الفن المشاغب الذي يحبه البعض
د. زينب حزامإننا حينما نتحدث عن الموسيقى، فإننا نتحدث في الحقيقة عن الفن المشاغب الذي يحبه البعض، ويحرمه الآخرون، ولا نستطيع هنا أن نزعم أن الموسيقى مرفوضة في مجتمعنا اليمني، ولكننا يمكننا القول إن مجتمعنا لجأ لا إلى المسدس مع الموسيقى المشاغبة - والحمد لله - وإنما لجأ إلى اللامبالاة، وأضاف إليها تلك الموهبة الفريدة، موهبة التظاهر بالاهتمام خاصة وأن موسيقى الفيديو كليب بدأت بالانتشار السريع.. ومن الذي ينكر أن عدة ملايين تتفق على الديكور والأزياء تذهب هباء من اجل الموسيقى الصاخبة وعدم التذوق الجمالي للكلمات الغنائية، مع العلم أن الموسيقى اليمنية الجادة في تاريخنا الموسيقي لم تنعزل عن واقع وقضايا الشعب، بل استطاعت إلى حد كبير أن تكون وقوداً فنياً في معركة ضد انتشار الفن الرخيص.إن الوجه الحقيقي للمسألة في تقديرنا هو: أن جهداً لا يبذل من أجل معرفة الأفضل من بين الموسيقيين القدماء والموسيقيين الجدد، والدعوة الجادة للحفاظ على المخطوطات الموسيقية المبعثرة هنا وهناك، والعديد منها يتعرض للتلف.. كيف يمكن الخروج من هذه الدائرة اللعينة، وماذا يفعل شاب ذو موهبة فنية، لا يعرف طرق أبواب المسؤولين، ومطاردة الملحنين والاستعداد لتقديم تنازلات لا تنتهي؟ ورغم أن ظروف الإنتاج الموسيقي في بلادنا كفيلة بأن تصرف المواهب الجديدة عن الموسيقى الجيدة والاهتمام بموسيقى الفيديو كليب، فإن عدداً من هؤلاء مازال يجتهد في تقديم أفضل ما لديه، وإذا لم يبادر المهتمون بالموسيقى الجيدة والفن الأصيل، باحتضان أعمالهم، فليس لهم إلا أن يلوذوا بالصمت، قانعين بالسخط واجترار المرارة..وفي مناسبة ثقافية فنية جليلة لا تتكرر كثيراً، كان من المفروض أن يسهم معظم الفنانين في الدعوة إلى توثيق المخطوطات الموسيقية والمحافظة على التراث الموسيقي وإصدار مجلة فنية تعنى بقضايا الفن والموسيقى والغناء، وقد تم العثور مؤخراً على عدد من المخطوطات الموسيقية التي تعد من التراث الموسيقي اليمني، وبعض هذه المخطوطات تتعرض للتلف والإهمال الشديد من قبل الجهات المعنية بالأمر، وتم الحفاظ على هذا الكنز الموسيقي عند بعض المهتمين بالموسيقى اليمنية، ومازالت الجهود متواصلة للبحث عن تلك المخطوطات الموسيقية، التي تضم العديد من المقطوعات الموسيقية التراثية التي قام الباحثون اليمنيون بتدوينها حتى لا تتعرض للتلف أو الضياع.أعد الباحث اليمني عامر عثمان مسؤول متحف الآلات الموسيقية اليمنية بالمركز الثقافي الصحي الذي يرأسه الدكتور نزار غانم بحثاً عن العود اليمني (القنبوس) تحدث فيه عن تاريخ هذه الآلة في نماذج مختلفة، مع تجديد زمن صناعتها والمواد المستخدمة في ذلك بعد أن شاهدنا عملية فصلها إلى جزأين فبدت لنا مقطعة الأوصال يسهل حملها وإخفاؤها عن الناظرين عندما يكون المطرب ملاحقاً بحجة تحريم الموسيقى والغناء.وفي عام 1992م نشرت صحيفة (الرأي) في صفحة نافذة الثقافة مقالاً في حلقات للدكتور نزار غانم بعنوان القنبوس الطربي يقول فيه : «... ليس غريباً أن تحتفظ اليمن حتى العقود الأولى من قرننا الواحد والعشرين الميلادي بعود رباعي الأوتار ليذكرنا بالمزهر.. وذلك العود الرباعي الأوتار الذي أدخل عليه أبو الحسن علي بن نافع الشهير بزرياب (توفي في 852م) الوتر الحاد إلى جانب الأوتار الأخرى للمزهر (الزير، المثنى، المثلث، البم)».هذه المخطوطات الموسيقية، إذاً، المتعلقة بالتراث الموسيقي اليمني، مسألة مثيرة حقاً.. والأمر لا يعني ببساطة التأكد من أن النسخ المنشورة تتوفر فيها قراءات صحيحة للنغمات والعلامات الموسيقية، هذا الأمر مهم بالطبع، غير أن جزءاً من المسألة هو أن فرض الأساليب الحديثة يمكن من فهم العملية الأخلاقية وتستطيع أن تدرك شيئاً من هذا عن طريق الحصول على صور طبق الأصل حيث وجدت وهي غالباً لا توجد، غير أنه لأغراض معينة ينبغي للمرء الرجوع إلى الأصل.وعلى سبيل المثال عند فحص الأوراق أو العلامات المائية، الحبر والريشة عن طريق استخدام الأشعة ما فوق البنفسجية وغيرها من الأساليب الخاصة بتحليل ما هو محذوف وغيره، غالباً ما يستطيع المختص بدراسة الموسيقى أن يحل مشكلة التتابع الذي يجري ضمنه العمل المؤلف وعلاقته بالأعمال الأخرى، وكيف تتطور الفكرة الموسيقية، وما هو الشيء الذي يهدف إليه المؤلف في حالة نشوء خلاف حول القراءة.