الاستشراق
في هذا الكتاب الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت عام 2006م يقدم الدكتور محمد الدعمي دراسة معمقة حول قراءة العقل والفكر الاستشراقي للتاريخ الإسلامي، حيث يوضح كيف لعبت المخيلة الاستعمارية دوراً في عملية بناء شكل العلاقة بين الشرق والغرب.فالتاريخ في جوهر هذا التشكل، لم يكن في المرتكز الأول في صياغة الحتمية الزمنية التي تستمد من تقارب المسافات بين الشعوب والحضارات كي توجد حالة تمازج بين الثقافات بقدر ما جاءت من مرحلة الهيمنة والصعود لدور الغرب كقوة تتخذ من منجزات العلم المهاد السيادي الذي يقلب صياغات الاتصال مع الآخر من مستوى التعارف إلى درجة التسلط.والكاتب في هذا الالتقاء الفكري مع صناعة الإستشراق يضع مخيلة هذه العقلية في مسارات تاريخية هي في حد ذاتها وليدة أزمة مر بها ذلك النوع من التفكير الذي تخلقه حالات التعالي على أمة وتاريخها، بل يتخذ ذلك التفكير من الخرافة والأسطورة قواعد التعامل وإعادة إنتاج النص المعرفي في دائرة من الانغلاق السياسي والديني بل والعلمي في أسلوب قراءته لما كان يوماً من سيادة التاريخ والحضارة.غير أن الفترات الزمنية بقدر ما تسير في حدود متقاربة، تتوالد في داخلها إفرازات جديدة لنوعية الاتصال مع الآخر. فالعقل ليس هو صنيعة الفكر السائد، بل منه تخرج محاولات للدفع نحو الاتجاه المغاير وتصبح قاعدة التعامل المفروضة رؤية غير منجزة العمق لأنها ظلت لحقب تعيد قراءة ذاتها في نص الآخر، وحالة التقوقع العقلي هذه طرحت معالمه مع الفكر الحضاري الإسلامي جاءت من خارج الحتمية التاريخية التي أنتجت هذا الفكر.يقول الدكتور محمد الدعمي: (إنه لمن السذاجة بمكان الاعتقاد الذي يسود البعض من القراء بأن فكرة الغرب عن العرب والإسلام تتجذر في العصر الذهبي للتوسع الاستعماري الأوروبي فقط، إبان القرن التاسع عشر بخاصة، ذلك أن مثل هذا الاعتقاد يغض النظر عن حقب كاملة من تاريخ أوروبا الذي بقي يمور بالأفكار الخاطئة والتصويرات المشوهة حول هذا الموضوع الحساس الذي تتزايد أهميته اليوم على نحو خاص نظراً إلى الدعوات المعاصرة والمتعددة للتلاقح والتناغم والتفاهم الثقافي بضمن ما يشاع من دعوات لـ (حوار الحضارات) وتأسيساً على هذا الافتراض القائل بأن القرون الممتدة بين الوعي الأوروبي المبكر بظهور الإسلام، مع فتوحات بلاد الشام بخاصة، من ناحية، وبين عصر الثورة الصناعية الذي شهد تصاعد حركة الاستعمار الأوروبي من الناحية الثانية، إنما تمثل المنبع والأساس لجميع الأخطاء والتشويهات التي شابت التلقي والفهم الغربيين للعرب أمة وللإسلام ديناً ).الحقب التاريخية لا تقف مدلولاتها الفكرية عند زمن تصاعد المد الفكري ـ السياسي القائم على توسع الهيمنة فقط. فالغرب الذي سعى لإعادة هيكلة الجغرافي مع السياسي من خلال خلق تاريخ يتم عبره قراءة عقلية وإنتاج الآخر، لا يقف على أرضية الوضع الراهن، بل في العمق تمتد جذور من أشكال العلاقة بين الشرق والغرب، من ملامح صناعتها قراءة منطلقة من داخل الفكر الغربي المحكوم بتصورات تلك الحقب، مخيلة ترفعت عن الرؤية الموضوعية في صياغة آلية العمل الفكري فأصبحت تنتج ما في تصورها وتسقطه على الآخر حتى تحول هذا الجانب من قراءة التاريخ إلى مشروع سياسي يبرز كل ما ارتكب من جرم بحق شعوب وحضارات تم التعامل معها من دائرة تعيد إنتاج المعرفة كقوة متسلطة على العالم وتسقط الجانب الكوني والإنساني منها، ومن هنا لعب الإستشراق في فتراته الأولى دور المشروع السياسي المهيمن الذي يشكل صناعة القرار العسكري والاقتصادي والفكري في علاقته مع العالم الإسلامي.