مع النجوم
حلقات يكتبها : حسين محمد ناصر كتبت عنه الكثير .. وما يزال هناك الكثير مما ينبغي أن يكتب عنه. قلت في مقال سابق نشر ذات يوم وهو في قمة صحته وعطاءاته إن أغنية ( مستحيل) هي من جمع بيني وبينه .. وهي من عرفتني إليه عن كثب وعرفتني به أيضاً .. أما حكايتها فتعود إلى بداية السبعينات عندما جاء فيصل إلى جعار ليحيي إحدى الحفلات الشعبية (المخادر) بالقرب من دكان (صالح سيف) المقابل لمنزل المرحوم (علي محسن الفقير) وفي تلك (المخدرة) كنت وزميلي وصديقي (شداد علي ماطر) أطال الله بعمره وذكره بالخير نستمع إليه وهو يطرب الحاضرين بأغنياته الجميلة ونغمات عوده المصاحبة لرقصاتهم وكان أن غنى اغنية ( مستحيل) وفي المقطع الذي يقول فيه (ذي الحقيقة من صحيح) بدأت علاقتي به. كان فيصل يقول مردداً النص الأصلي لكلمات الأغنية مايلي: - ذي الحقيقة من صحيح - قط ما فيها قبيح ولا أدري ما الذي جعلني لا استسيغ عبارة ( قط ما فيها قبيح ) ومباشرة قلت لشداد هذه الكلمات الأربع اضعفت النص الجميل للاغنية ، حيث انها تستفز ذوق المستمع وانسياب اعجابه ببقية الكلمات فلفظ القبح لا ينبغي أن يكون جزءاً من كلمات الاغنية وتوجهت الى دكان ( صالح سيف) وطلبت ورقة بياض واستعرت قلماً لاكتب لفيصل هذه الرسالة (الفنان فيصل علوي .. اقترح استبدال ( قط ما فيها قبيح) بـ ( قلتها كلمة صريح) تمشياً مع النسق الجميل للكلمات .. ثم ارجو أن تجيب على الاسئلة المرفقة لنشرها في صحيفة 14 اكتوبر) وبعثنا الرسالة اليه بواسطة احد الشباب وفعلاً قرأ فيصل الرسالة ومنذ ذلك اليوم دخلت هذه الاضافة بنص كلمات اغنية ( المستحيل) ولم تمر سوى عدة ايام حتى وصلتني اجابات فيصل وتم نشرها في صحيفة (14 اكتوبر) بعد التباس حدث مع الاستاذ العزيز الزميل ( عبدالعزيز مقبل) الذي طلب مني كمراسل للصحيفة في أبين أن اهتم كثيراً بالشأن الزراعي فيها والتقليل من المساهمات الفنية بحكم ميزة محافظة أبين الزراعية والسمكية ونشرت المقابلة الصحيفة تحت عنوان : - مع الفنان الذي قال يا حامل الفأس لك ادوار في الساحات ! وفي اللقاء استعرض فيصل حياته الفنية حتى تاريخ نشر المقابلة وقد يستغرب القارئ أن عدد اغنيات فيصل عندئذ بلغت (70) اغنية فقط بينما هي اليوم بالمئات!!.زارني مرة في أحد فنادق العاصمة صنعاء بعد اجرائي عملية قسطرة لملقلب ، ووجد عندي الزميل الاستاذ الكبير ( عبدالله ناصر ناجي) وشكل معه صوتاً حنوناً لاقناعي بحتمية التغلب على المرض، وراحا يشرحان لي حالات كثير ممن عرفوهم مصابين بمرض القلب ، والغريب فعلاً انهما اصيبا بعدي به ! ولا يزال استاذي عبدالله ناصر ناجي يتعالج من هذا الداء وادعو الله أن يشفيه ويمنحه الصحة والعافية واصر الاستاذ (عبدالله) على أن نقوم بجولة في ميدان التحرير بصنعاء وعند ساحتها المشهورة اخذنا صورة للذكرى الى جانب احد الاحصنة التي تستخدم لهذا الغرض بعد اعتلاء صهوته من قبل طالبي الصور وعندما عدت معه الى غرفته في الفندق رأيت الادوية تتناثر فيها بدون ترتيب وكان لايهتم بالانضباط في اوقات تناولها .