المؤرخ حمزة علي لقمان
صدرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب عام 1960م في القاهرة عن دار مصر للطباعة ولم تعد طباعته إلا في عام 2008م عن دار جامعة عدن للطباعة والنشر، وتلك المراحل من السنوات التي أغفلت إعادة طباعته تدل على قصور وخلل في الذاكرة الثقافية فرضتها سياسات وعقليات اعتقدت أن التاريخ صناعة فردية، ولم تدرك أن التاريخ هو هوية أمة وأحداث حضارية تصبح الفردية أمامه أصغر من أن تصل إلى مستوى وعي الذاكرة.يعد هذا أول كتاب تاريخ يصدره الأستاذ حمزة علي لقمان، وكان قبل ذلك قد اصدر كتاباً عن مطبعة فتاة الجزيرة عنوانه (من صميم الحياة) عام 1947م، ومسرحية (ليلة العيد) طبعة في مصر دون ذكر تاريخها، ثم نشر عدة مقالات في صحف عدن المختلفة معظمها لها صلة بالمواضيع التاريخية المتصلة بعدن.تلك المواضيع شكلت المهاد الأول لما سطره الأستاذ حمزة علي لقمان في هذا الكتاب، تاريخ عدن في مختلف العصور، ويأتي هذا الكتاب كمرحلة جديدة في أعماله البحثية التي أخرجت عدة مؤلفات في هذا الاتجاه.تقول الدكتورة أسماء أحمد الريمي التي كتبت تقديماً للكتاب: (من لافتات المؤلف أي الكتاب انه يمكن الباحث المعاصر من دراسة تاريخ عدن خاصة عبر حقبتي السبئيين والحميريين، وهذا في اعتقادي ما لم يطرقه باحث معاصر قبله، وهذا مما دفعني كسبب لاختياري هذا الكتاب على أن هناك وازعاً آخر يتعلق بالتركيب الديمغرافي لسكان عدن قديماً وحديثاً، وهو أول من طرق هذا الموضوع وفيه مجال لأي باحث مستجد يدرس عن عدن وجنوب الجزيرة العربية.ميزة أخرى للكتاب تجلت بين صفحات 253 إلى 328 وعبرها يتناول المؤلف الموقع الفلكي لعدن وجبالها وما إلى ذلك من أحوال الجغرافيا.كما يتناول صهاريجها وأن الرحالة العرب لم يذكروا شيئاً وافياً عنها ويصل إلى مساجد عدن التي كما حددها بأكثر من 13 مسجداً وخاصة المنارة وهذا أيضاً يصب في تناول الباحثين المستجدين سواء في قديم عدن أم وسيطها الإسلامي أم حديثها ومعاصرها).أما الكاتب فيقول في مقدمة كتابه : (أن تاريخ عدن وجنوب الجزيرة العربية هو جزء من تاريخ اليمن التي تألفت في العصور الماضية من رقعة من الأرض شملت اليمن بحدودها السياسية الحاضرة ودول الجنوب وعدن وحضرموت ومسقط وعمان.وهذا الكتاب يبحث في تاريخ هذه الرقعة كلها، إلا إنني خصصت القسم الأكبر منه لعدن ودول جنوب الجزيرة لسبب وجيه هو افتقار أبناء هذه النواحي إلى معرفة تاريخ الأرض التي يعيشون فيها والأجداد الذين ينتمون إليهم، فلقد وجدت الكثيرين ملمين بتاريخ أوروبا والإمبراطورية البريطانية والهند والفراعنة والإغريق والرومان، ولا يكادون يعرفون شيئاً عن معين وسبأ وحمير وقتبان وحضرموت والدولة الإسلامية التي ظهرت في هذا الجنوب.هذه الرؤية في مقدمة الكاتب تدل على أن الكتابة هنا هي فعل حضاري، محاولة تخلق الاتصال بين الذات والهوية عبر معرفة التاريخ.