العلاقة بين الجغرافيا والسياسة لا تنفصل وفي ذلك يقول مؤلف الكتاب: (يمكن ببساطة تفسير مسببات تواصل الحذر الأوروبي من العرب والإسلام وطاقاتهما الكامنة من خلال استحضار أوروبا القديمة وحقائق إحاطتها من قبل العالمين العربي والإسلامي من اغلب الجهات على نحو خانق.فعبر الحقبة الممتدة من القرون الوسطى المبكرة حتى بدايات عصر الثورة الصناعية بدت أوروبا محاطة بعالم إسلامي شديد المراس عسكرياً. وهو عالم متكون إما من العرب او من الأقوام المسلمة التي تعد اقواماً مستعربة. لقد كانت أوروبا حينذاك قبل اكتشاف أمريكا وفتح قناة السويس، تشعر بأنها مخنوقة أما بعالم الإسلام او بـ (الصحاري) المتجمدة الجرداء.لقد كان شمالها مغلقاً بأقاليم ثلجية شاسعة، بينما مثل المحيط الأطلسي الذي كان يعد نهاية العالم، كامل حدودها الغربية. ومن ناحية ثانية، كانت حدود أوروبا العصر الوسيط المتبقية إسلامية بالكامل: فجنوبها متكون من البحر المتوسط الذي كانت تمخره الأنشطة البحرية العربية (تجارية وعسكرية) بدرجة انه بدا وكأنه بحيرة عربية، وبخاصة بعد الفتوحات العربية والإسلامية لاسبانيا وصقلية وآسيا الصغرى واليونان وشرقي أوروبا وأرض أخرى أما حدود أوروبا الشرقية فكانت في تماس مباشر مع أقوام مسلمة في الغالب، أو أقوام مرتحلة أسلمت في ما بعد كالمغول والقبائل التركمانية).في هذا حكم التاريخ والجغرافيا القاعدة التي بدأت في صنع المخيلة الغربية اتجاه العالم الإسلامي وجغرافية تلك الأزمنة الغربية لم تكن حدوداً عند مساحات من امتداد الأراضي، بل عزلة العالم والعقل المسيحي عن ما خلف ذلك الوجود، وما القوة التي تمتع بها الإسلامي في حضور التاريخي الا إظهار للضعف الغربي في حقبه السابقة، فكان تشكل الرؤية الغربية في هذا الإطار الذي بدأت أوليات خطواته بانتزاع حق السيادة ليس فقط على الحدود الجغرافية ، ولكن قهر التاريخ وتحويله إلى سيادة غربية تعيد صياغة مفهوم العلاقة بين العالم الإسلامي والغرب.فلم تعد الجغرافيا سيادة دول او معالم حدود، بل دائرة انطلاق نحو الآخر من مواقع الهجوم الذي لا يقف عند درجات القهر السياسي، بل سعى إلى إعادة هيكلة الأنفس والعقليات والعقائد والأفكار عند الشعوب الإسلامية، وذلك مر عبر مراحل من بدايات الصراع الجغرافي والحضاري بين الشرق والغرب، وكانت الثقافة الإسلامية هي الحقل الأول الذي دخله الفكر الإستشراقي، وهذه الحضارة ليست إنتاج المادية فقط بل هي القوة الروحية الكبرى التي قامت على تعاليم الإسلام وهنا تظهر بداية الصدام بين عقليات جاءت لتعيد صياغة الأسس الحضارية، وحضارة لها جذور في صلب العقيدة التي صنعت وجودها وكيانها الإنسانياندرجت تلك المخيلة الغربية في المشروع الثقافي - السياسي