الفنان محمد محسن عطروش1 - 2
كتب / حسين محمد ناصر يؤلف كلمات أغانيه من وحي بيئة فلاحيه جماهيرية وخيال شعبي واسع وعمق رؤية متنوع اللفظ والدلالة ومتفاعل مع أحداث وطنه وتطلعات ناسه وهمومهم ، عبر عنها في أعمال خالدة لامست الطموحات والواقع المعاش والأنين المكبوت ففجرته في مواقف شجاعة وإصرار تغيير لا يعرف التراجع! نعم هو فنان ومثقف يعي ما يكتب ويقول .. ويبحر في علوم مختلفة نقاشاً ورأياً ويعرض تجارب عمر مليئة بالدروس والعبر السعيدة والحزينة. غنى للعامل .. للفلاح .. للصياد .. للطالب.. للجندي .. للمراة.. للجمال .. للبحر.. للزرع.. للطير.. لكل مجالات الحياة. في سنوات الكفاح المسلح كان العطروش سباقاً لأداء الواجب الوطني عبر الأغنية ، فجاءت أغنيات تشبه كتابة تاريخ واقرب إلى توثيق ثورة وكفاح ، جاءت ( برع يا استعمار) و( ابن الجنوب) و( يالحج ياضالع) و( انا الشعب) فكانت من معالم الأغنية الوطنية ومنارات التحرير وبعد الاستقلال تواصلت أعماله فكانت ( الاستقلال) و( يا شباب) و( بوس التراب) و( 26 سبتمبر) و( الشعب يطلب حساب) و( شاةالبلد) و(حان الوفاء) و( الجيش) وغنى للأرض والمجتمع وفئاته: ( الجمال و( أبو منصور) و( هيب هيبه) و( صباح الخير) و( بنا جيب خيره) و( ذي سرحوا البوش) و( سبولة) وغيرها من الأغنيات التي سكنت وجدان الشعب وكانت الوحدة مغروسة في أعماله الوطنية كلها. كنا صغاراً .. حينما كان العطروش يجوب ساحات الوطن جنوبه وشماله محرضاً على الثورة ضد الاستعمار والحكم الامامي ، وحتى بعد عودته من القاهرة كانت فرص حضور حفلاته ضعيفة بالنسبة لنا وكثير من الحفلات التي كان يحييها لاتتم الا بعد صعوبات عدة، أبرزها مضايقة السلطات له وتضييق الخناق حوله كي تحول بينه وبين الجماهير المحبة لفنه لما كان يسرب في برنامج حفلاته من أغان وطنية تحريضية وإن البسها رداء موضوعياً ورغم هذه المضايقات كان جمهور حفلات العطروش كبيراً جداً. التقيته لأول مرة في زنجبار بعد ان دعاني عصر ذات يوم إلى منزل الوالد المرحوم ( حسن الكيلة) إثر مقال كتبته استعرض فية واقع الحركة الفنية في أبين وورد فيه اسمه ، ثم تكررت اللقاءات وكان يحرص على تزويدي في كل لقاء بمجموعة من الكتب والمجلات التي يحضرها معه من عدن وكان أخر اللقاءات لقاء تصالحياً في منزل الصديق فهد حاتم بمعية الفنان عوض احمد. عطروش شخصية مثقفة مهيبة يفرض حضوره على الجميع بحديثة الدال على ثقافة متنوعة مختلطة بتجربة سياسية وثقافية واجتماعية وفنية مليئة بالعطاء والعناء والكفاح والصبر والإصرار على تحقيق الأهداف نظراته الحادة والمركزة وصمته المليء بالتفكير والتحفز وكلماته المتقطعة في الحديث منتقياً ما هو دال على المعنى المراد قوله وإبرازه وفي ما هو حاد من ذلك المعنى تجد صوته مرتفعاً لحظة النطق بتلك الكلمات في مسار يصور المشهد ويبرز مضمون العبارة. [c1]بوس التراب [/c]سألته في إحدى اللقاءات ما هي الكلمات التي قلتها ولا تزل كامنة في ذهنك حتى اليوم؟! قال بعد تفكير طويل : الكثير من الكلمات ! ولكنني قلت في أغنية ( بوس التراب) سبع كلمات لم أتصور