ومستوى مثل هذا في الكتابة لا يأتي إلا بعد قراءات متعددة في هذا الموضوع الذي يشكل الدخول في عالمه رحلة عبر أسفار ومراجع وأدبيات صنعتها عقول من خلال حقب زمنية تمتد في عمق المكان كلما ذهب الفكر في معرفته إلى أوسع حدود الاتصال مع عدن وما كان منها في الأحداث، ومع التاريخ وما دون منه في الكتابات الراحلة مع في الحدود الجغرافية إلى إطراف أوسع, ومابين نقطة الانطلاق ومدار العودة نعيد التعرف إلى مسارات من الماضي حيث كانت الحكاية في التاريخ أول من يصنع الذاكرة كي نحفظ ذكريات ما جرى.عن عدن يقول الأستاذ حمزة علي لقمان :(في خلال حكم السبئيين والحميريين ازدهرت الحياة في عدن وكانت ميناء تجارياً عظيم الأهمية لاستيراد البضائع من الهند وفارس وغيرهما ثم تصريفها إلى الحبشة ومصر والشام وفينيقيا.وأهم الطرق التجارية البرية كانت طريق صنعاء ـ مأرب ـ عدن، وطريق شبوة ـ عدن، وكانت العطور والبخور والأطياب والبهارات وغيرها تصل على ظهور الجمال إلى عدن إما للاستهلاك المحلي أو للتصدير إلى الخارج.والأثاث القديمة التي مازالت موجودة تدل على ما كانت تتمتع به عدن من عظمة ومجد ومدنية زاهرة وحياة رخية. وقد وجدت نقوش في كثير من نواحي عدن وبعضها وجدت على عمق عشرين قدماً في وسط عدن كما اكتشفت في تل الفراشين (طارشين) لوحات رخامية مكتوبة بالخط الحميري المسند. وتعتبر صهاريج عدن مثلاً رائعاً للفن المعماري في تلك القصور.ذكر الكابتن بليفير في كتابه (تاريخ اليمن أو العربية السعيدة) أن كل نقطة دفاعية وكل قمة جبل في عدن تتوجها بقايا قلعة يعود تاريخها إلى أيام بني حمير. وتمتد طريق قديمة من أسفل جبل العز (جبل شمسان) إلى أعلى قمة فيه تشبه الى حد كبير الطرق الحربية الرومانية الجبلية. ونقط الدفاع على الشواطئ العدنية تثبت مقدار ما كانت عليه تلك الأعمال الإنشائية من قوة).في كتاب يحمل عنوان (الإمبراطورية الرومانية وجنوب الجزيرة العربية) يوضح لنا الكاتب ما كان لعدن من أهمية في التجارة وصلتها مع الهند ومصر، وكيف تحول هذا الموقع إلى نقطة صراعات بين القوى الكبرى في تلك الحقبة، حيث اجتذبت هذه المدينة أنظار الرومان وهم في قمة مجدهم التاريخي، حيث كانت رغبة قيصر روما أغسطس التوسع في حكمه ورقعة الأرض التي يملكها وبعد احتلاله لمصر في عام 30 قبل الميلاد عزم على غزو الحبشة وبلاد العرب السعيدة. وبعد رحلة فيها الكثير من المتاعب استولوا على عدد من موانئ البحر الأحمر وعدن، ولكن عاد القائد الروماني اليوس بعد سنتين إلى بلاده بعد الكثير من المصاعب في هذه المناطق كان قد واجهها.وعبر تسلسل تاريخي يقدم لنا الأستاذ حمزة علي لقمان عدة أحداث مرت على عدن والمناطق المحيطة بها في هذا العمل ويوضح لنا جوانب من تاريخ هذه المدينة في الصراعات الدولية في القديم وحتى العصر الحديث، ومن المعلومات التي يقدمها الكاتب، وما ذكر حول جبل التعكر والذي يظن أن الداعي سبأ قبر في سفحه، ويعد احد جبال عدن المعروفة وقد ذكره صاحب تاج العروس بأنه احد جبال عدن إلى يسار القادم ومن الباب إلى المدينة .