لهيمنة الصعود الحضاري لنفوذ أوروبا فكان الاتجاه نحو الشرق نقطة التوازن المساعدة على صنع الهوية المغايرة لذات الآخر فالغرب لم يأت ليحمل ثقافة الهيمنة فقط بل جاء معه الشكل الذي يجب أن تطرح في إطاره ذاتية الشرق حتى يعاد إنتاج الصورة الشرقية في عمق ذلك القادم من الغرب. غير أن عملية إعادة الإنتاج الغربي لذاتية الشرق ومنها العالم الإسلامي قد أوقعت مسار المنهجية في قصور فكري وتداخلت عدة تصورات كانت الغاية منها التعالي على مواجهة حقائق التاريخ فالعالم الإسلامي هو في الدرجة الأولى الخصم وفي هذا ما يسقط الموضوعية في أزمة الذاتية وعندها يكون العقل لا يفكر إلا من منطلق هذه الخصومة والتصارع حيث يحتل الجانب العقائدي في هذا التناحر قوة المواجهة وفي هذا ما يجبر المعرفة على الاستكانة لشروط الهيمنة السياسية وأفكار الاستعمار الذي جاء إلى الشرق بحثاً عن مواجهة منطلقة من الإرث الديني سارية إلى إلغاء ما أسهم به الغير. عند هذا المستوى من التحدي دائماً ما يتقدم السياسي والعقائدي - الثقافي حيث تصبح الثقافة فرعاً من أصل ينصب مشروعه في صياغة هذا الجزء من العالم حسب تصور مخيلة الغرب. يقول الدكتور محمد الدعمي : ( شهد عصر الثورة الصناعية خلال القرن التاسع عشر ذروة النهضة الاستشراقية التي مر ذكرها في الفصول السابقة وهي الحملة الواسعة التي شهدتها أوروبا إعادة اكتشاف الشرق سكانه وأديانه وتراثه. وقد تجايل هذا الوعي الأوروبي الجديد بالشرق مع عدد من المتغيرات الجديدة والطارئة التي ساعدت على تبلور هذا الاهتمام وغذت تشعباته وتطوراته التالية فمن ناحية أولى لعبت الأنظمة العلمية الجديدة والمستحدثة دوراً كبيراً في زيادة الاندفاع الغربي نحو الشرق الذي بدا أكثر ثراء وإغراء للمتعطشين إلى المعرفة أو للغريب أو للمغامرة بينما أدارت حركة بناء الإمبراطوريات الأوروبية عجلة الاستشراق ليس فقط رعاية معرفية اعتبارية بل كذلك تمويلاً لدرجة اعتبار الشرق صنعة كما عبر عن ذلك الروائي البريطاني الشهير بنجامين دزرائيلي الذي تسنم رئاسة الوزراء البريطانية على عهد الملكة فيكتوريا والذي كان من المقربين لها إضافة إلى زعامته لواحد من الأحزاب السياسية المنبثقة عن المحافظين وهو تكتل انجلترا الفتاة الذي ترجم أفكار إحياء العصر الوسيط إلى برنامج سياسي. إن اعتبار الشرق حرفة يمكن الإفادة منها فردياً أدى إلى تشبث العديد من العقول الذكية والمواهب الفذة بالمواضيع الشرقية على سبيل التفرد. عبر حقب من تاريخ أوروبا قدم الاستشراق عدة أسماء وإسهامات كل فترة أفرزت معها عقليات تعاملت مع العالم الإسلامي من قواعد الحقول المعرفية التي كانت سائدة في عصرها، وبالرغم من محاولات التجاوز في الرؤية إلا أن هناك دائرة معلقة وضع في إطارها التخيل الاستشراقي ومن تلك العقليات نذكر المستشرق تشارلس دوتي، المستشرق نيومان المستشرق هنت وغير هذه الأسماء العديدة التي تعاملت مع الشرق من خلال القراءات في نصوص الحضارة الإسلامية والرحيل إلى الشرق والإقامة والتعرف المباشر على الحياة العربية في مدن الشرق والعالم الإسلامي والاتصال بأهل الفكر والأدب والسياسة والعقيدة وتعلم اللغة العربية