قصة قصيرة
كمال شرف على مكتبه الخشبي كان يضع أوراقه المليئة بالمعادلات الحسابية ليخط بقلمه الصامت خطوطاً آلية كررها مراراً ويكررها اليوم بنفس الطريقة وفي نفس المكان.. كان ساكناً هادئاً بل هو الهدوء نفسه، و كأنه أصبح يتحرك ضمن معادلة حسابية لا فرار منها محاصر بجمود ينتشر ويتكرر في كل جزء منه كما يتكرر في كل أرجاء مكتبه..رن هاتفه محاولاً بضوضائه أن يكسر جموده ويحرك يده بعيداً عن أوراقه المتراصة فوق بعضها الخالدة في سبات عميق يدفنها.حرك يده متكاسلاً وكأن الرنين لا يعنيه ليمسك بسماعة الهاتف ويضعها على أذنيه ببرود ناطقا بحروف متحجرة :- ألو.. بينما رد صوت ناعم ينبض بالحياة في كل حرف ينطق به:- مرحباً .أحدث الصوت الناعم شرخاً في الأحجار التي يكون منها حروفه لتخرج من فمه مفككة مشتته: أهلاً.. ردت عليه بحروفها الوردية المزهرة التي تغشيها رقة تنشر الحياة في أجزاء جسمه كله : هل هذه عيادة الدكتور محمد. - لا، ولكن العيادة في الشقة المقابلة لمكتبي . صمتت، وصمت هو لكنه كان يصرخ في داخله متسائلاً .. أهي صادقة أم أنها تختلق الأعذار ..صحيح أن هناك تشابها كبيراً بين رقمي ورقم الدكتور محمود ..ولكن لعلها من بنات هذه الأيام تبحث عن شخص تخرج معه وتحصل منه على المال مقابل وقت تقضيه على الفراش.!!بدا مقتنعاً خاصة أنها لم تقفل السماعة بعد ، وما زالت صامتة لا يسمع سوى أنفاسها الهادئة تصطدم بسماعتها لتخلق في عقله اهتزازات غريبة لم يحس بها من قبل .أخيراً نطقت : - هل من الممكن أن تسدي لي خدمة ...- بكل سرور ... قالها وهو يؤكد لنفسه أنها كما تخيلها !- هل تستطيع أن تعطيني رقم هاتف الدكتور، فأنا بحاجة إليه (وقالت بحرقة) والدتي مريضة وتحتاجه بسرعة ، ويبدو أنني نسيت رقم هاتفه..أحس بصدق مشاعرها، فوقف من كرسيه العتيق ليقول لها ، وفي صوته نبرة الفارس الهمام :- سوف أعطيك رقمه...حينها نطق بأرقام الهاتف، لتصل إليها أرقاماً حية كلها مشاعر وصدق. وكانت أول مرة يحس أن للأرقام مشاعر وأحاسيس .أجابته :- شكراً لك يا أخي ...أقفلت السماعة لكنه وقف متسمراً في مكانه بين يديه سماعة الهاتف ، يحتضنها في صدره كأنها طفل رضيع يخاف سقوطه من يديه. أخيراً ارتمى على كرسيه والسماعة ما تزال بين أحضانه .. ليتمتم قائلاً : - كم كان صوتها جميلاً.أعاد السماعة إلى مكانها .. ونظره يحدق بها، يراقبها وينتظر رنيناً آخر .. يعيده إلى الحياة.