أثار جدلاً بين صفوف النخبة المثقفة
لم يستأثر بي ولع ولا إعجاب مثلما استأثر إعجابي بالبرنامج الإذاعي الثقافي الشعبي اليومي (شعبيات يمانية) الذي بث من إذاعة عدن طيلة أيام شهر رمضان .. وهو إعجاب ـ دون مبالغة ـ قد شاطرني فيه المزاج الشعبي الثقافي العام على مستوى عدن واليمن عموماً.هذا البرنامج الثقافي الشعبي الذي كان يبث من إذاعة عدن في تمام الساعة الحادية عشرة مساءً خلال أيام الشهر الكريم يعد أفضل برامج الخارطة البرمجية الإذاعية الرمضانية على مستوى اليمن سواء من حيث تقديم المادة الثقافية واقتدار معد البرنامج الإذاعي والمثقف احمد صالح ربيع أو من حيث المستوى الثقافي المرموق لضيوف البرنامج والمتحاور معهم وكذلك قدرة المذيعين المتحاورين المثقفين والموهوبين أصحاب الخبرة في هذا المجال أو في الاختيار الموفق لمن أسهموا في حوار البرنامج من خارج الاستديو الإذاعي .. فضلاً عن الإشراف الدقيق والناجح للقيادي الإعلامي الحصيف يسلم مطر المدير العام لإذاعة عدن.فكل من تم استقصاء آرائهم عن البرنامج من النخب المثقفة والأدباء والمهتمين بالثقافة الشعبية والشأن الثقافي والإبداعي ومنتسبي المنتديات الثقافية في عدن ومرتادي مقاهي عدن التاريخية من الشرائح المثقفة ومعاصري أيام الزمان الثقافي الشعبي الجميل اجمعوا بما لا يدع مجالاً للشك على أن برنامج (شعبيات يمانية) قد تصدر ريادة البرامج الإذاعية على مستوى اليمن عموماً ..وإن معد البرنامج قد نجح ووفق فعلاً في حسم الاختيار للمادة الثقافية، وكذلك في اختيار زمن البث الإذاعي المباشر الذي يتزامن مع حلقات السمر الرمضاني في المجالس العامة والمنتديات الثقافية وتجمع الناس بمختلف أعمارهم ومستوياتهم الثقافية سواء في الاتحادات الأدبية والجمعيات التراثية الشعبية التي تعنى بالموروث الثقافي أو حتى كبار السن الذين عاصروا فنون الثقافة الشعبية من لا يزالون يرتادون مقاهي عدن التاريخية وهم من الذواقين للثقافة الشعبية وفنونها مثل الحكاية الشعبية أو الفلكلور الشعبي أو الأغاني الشعبية أو المثل الشعبي وكذلك الصناعة الثقافية الشعبية إلى جانب أخبار الأساطير القديمة بما تهدف إليه من قيم إنسانية رفيعة بل لعل من المهم الإشارة في هذا المقام إلى أن البرنامج قد استوعب المزاج الثقافي الشعبي المتنوع سواء في المدن أو في الساحل والجبل وكذلك بين البدو الرحل وسكان الصحراء الحاضنة للموروث بكل تنوعاته الجميلة والأصيلة، فضلاً عن أن البرنامج استطاع بجدارة إبداعية ثقافية إعلامية أن ينفض غبار رياح الإهمال عن كنوزنا الثقافية الشعبية وإبرازها على السطح الثقافي لتعريف الأجيال بها وتذوقها وتجميعها وتوثيقها وتهذيبها من الشوائب التي لحقت بها، وتوظيفها في حياتنا الثقافية والتنموية والاجتماعية وحمايتها من الإهمال والسرقة الثقافية والأدبية من اجل رسم خطة ثقافية لتحصينها من الغزو الثقافي المعولم والمعلب الذي يستهدف تشويه تراثنا اليمني والعربي والإسلامي وابتلاعه في إطار الاستهداف والتنميط المعولم للثقافة الكونية على حساب هوية الشعوب وتراثها وحضاراتها الإنسانية .وعودة إلى البرنامج الإذاعي مجدداً فقد كان ناجحاً بكل مقاييس النجاح في تناول وتوظيف كل الأجناس الأدبية في ثقافتنا الشعبية لتجسيدها في مناهجنا التربوية مثل الحكايات الشعبية اليمنية المكتوبة والشفاهية والأساطير التاريخية اليمنية بمختلف أنواعها الملحمية التاريخية أو الأسطورية وكذلك في الفلكلور الشعبي الغائر في التاريخ ومبدعيه إلى جانب الإبداع الثقافي الشعبي النسائي واستلهام الحكايات الشعبية للنشأة الاجتماعية في مسرح الطفل وتذوق الموسيقى الشعبية التراثية لدى الأجيال والتي نهل منها البرنامج من المكتبة الموسيقية التراثية الغنية التي لازالت تحتفظ وتفتخر بها إذاعة عدن كأول مكتبة موسيقية تراثية وأقدمها على مستوى اليمن والجزيرة والخليج بإدخالها في البرنامج عكست الإضاءة الجميلة لنجاح البرنامج حينما كانت تتخلل فقرات البرنامج وحوارات الضيوف والمساهمين في البرنامج مثل المقطع الموسيقي الذي خصص لأغنية (الدودحية) التراثية بما تحمله من أبعاد اجتماعية فأضافت حلاوة للبرنامج وارتباطاً لجمهور المستمعين للإذاعة .