كما يطلق على هذا الجبل اسم سلسلة المنصوري.غير انه لا يعرف السبب في ذلك، غير أن الكاتب يظن أن هذا الاسم جاء بعد عدة محاولات لقبائل المنصوري لاحتلال عدن.وبسبب آخر قد يكون أطلق علي هذا الجبل اسم المنصوري بعد احتلال عدن من قبل السلطان المنصور عمر بن علي بن رسول مؤسس الدولة الرسولية وباني المدرسة المنصورية في عدن، كما يعرف باسم جبل حديد كما قيل عن وجود الجديد فيه.وفي عهد الزنجيلي ازدهرت هذه المدينة وأصبح لها شأن واسع ونشطت الحركة التجارية فيها وتكاثر عدد سكانها وكثرت العمارات فيها.كذلك سعى هذا الحاكم إلى جعل عدن قاعدة وسوقاً واسعة للبيع والشراء، كما أراد أن يحميها من أي غزو بحري أو بري فعمل على تجديد السور القديم الذي بني في أيام حكم بني زريع لعدن من جبل الخضراء إلى جبل حقات ولكن الأمواج القوية هدمته.وعن هذا الحاكم يقول الكاتب: (وأدار الزنجبيلي سوراً على سور ابتدأ به من حصن الخضراء إلى حصن التعكر على رؤوس الجبال، وأدار سوراً ثالثاً على الساحل من لخف جبل الخضراء إلى جبل حقات، وركب ستة أبواب على الأسوار هي: باب الصباغة، باب حومة، باب السيلة الذي يخرج منه السيل حيث نزول الأمطار، وعرف فيهما بعد باب مكسور لان السيل كان يكسره في كل دفعة.باب الفرضة، ومنه تدخل البضائع وتخرج باب مشرق الذي كان مفتوحاً للداخل وللخارج، وعرف باسم باب الساحل.باب حبق أو باب حيق، وعرف أيضا باسم باب السر لأنه ما كان يفتح الا عند المهم من الأمور.وبني الزنجبيلي الفرضة قبلي دار السعادة وجعل لها بابين: واحد إلى الساحل تدخل منه البضائع لإجراء دفع الرسوم عليها والآخر إلى المدينة تخرج منه البضائع بعد دفع الرسوم.وبني الزنجبيلي الأسواق والدكاكين وشق الطرق والأسواق المسقوفة التي كانت تعرف بالقيصارية وكانت مخصصة لبيع المواد الطبية.عندما يصل الأستاذ حمزة علي لقمان إلى تاريخ عدن في العصر الحديث وبالذات أهمية عدن في السياسة البريطانية يشير إلى أن الميجر جنرال الذي كان مقيماً بريطانيا ومعتمداً سياسياً في ميناء المخا، وقبل أن يلغي هذا المنصب في عام 1838م رفع تقريره إلى حكومته يوضح فيه أن عدن هي الميناء المهم والمناسب لخزن الفحم، وقد زار عدن في عام 1827م كي يتعرف على أوضاعها كما زار عاصمة لحج وتمكن من إقناع السلطان محسن بان يعرض ميناء عدن وكذلك قلعة صيرة على حكومة بريطانيا مقابل شروط مغرية، غير ان السير جون مالكوم لم يقبل هذا المقترح ورفض الفكرة فكتب باجنولد للسير جون قائلاً:(إنهم سوف يضطرون إلى التضحية بمئات الأنفس ومئات الألوف من الأموال ويعودون إلى عدن ويحاربون في سبيل بقعة كان سلطانها قد قبل أن يقدمها هدية لنا.