أنها بمثابة تنبؤ لم أتنبه له في البدء ولم أكن قد قرأت انه يمثل قاعدة مؤكدة في قضايا الأوطان. قلت : ماهي ؟! قال : في اغنية ( بوس التراب) قلت في مقطع منها هذه العبارة ( شوف البناء اصعب كثير من كل بنيان) ! في تلك الفترة كانت المهمة والهدف الاني للنضال هو ( التحرر من الاستعمار) وهي مهمة وهدف كبير وشاق الوصول اليه ويعتبر في نظر الناس الغاية والمقصد من النضال المسلح والتضحيات وسقوط الشهداء نعم .. كان يعتبر آنذاك في اعتقاد الكثيرين انه كل شيء.وجاءت اغنية ( بوس التراب) ..؟. وتوالت كلماتها .. كلمة .. كلمة.. ولا اعلم كيف جاءت هذه العبارة في سياق الاغنية لتشكل بعد كل سنوات الصراع حقيقة بارزة ليس في الوطن ولكن في كل اوطان الدنيا؟ نعم بناء الانسان .. بناء الوطن.. هو اصعب من كل بناء.. فكم من الشعوب بنت بلدانها .. وكم منها دمرتها بالصراعات والحروب والفتن .. ويظل البناء دائماً وفي كل حين هو الاصعب ! .. صعب المنال والتتويج الحقيقي للنضال الدامي السامي!!. [c1]ينتقي الكلمات [/c]عطروش ينتقي الكلمات بدقة .. ويدرك أين يجب أن يكون موقع كل منها في إطار قصيدة وطنية هنا و موضوعية هناك .. ولا يحبذ أن يقوم احد بتغير أي منها مهما كان الأمر. أتذكر انه قام بصب غضبه علي في مقابلة صحفية نشرتها صحيفة ( 22 مايو) وأجراها معه كل من الزميلين عبدالحكيم عبيد وفيصل الصوفي وذلك بسبب محاولتي إقناعه باستبدال اسم ( ريجان) واسم ( أمريكا) من أغنية ( بيروت) لتقدمها فرقة أبين من جديد وتسجلها في تلفزيون ( عدن) وكان ذاك أثناء الحرب الأخيرة في لبنان. بالتأكيد كان طلبي لفن العطروش لا ينبع من موقف كراهية أو حب لريجان وأمريكا ولكن الأمر يرتبط بأغنية يراد تسجيلها عبر تلفزيون رسمي وليست أغنية يمكن تقديمها في مخدرة أو حتى حفلة التلفزيون جهاز رسمي والأغنية أداة تحريضية .. يمكن أن يرى تأثيرها عبر رد فعل من هذا و ذاك يضر بمصالح الوطن او الآخرين والمبرر سيكون انها قدمت في تلفزيون رسمي والتلفزيون والأغنية أشبه بمحرض يدعو الناس إلى فعل شيء ما خاصة وأن الأغنية مليئة بالكلمات الحماسية التي يجيد تأليفها عطروش أكثر من أي فنان آخر ، وللحديث عن دور التلفزيون والأغنية الوطنية مقال آخر.* قلت له : ما رأيك أستاذ محمد أن تستبدل أو ربما قلت تستبدل اسم ريجان وأمريكا بكلمتين جديدتين ؟! قال : لا اسمح لك بذلك تريدون أن ( تورثوني) وأنا مازلت حياً ؟؟!. وبمجرد أن قال لي ذلك صرفت النظر عن هذا الموضوع وانتهى الأمر بالنسبة لي وجاءت المقابلة الصحفية بعد ذلك وقال انه سيذهب بي إلى المحكمة أن أنا قمت بأي تغيير في الأغنية. طبعاً من حق العطروش الفنان الواعي والمثقف أن يحمي أغانيه من أي تدخل من أي كان ومن حقه هو فقط أن يشطب أو يضيف إليها ما يشاء ولم تؤثر هذه الواقعة في العلاقة معه وإن كانت اليوم ليست كما كانت بالأمس فلم يعد الاتصال مستمراً بيننا إلا فيما ندر وبين حين طويل من الزمن وآخر إنما مكانته عندي لاتزال كبيرة وعالية فمثله يستحيل أن يتلاشى ويذوب وينسى كيف ينسى وأغنياته تسكن وجداننا وعقولنا وقلوبنا واسمه