أم ينساق وراء الحدث وقد جرده من الأولى؟ وقد يقول قائل: ولمَ لا يوافق، أو يعاضد بين الحالتين؟ هنا تكمن الحقيقة التي تحتاج لبراعة ودراية وتقنية وخيال خصب دون إلغاء الحدث بأهميته. وقد قال بعضهم : ليس الشاعر ملزماً على إكراه نفسه لتأريخ ما يجري والدخول في حيثيات الأحداث. وبالمقابل يقول أحدُهم هل الشاعر محقّ بتنحية ذاته ونفسِه عن الأحداث، فيتجرد من الزمن والمحيط اللذين يعيش فيهما. ويبقى على الحياد كمن لايعرف، ولايرى، ولايسمع. ويا لها من مأساة ؛ ويالها من داء مخجل!. إن الشعر العربي القديم، ولعهد قريب لم يكن بمعزلٍ عن تأريخ الأحداث والموقف منها، وإعادة صياغتها، وهذا ملاحظٌ لدى الشعراء بشكل جلي كالبارودي وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم والزركلي وغيرهم من الشعراء.. والغالبية العظمى من الشعراء وعن طريق أشعارهم عرفنا ما جرى ، وتعرفنا على الشخصيات السياسية والمناضلة من شهداء وأحرار وعلماء سعد زغلول وعمر المختار وإبراهيم هنانو وعبد القادر الجزائري والحسيني والقسام والثورات التي انطلقت في القرن العشرين، ولم تهدأ ، بل قدمت قوافل الشهداء والأحرار .وأمام المستجدات من المفاهيم والمصطلحات الوافدة وذلك في مجال النقد والبحث والتحليل، ومع شيوع أثر الثقافة الغربية التي حدّدت بعض ملامح الشعر الحديث ومساراته، وما تركته من أثر، وما فيه من مؤثرات دفعت الشعراء للتعبير عن القضايا المصيرية بأشكال مختلفة، هذا إذا لامسوها وعبروا عنها. فافتقد الشعر جانبا هاما من جوانبه التوثيقية، وافتقد لروح الحماس والإثارة والحضّ. وخسر ريادته ودوره، وتخلّت الجماهير عن شعرائه الذين تنحوّا جانبا، واستقالوا من هذا الدور المنوط بهم. وما عادت القضايا الكبرى والمستجدّات الراهنة تشغل الشاعرَ ومبتغاه، فالتفت إلى ذاته المغلقة. فخسرنا من الشعر الكثير. خسرْنا التوثيق الهام، والحماس والشهادة الحية. وخسرنا الجانب الوجداني القادر على دغدغة المشاعر ، وتحريك النفوس. الواقعة التاريخية الكبرى التي كانت توقد النفوس، وتشحذ الهممَ ،أضحى طرحُها ومتابعتها ليس من اختصاص الشعر والشعراء في نظر النقد والنقّاد المحدثين. فافتقد الشعر مقوّما أساسياً من مقوماته، فبدا التخاذلُ والهروب من ملامسة الواقع الذي ينظر إلينا بعتب المحب الحزين حل الجفاء بين الشاعر والمتلقي، وبين الشاعر ونصه، مما أدى إلى الابتعادِ عن كثير من الهموم التي تشكّلُ واقعا مأساويا ، تعاني منه الأمم والشّعوب، ولكنه حرِمَ من لمسة الحنان والدفء الشاعري. يبقى التاريخ سواء أكان جامدا أم متحولا مجالا للرؤية والنقاش والخلاف والمواجهة والشعر يقوم بشيءٍ من هذا القبيل. بل يحرّك ما جمد من الحدث، فيبعثه من رقاده وسكونه. التاريخ الساخن والحار بحاجة لوجبة شعرية ملازمة، لكنها وجبة خاضعة للتحديث والتطوير والإضافات ، وإلا افتقد الشعر أهمّ عنصر يتمثل بعنصر التشويق والحدث. هل سأل أحدنا عن مشهدية الواقع الشعري، وعن كنه علاقاته ، في وقت ما، ولزمن يمور بالمتغيرات ، ويرنو إلى المستقبل، ذاك المستقبل الذي بدا يلوّح بالقدوم والإطلالة، إنه مشهد أراه سينحي الشعراء ويحيلهم إلى التقاعد المبكر.
|
ثقافة
العلاقة بين التاريخ والشعر
أخبار متعلقة