اخرج عدة اقراص من علبة بجانبه ورمى بها في فمه قائلاً : هذه الحبوب حق السكر ياحسين ثم اخرج جهازاً يستخدم لمعرفة درجة السكر في الدم وقال : - خذ هذا الجهاز سيساعدك على معرفة نسبة السكر . وما زلت احتفظ به حتى اليوم فقد كان يهتم بصحة غيره اكثر من اهتمامه بصحته وتأكيداً لذلك قال لي الصديق الدكتور احمد غرامة إن ( فيصل ) كان يبعث اليه بكثير من بسطاء لحج لمقابلتهم وعلاجهم ويكفي أن يحمل احدهم رسالة منه الى احمد ليصرف النظر عن أية اتعاب مالية جراء فحوصات ومعاينة مكتفياً بقول فيصل له : -داويهم يا احمد هذولا ناس تعابا ويستحقوا الرعاية في زيارته الاخيرة لي ، جاء برفقة الصديق ( عادل) يعمل في العدل لحج و أمضينا وقتاً في مضغ القات امام ساحة منزلي واثناءها اخرج ورقة من جيب قميصه متكوباً عليها نص اغنية مشهورة له اسمها ( فهمان) وطلب مني ان اغير احد ابياتها. كان المقطع يتعلق بتحقيق الوحدة حيث كان يتحدث عن امل اليمنيين بتحقيقها بمعنى أن الكلمات قد سبقت يوم 22 مايو 1990م بسنوات وهو يريد الحديث عنها اليوم كحقيقة واقعة وحلم تحقق ولا تزال هذه الورقة موجودة لدي علماً أن الاهم في هذه الزيارة كان شيئاً غريباً فقد سلمني فيصل اربعة ملفات خاصة بقطع اراضٍ سكنية استخرجها من محافظ أبين وقام بكل اجراءاتها وحملت هذه الملفات وثائق ملكية بنسخها الاصلية وقال لي احتفظ بهذه الملفات عندك امانة لما يجي وقتها ! .اعتقدت أن فيصل “ يريد ان يحتفظ بها بعيداً عن أوراقه الكثيرة المعرضة للتلف أو بعيداً عن متناول الأولاد أو انه يريد أن يفاجئهم بها في يوم من الأيام ولم يدر بخلدي أن هذه ستكون آخر زياراته وانه يستشعر النهاية المحتومة وأراد أن تكون هذه الملفات في يد صديق أمين وبعد وفاته اتصلت بأبنائه وأبلغتهم بوجود الملفات ولم يتسلم احد منهم ملفه سوى ( فارض) الذي جاء إلى أبين حاملاً رسالة من المحكمة تلزمني بتسليمه ملفه!! وملف والده بعد أن أخبرته بما تحمله الملفات من أسماء كتبت عليها وعلمت أن ذلك التحرك لفارض قد تم في إطار مطالبته بحقوق ما بعد وفاة والده أما ملفات فيصل وباسل وعلوي وفهيم فلا تزال بحوزتي حتى اليوم وأدعو باسل إلى استلامها. وبعد هذه الزيارة لم التق بالراحل أو أحدثه سوى عبر مكالمة هاتفية وحيدة كانت عبر تلفون صديقنا المشترك ( د. احمد غرامة ) الذي زاره في منزله بالحوطة ليطمئن عليه وكانت آخر كلماته بالحرف الواحد: أنا مريض يا حسين .. شوه تباني أنا زورك وإلا انته تزورني .. حتى أم باسل زعلانه عليك يا حسين! وعدته بزيارة مشتركة له مع ( غرامة ) الذي حدد موعدها بالفعل الا أن قضاء الله وقدره كان اسبق منها. اما اخر زياراتي له فقد كانت قبل عامين من وفاته وكان حاضراً بل وسيد الجلسة فيها الفنان الكبير ( محمد مرشد ناجي ) اطال اله بعمره والفنان القديمي والاخ شداد في هذه الزيارة لم يغن فيصل شيئاً بل اكتفى بالحديث عن اهمية قيام كيان نقابي يجمع كل الفنانين اليمنيين مستعرضاً حالات مرضية لكثير منهم بحاجة الى رعاية واهتمام وبهذه النقطة بالذات تذكر المرشدي لحظات مرض فيصل علوي وكيف بذل مساعيه لدى المسؤولين قبل الوحدة وتمخضت عن سفر فيصل