التي كانت تقع في دائرة عدم معرفتها عند العديد ممن قصد الانطلاق في فضاءات الحضارة الإسلامية والتي شكلت العقدة الكونية للغرب وظلت تلازمه في عمق ذاته بل صنع ما صنع من تخيل حتى يكون الشرق ساحة استباحة كبرى لفرضية زمنية تفصل بين ماض تراجع مجده عن إنتاج التاريخ وسيادة جديدة عززها الغرب عبر آلية ترسم ملامح كونية قادتها ثورة صناعية وفكرية واقتصادية وسياسية هائلة في الغرب. وعن ثنائية التصادم بين العقل الاستشراقي وتاريخ الحضارة الإسلامية الذي ساد على حدود الغرب يقول المؤلف ( جثمت القرون الثمانية التي شهدت بقاء العرب المسلمين في شبه جزيرة ايبيريا على الذاكرة الجماعية الغربية بشكل مؤلم : فهي تذكير مستديم بتخلف أوروبا العصر الوسيط وهاجس وسواسي لما تكمن عليه الحضارة العربية- الإسلامية من طاقات خزينة مستقبلية، فعبر تاريخها برمته لم تتعرض أوروبا لسيطرة أجنبية بمثل هذا التواصل الزمني غير المنقطع والتفوق الحضاري الواضح كما لم تشعر بالهوان والتراجع مثلما عاشته إزاء ثقافة دخيلة عليها علمتها ما ضاع منها من علوم القدماء وزادتها مما أبدعه العقل العربي والمسلم. وعلى الرغم من أن الوجود العربي في اسبانيا المسلمة - كما يحلو للكتاب الغربيين تسمية الأندلس- لم يحط بما يكفي من الرصد والبحث فإن آراء واشنطن ارفنع في هذا الحقل لم تنل الكفاية من الدراسة والتقصي في الغرب والشرق على حد سواء برغم شجاعتها وتفردها وحساسية ما تنطوي عليه من دلالات. لذا يتوجب على المؤرخ والباحث المعاصر أن يحلل هذه الآراء ذلك أن إهمالها والتمادي في التوجس منها لا يخدم ثقافتنا المعاصرة البتة. نفترض هنا بدءاً أن ارفنغ تمكن من أن يبلغ خلاصاته حول اسبانيا المسلمة نتيجة لدافع وطني أمريكي ، دافع يرنو إلى تأسيس هوية قومية للولايات المتحدة الأمريكية وهي هوية تستقي خصوصيتها من الاختلاف المفترض عن العالم القديم متمثلاً بالشرق و أوروبا سوية. على سبيل تأسيس العالم الجديد في أراضي القارة الجديدة هنا تتجسد أهمية الأندلس إذ أن الأسطورة الأمريكية المؤسسة على فكرة ولادة إنسان جديد على ارض قارة جديدة لا تريد أن تفك تواشجها بالعالم القديم لأنها تتأمل في أن تكون وريثة مستقبله). القيمة الفكرية التي يطرحها عليها الكتاب ما يقدم من قراءات تاريخها لفكر الاستشراق من الحقب السابقة حتى العصر الحديث وما رافق ذلك من تحولات وتبدل في العقليات والتصور وتغير مراكز القوى عند صناع القرار في الغرب. فإن كانت مراحل الماضي في الاستشراق قد عجزت عن خلق رؤية واضحة حول العالم الإسلامي في التصور الغربي فإن التقادم في الانفتاح على الشرق الذي جاء مع سرعة حركة التاريخ والتطور العلمي في مجالات التواصل مع الشعوب قد غير العديد من تلك المسلمات الفكرية في عمل الاستشراق و أوضح للغرب أن الشرق ليس هو صوراً تصنعها المخيلة بل هو حضارة وتاريخ وكونية لا يمكن تجاوزها أو رفضها فهو الجزء الآخر من معادلة الوجود الإنساني والقادر على استعادة دوره في إعادة إنتاج المعرفة، وفي هذا يجب أن تعاد صياغة جديدة من المعارف حتى يكون التاريخ الإسلامي في دائرة الموضوعية التي تعيد ترسيم الحوار بين الشرق والغرب.