وما يذكرنا أن علماً فرعياً يختص بدراسة كيفية رسم السلم الموسيقي قد نشأ هو أن الوصول إلى مقاييس دقيقة للسلالم الموسيقية يقدم دليلاً قوياً على تاريخ وضع المؤلف الموسيقي غير أنه ليس من الممكن بلوغ ذلك إلا عن طريق المخطوطات الأصلية إذ أن النسخ التي هي طبق الأصل يمكن أن يشوبها بعض التشويه.لذا نجد أن معظم المهتمين بالتراث الموسيقي والمخطوطات يهتمون بنشر بعض المؤلفات الموسيقية التي تم العثور على مخطوطاتها الأصلية في التراث اليمني وتدوينها وتعريف المختصين في هذا المجال على كل جديد وقديم يستفاد منه وتطويره ورفع الذوق الموسيقي لدى المستمع اليمني.ويقول الأستاذ إبراهيم راسم عن الأغاني اللحجية (إنها عبارة عن خانة) لا تتعدى عشر عقد، ويقصد بذلك أنها عبارة عن جملة لحنية مجموع عدد المازورات المكونة لها لا تتجاوز العشر، اعتمدت على أسلوب التكرار.ويضيف قائلاً : إلا أن سامعها لا يمل سماعها وهي تردد عشرات وعشرات المرات في مجلس واحد حتى أصبحت مسامعي لا تسمع سوى أغاني القمندان المرحة الشجية وأشعاره الرقيقة، وقد ساعدني حظي أيام وجودي في لحج معلماً لموسيقاها أن ألازم الأمير حفظه الله وأمتع نفسي بمنتجات تلك الروح الساحرة.ويقول الباحث اليمني والموسيقار عبدالقادر قائد الذي قام بإعداد كتاب (من الغناء اليمني.. قراءة موسيقية): أكثر الحديث في الآونة الأخيرة عن أهمية البحث عن تراثنا الفني نغماً وإيقاعاً بألوانه المختلفة وجمعه وتحليله والعمل على توثيقه بالنوتة الموسيقية ولأنني واحد من الذين نالوا قدراً من التعليم الموسيقي المبني على أسس علمية فقد وجب علي العمل في هذا المجال، والبدء بجمع الكثير من أغانينا اليمنية بأصوات كثير من أساطين الطرب في بلادنا والاعتماد على الأصالة في تنفيذ هذه المهمة وهي مسؤولية كبيرة تقضي بتوخي الحرص والدقة في ترجمة الألحان الغنائية بإيقاعاتها المختلفة بالنوتة الموسيقية وتوصيلها إلى يد القارئ بكل أمانة.ويقول الشاعر اليمني صالح علي الحامد في أغنيته المشهورة (زهرة الحسن) من لحن شيخ البار الدوعني:قف معي تنشد جمالاًيملأً القلب ازدهاءأي زهر أي ثبتأنبت الروض المريععجباً في الزهر ألوانكما الفنان شاءظهرت شتى وهذيزهرة فيها الجميعغادة كالبدر حسناًواكتمالاً وسناءزهرة للحسن رفتبين أزهار الربيعرفعت ذيلاً وهمتتختفي عناء حياءعلق الغض بهالاتستوي الحسن البديعواتركي الشاعر يسديكغناء.. وثناءذمة للحسن عند الشعرحاشا أن تضيعوفي هذه الأغنية الحضرمية (زهرة الحسن) يجد المستمع لها الإيقاع الشائع في محافظة حضرموت بالعوادي (فلاني) وكلمة فلاني تعني التأني والثقل ولا تزيد سرعته بقياس جهاز المتروتوم عن 92 ضربة في الدقيقة، أما إذا زادت هذه السرعة على هذا القياس فإنه يسمى بإيقاع العوادي الخيالي وكلمة خيالي تعني النشاط والحركة والسرعة في الأداء، الساحلي الشحري هذا الإيقاع لا يختلف كثيراً في تركيب ميزانه وحركاته الداخلية عن الإيقاع المعروف في لحج بالشرح اللحجي الثقيل (سلطاني).إن مسألة التراث الموسيقي اليمني، كما يبدو مسألة محيرة تحتاج إلى المزيد من الجهود في البحث خاصة وأننا قد عدنا من جديد إلى عهد تحريم الموسيقى والغناء، كما كان سائداً في عهد الإمامة.. أن تطور الحركة الموسيقية في بلادنا خاصة في عدن في فترة الخمسينات من القرن الماضي، ساعد على الانفتاح الثقافي والفني، وأصبحت مسألة التراث الموسيقي معقدة عند البعض.. قسم تصور أننا سننقل التراث نقلاً آلياً وآخر تنكر.وأنا أقول ان التراث يحتاج إلى فهم.. ورؤية ناضجة.. والتراث عندي كمستمعة ومتذوقة للموسيقى روح تغذي العمل المحاصر وتمده بكل أسباب القوة والديمومة.وأنني هنا أنادي بإبراز المعاهد الموسيقية اليمنية، ودعمها، والعودة الجادة إلى توثيق التراث الموسيقي والغنائي ودعم الباحثين في هذا المجال حتى نتمكن من الحفاظ على التراث الفني، بالإضافة الفنية التي هي روح الفنان المبدع.