وبعد دخول بريطانيا إلى عدن عام 1839م كتب الكابتن هنس عن الأحوال التي وصلت إليها هذه المدينة قائلاً: (لقد هبطت هذه القرية الصغيرة المسماة عدن التي كانت فيما مضى مدينة عظيمة، هبطت إلى عدن إلى أدنى مستوى من الفقر والإهمال.لقد كانت عدن في أيام الإمبراطور قسطنطين ذات شهرة لا مثيل لها في قوة التحصينات وفي ازدهار التجارة وفي سلامة الميناء الذي كانت تزوره السفن من كل أنحاء الدنيا، ولكن كم هو محزن هذا الفرق العظيم، فلم يعد يظهر من عدن غير علائم من غابر مجدها الفخم الرائع، وان السائح ليحتقر جشع تلك الدولة التي هبطت بعدن إلى هذا المستوى الواطئ المهين.ظل الموقع الجغرافي المهم جزءا من الأسباب التي ساعدت على الصراع على عدن، فهي تقع في الركن الجنوبي الغربي من جزيرة العرب، وهي شبه جزيرة من صخور بركانية يصل ارتفاعها في المتوسط إلى حوالي 1776م قدم فوق سطح البحر، أما طولها فيمتد إلى حوالي خمسة أميال من الشرق إلى الغرب، وثلاثة أميال من الشاطئ الشمالي إلى رأس عدن، وهي أبعد نقطة في الجنوب وهي متصلة بشبه الجزيرة العربية عبر امتداد بري عبارة عن أرض رملية.وقد أقيمت مدينة عدن على الشاطئ الشرقي لشبه الجزيرة في مكان يحتمل أنه فوهة بركان خامد تحيط به صخور شاهقة تكون حاجزاً طبيعياً عجيباً، ومن هنا تبدو عدن بين تلك السلسلة الجبلية آخذة بعضها ببعض من كل الجهات، إلا من ناحية البحر.ورأس عدن الداخلة في البحر عبارة عن بركان قديم ترتفع رأسه إلى 335 متراً فوق سطح البحر.وعن عدن القديمة يقول المؤرخ حمزة علي لقمان: (لقد كانت الميناء القديمة تقع في ساحل صيرة “الخليج الأمامي” وكانت المناطق المتاخمة للميناء وهي حافة القطيع وحافة العيدروس أكثر ازدحاماً بالسكان من غيرها من مناطق مدينة عدن وكانت تعرف في تلك الأيام باسم حرم الشوك، بسبب كثرة أشجار الشوك التي كانت تنمو في القطيع.وفي الصورة التي رسمها الضابط الفنان الفينيسي أثناء الحملة البرتغالية على عدن تظهر لنا مدينة عدن محاطة بسور عال يمتد من جبل الخضراء حتى جبل المنظر، ومن هناك على طول الساحل حتى جبل التعكر، ووراء السور تقع مدينة عدن وقد امتلأت بالمنازل والمساجد والمنارات العالية من جبل حقات إلى وادي الخساف ومن ساحل صيرة إلى وادي الطويلة. وأمام السور على الشاطئ ترى سفن الغزو البرتغالية وقوارب الصيادين وقد انتشرت على طول الشاطئ.وذكر لنا المؤرخ ابن المجاور أنه في سنة 1228م كان السكان يملؤون الفضاء من سفح جبل الخضراء طولاً وعرضاً.وكان سكان عدن خليطاً من العرب ويهود اليمن وقليلاً من التجار الهنود والمصريين، وفي أيام حكم بني أيوب وصل مئات من الجنود المصريين والغز والأكراد واستوطن بعضهم عدن).سوف يظل هذا الكتاب من المراجع التي تحكي للناس أحداث ومراحل من تاريخ عدن، هذه المدينة التي تعيد الفترات صياغة تكوينها تتغير الأشكال والمعالم وتظل هي مدينة البحر والتاريخ والحضارة، أما الإنسان فيها فهو عابر مثل الأحوال التي تتبدل مع تقلب الأزمنة .