يزين سماء الوطن والفن اليمني والخليجي والعربي واعد القارئ بلقاء صحفي مطول مع أستاذنا العطروش في أول فرصة سانحة. [c1]غنى لبيروت والوطن العربي [/c]ولم تمر فترة طويلة حتى زار عطروش أبين مشاركاً في ندوة ثقافية فنية نفذها مكتب الثقافة بمشاركة عدد من المثقفين والفنانين المعروفين وأخذته بالسيارة إلى مدينة جعار وفي طريق العودة إلى زنجبار تحدث كثيراً عن قضايا فنية عدة جمعت حديثه في لقاء صحفي نشر في صحيفة ( الثقافية ) ومن ضمن الأسئلة التي وجهتها إليه سؤال عن سبب صمته إزاء ما يدور في بيروت من حرب بين إسرائيل وحزب الله في حين أن فنانين قدموا مساهماتهم في التعبير عن ذلك الحدث وجاء رده ليكون عنواناً رئيسياً من عناوين ذلك اللقاء وكان (غنيت لبيروت وعاد الفنانين الخليجيين نيام! .وكانت إجابة صادقة فعلاً ، فلم يغن العطروش للبنان فقط ولكنه غنى منذ زمن بعيد لكل الوطن العربي والوحدة العربية وثوار العالم. [c1]صوت في رومانيا [/c]قال لي صديقي فهد حاتم بعد عودته من رومانيا مكملاً دراسته هناك : كنا مجموعة من الطلاب اليمنيين في إحدى الحفلات التي أقيمت في المدينة التي تحتضن الجامعة التي ندرس فيها وكانت مكبرات الصوت تضج بأغنيات رومانية مختلفة نفهم بعضها ولا نستوعب بعضها الآخر وحدث أن احد الزملاء من أبين وصله ( كاسيت) يحمل أغنيات العطروش ووضعه في جيبه وجاء إلى الحفل منفرداً ولم نكن نعلم بحضوره وبعد مرور نصف ساعة من سماع تلك الأغنيات الرومانية إذا بمكبرات الصوت تفاجئنا بما لم نكن نتوقعه على الإطلاق!! جاء صوت العطروش عبرها ليهز المكان .. ويفجر مشاعر حب الوطن والانتماء في نفوس أبناء اليمن الحاضرين.. ويحولها إلى رقصات شعبية جاء صوته يقول: بنا جاب خيره وحسان سال حطوب سيلوه يا بخت الرعيه يا بخت الرعيان. ولك أن تتخيل أن تكون مشغولاً بحديث مع زملائك وأذنك تلتقط أغنيات أجنبية لا تنتبه إليها وفجأة تسمع عبر السماعات صوتاً مألوفاً ومحفوراً في القلب والوجدان يقول( حطوب سيلوه) ! لقد انتفض الجميع وراح يرقص من القلب رقصاً فريداً وسط نظرات وذهول ودهشة الرومان الحاضرين وكانت ليلة عطروشية يمنية في رومانيا بامتياز!! [c1]مؤرخ فني [/c]لقد كان الفنان محمد محسن عطروش فناناً سريعاً في التقاط الحدث وعميق العطاء والتعبير عنه وخلال الفترة من 69 وحتى عام 90 كان المؤرخ الفني لأحداث الشطر الجنوبي حيث لا تكاد تظهر تباشير حدث ما و يكون العطروش قد اعد له التغطية الفنية المناسبة ففي مناسبات الجيش برزت أغنية ( الجيش) ونالت شهرة واسعة جداً في المجتمع. [c1]باسم الوطن سهله ووديانه باسمه بردفانه وشمسانه باسمه بشيبانه وشبانه وبالجيش ذي حارب على شانه يا جيش من أهلي ومن خوتي يا موت والله لمن نوى موتي يا جيش يا سامع نداء صوتي ما يقتل إلا من كمل يومه [/c]وفي الأغنية الوطنية بشكل عام كان العطروش هو الفارس الحاضر دوماً وكان يتميز بسخاء في إنتاج الكلمة الثورية المحرضة أن لم تكن بصوته فبأصوات كثير من الفنانين الذين كانوا يستعدون عند كل حدث لاستقبال وأداء أعمال وطنية عطروشية ومهما حاول بعضهم أن