للعلاج في الخارج. لقد كان ارتباط فيصل بأبين عميقاً عاش فيها طويلاً وكسب رزقه منها ، وتوطدت أواصر معرفته وصداقته بالكثير من أبنائها وكان لا يتردد في القول انها حاضنة شهرته الفنية ، ويوجد بها العدد الأكبر من معجبيه. وقد عرفت الراحل يتحدث عن كثير من الزملاء والأصدقاء الذين تميزت علاقتهم به خلال حياته ومنهم حسين مهدي بوسليم الذي جمعنا لقاء في منزله بفيصل وفهد حاتم وشداد ومحمد بن ناصر عولقي وعبدالمجيد الصلاحي والجمل ومحسن الصياغ ومسكين ويسر وغيرهم. أما التسجيلات الخاصة لتلك الجلسات فمن يسمعها يدرك مستوى الثقة التي كان تربطه بأصدقائه من خلال الصدق والصراحة والشفافية التي كانت تسود أحاديثه. لقد رحل فيصل في وقت بدأ فيه عدد من الموسيقيين الوقوف أمام فنه ( مدرسته) صوتاً وعزفاً وتحدث عدد منهم عن المهارة والموهبة والإبداع والتفنن في الأداء وقدرته على السيطرة على مشاعر المستمع / المشاهد على السواء، حيث يخيل للبعض ممن يستمع إلى أغانيه أنها جديدة وتسمع لأول مرة ، بينما يكون عمرها عشرات السنين وكل ما في الأمر أن إبداع فيصل كان يتجلى مع وفي كل حرف ونغمة حيث تراه ينسجم ويذوب مع كلمات أغانيه إلى درجة التوحد والانفصال عن اللحظة والأغنية التي تسمعها اليوم ليست كالأغنية التي ستسمعها غداً. [c1]هوامش[/c]- الدكتور محمد الرميحي الكاتب الكويتي البارز ورئيس تحرير مجلة (العربي) قال: . إمكانيات كبيرة يتمتع بها فيصل علوي:والشيء الوحيد الذي يفتقد إليه هو وجود رجل يدير أعماله وعلاقاته وينظم له شؤونه الفنية.- مثقفون شهيرون أعرابوا عن ارتياحهم لأداء وطريقة غناء فيصل منهم الكثير من الأشقاء في دول الجوار.- يشتهر فيصل بنقلاته المفاجئة من مقام إلى آخر مع رجوع متقن إلى نفس المقام والإيقاع بطريقة لا يشعر بها المستمع.- ستحتاج الحركة الفنية إلى سنوات عديدة كي يظهر فنان بنفس مستوى فيصل وعطاءاته.- كثير من الفنانين الخليجيين غنوا العديد من أغاني فيصل دون الإشارة إلى حقه الأدبي.- غنى فيصل أغنية (يابروحي من الغير) باللون الكويتي كما لم يؤدها فنان آخر باستثناء عوض الدوخي.- عندما يتم استدعاء فنانين لإحياء حفلات في الخليج يتم حجز صالات الفنادق كمكان تقام فيه الحفلة باستثناء حفلات فيصل التي يتم إقامتها في المدرجات الرياضية هذا قول شهير للفنان حسين عبدالناصر المقيم في قطر.- قال لي الأستاذ محمد الشعبي مدير عام الثقافة بلحج إنه عند وفاة فيصل رأى إحدى العجائز تبكي وتنوح. وعندما سألها احدهم عما إذا كان قد توفي لها ولد أو قريب ..قالت: ـ ليت الأمر كذلك، لقد مات فيصل علوي !! ولدي .. أو قريبي يمكنني تعويضهما بآخرين ولكن فيصل .. مستحيل .. مستحيل !!!- أخيراً .. إن الحديث عن فيصل يطول، وكم هي كثيرة الذكريات الجميلة مع فارس الأغنية اليمنية الكبيرة، وقد نجد فرصة أخرى للحديث عنها واستعراضها ونبش ذاكرة زملائه وأصدقائه الذين بلا شك سوف يبرزون الكثير من المواقف الإنسانية والصفات النبيلة للفقيد، ليتم توثيقها في كتيب متواضع يصدر في إحدى المناسبات.[c1](نجم الحلقة القادمة : الفنان محمد محسن عطروش)[/c]