يقدمها بنوع في طابعها العام. ويحدث احياناً أن يقدم عطروش عملاً فنياً للتعبير عن مناسبة ما فتكثر التأويلات والتفسيرات من المشاهد والمتابع الفني لمضمون ذلك العمل ومن يرمي إليه وحدث ذلك بشكل ملحوظ مع أغنية ( شاه البلد) و( القافلة) وبالنسبة لهذه الأخيرة فقد حضرت حفلاً فنياً كان فارسه العطروش وأصر العطروش على أن يقدم فيه ( القافلة) وفعلاً صاحبته فرقة أبين في العزف وقدمها كأحسن ما يكون لأداء كان منسجماً إلى حد التوحد والسكون في كل حرف ينطق به مغمض العينين عند الأداء وخاصة في بعض المقاطع أما ظهوره على الجمهور فقد آثار الدهشة والإعجاب ظهر لابساً الجنبيه والكوت والفوطة التي ربطها جيداً وسط جسمه والعمامة الابينية التي نسيها الناس منذ زمن طويل وغنى العطروش كما لم يغن من قبل ولم أشاهده يؤدي عملاً من أعماله بنفس هذا الأداء والتميز والإبداع وبعد انتهاء الحفل تهامس بعض المسؤولين الحاضرين : وقال لي احدهم: [c1]لا نعلم هل غنى العطروش لنا أم علينا ![/c] كانت كلمات ( القافلة ) راقية وعميقة الدلالة والتعبير والرمزية وهناك الكثير من الأغنيات الوطنية محفوظة في مكتبة تلفزيون القناة الثانية ( عدن) لا تزال صالحة للعرض وتغطي كل المناسبات الوطنية كما أن بعضها يصب في إطار الجانب الموضوعي ولا نعلم لماذا يخشى مسؤولو القناة من تقديمها ، رغم أن الجميع يدرك أنها قيلت وولدت في زمن وظروف أخرى لا علاقة لها بالحاضر وأحداثه هناك ( أكتوبر والإنسان) و ( 26 سبتمبر و14 أكتوبر) و( ياشباب) و( من شدة الحمال) و( بوس التراب) و( البتول) و( الجيش) ومن المهم أن يشكل رئيس القناة لجنة لسماع كل الأغنيات الوطنية ليس الخاصة بالعطروش فقط ولكن لكل زملائه وذلك لتقديم ما هو مناسب ويكتسب صلاحية فنية للعرض عبر الشاشة وعبر الإذاعة الصوتية . [c1]مع الزيدي وأحمد قاسم [/c]قال لي الفنان محمد علي سعد عازف العود الذي صاحب العطروش في اغلب أغنياته المسجلة في إذاعة عدن وتلفزيونها منذ الستينيات عن ميلاد أغنية ( أكتوبر والإنسان) أنهم كانوا في قاعة التسجيل بالإذاعة يستعدون لتسجيلها ولان الأغنية تبدأ بآلة ( الدرامس) بحث العطروش عن عازف هذه الآلة فلم يجده : ولم ينتبه انه كان غائباً ووقعت الفرقة والعطروش أمام مشكلة فنية حيث لم يكن احد من أعضائها الحاضرين يجيد العزف على هذه الآلة ووسط لحظات الحيرة والإحباط : إذا بالفنان الكبير محمد عبده زيدي يدخل استديو التسجيل ويسأل عن سبب عدم بدء التسجيل فأجابوه وهنا توجه الزيدي إلى مكان آلة الدرامس وقال لعطروش : ابدا البروفة لمرة واحدة فقط : أنا سأعزف على الدرامس وبعد دقائق فقط أوقفت البروفة وبدأ التسجيل فقد استوعب الزيدي ما يريده العطروش من الدرامس وجسد بذلك الروح الفنية الجميلة والعلاقة الحسنة التي ينبغي أن تسود بين زملاء المهنة وعلى هذا المنوال طلب الفنان الكبير احمد قاسم من العطروش كلمات أغنية وطنية يؤديها القاسم في إحدى المناسبات فكانت الأغنية التي كانت تهل على مسامعنا بين حين وأخر ( يافجر يا إنسان يا مصانع) إلا أنها هي الأخرى لم تعد تذاع اليوم دونما سبب!! ..