بل لعل الأهم من مضمون المادة الثقافة التي تناولها البرنامج هو توظيفه لمختلف أجناس الأدب الشعبي والثقافة الشعبية وفي مقدمتها الحكايات والأساطير الشعبية التي أبرزت القيم التربوية والأخلاقية والاجتماعية والسياسية والدينية وتقديس القيم النبيلة كقيم الأمانة الصدق والقناعة والوفاء بالعهد ومساعدة المحتاج وقيم الرحمة والتواضع وإنكار الذات والمسؤولية الاجتماعية والعدالة والتعاون والإصغاء لنصائح الكبار وترسيخ قيم الانتماء والدفاع عن الوطن والحفاظ على الهوية.وهناك ما تجدر الإشارة إليه في هذا التناول عن نجاح هذا البرنامج هو أن البرنامج لم يترك صغيرة ولا كبيرة في مكوناتها الثقافية فقد خصصت ضمن حلقات البرنامج حلقة خاصة بالمثل الشعبي الذي نظم وصاغ حياة الأجداد فاهتدوا إلى حكم الأمثال المصاغة من واقع الحياة اليومية ومعاناتهم ولا زالت بمثابة الجرس الرنان في حالة النسيان لدى الأجيال تعينهم في مواجهة نوائب الدهر مستفيدين من تجارب أجدادهم الناجحة حيث تناول البرنامج برؤية ثقافية شاملة ودقيقة أمثالنا الشعبية بنوعيها الايجابي والسلبي وما تمثله في حياتنا اليومية، والتأكيد على إعادة النظر في المثل السلبي وصياغته مجدداً ليتناغم مع الضرورة وحاجة العصر الراهن والعمل على تجميع جميع الامثال الشعبية في التراث اليمني وتوثيقها لإصدارها في كتاب لتكون بيد الباحثين وجاءت هذه الأهمية للتوثيق بعد ان كشفت حوارات البرنامج بين الضيوف المتحاورين ومقدميه أن اكثر من سبعة آلاف مثل شعبي يمني قد سرقت من قبل بعض الدول او نسبت لشعوب اخرى، والمثل على ذلك كما افاد احد الضيوف المتحدثين خارج الاستديو ان اسرائيل وثقت سبعة آلاف مثل شعبي من التراث اليمني ونسبته الى التراث اليهودي وهو بالأساس تراث يمني ما جعل البرنامج يثير جدلا واسعا بين المهتمين بالشأن الثقافي اليمني والأكاديميين وأصحاب الشأن الثقافي الرسمي حيث اتسم الحديث حول هذا الموضوع بالشفافية والجرأة في الطرح وتم كذلك عن حرص وطني على حماية تراثنا من السرقة الثقافية والأدبية وتضامن الجهود الرسمية والأكاديمية والشعبية والثقافية لتجميع تراثنا الثقافي وتوثيقه .وتواصلاً لنجاحات هذا البرنامج اخص بالذكر التنوع الثقافي الذي تناول كل ألوان الطيف في الموروث الثقافي الشعبي بدءاً بالأقوال المأثورة والحكايات والأساطير مروراً بالأزياء الشعبية والفلكلور الشعبي والرقص والموسيقي والموشح الشعبي والألعاب الشعبية مثل لعبة المرجحانة مروراً بطقوس القهوة وأدوات طباختها والتنوع الحرفي والطب الشعبي وتصورات الأجداد للأمراض الشعبية إلى جانب فلكلور المطر وذاكرة الطعام والنظام الغذائي والوجبات الشعبية في أسس النظام الغذائي وعاداته وصناعة الحليب والقلائد التراثية والعمارة التراثية اليمنية وطقوس الأسواق التاريخية القديمة في اليمن. ومما استأثر بإعجابي بهذا البرنامج هو انه تناول عمق الشعب والتأكيد على دراسته بمختلف كنوزه الثقافية المرتبطة بوجدان الشعب ومكوناته الثقافية فمن الحكاية والأسطورة استطعنا أن نبني علاقاتنا الإنسانية والاقتصادية والثقافية مع الشعوب ومعرفة مقوماتها واستطعنا أن نستنتج تلك العلاقات على أسس معرفية تحليلية دقيقة لنفسية الشعوب التي سنتعامل معها .. فمن دراستنا عمق التراث عرفنا انه إذا أردنا معرفة الشعوب وتوطيد العلاقة معها فيجب ألا نكتفي بمعلومات الأكاديميين أو السياسة أو الدبلوماسيين عن بلدانهم وإنما الطريق الاصوب هو التوجه إلى دراسة عمق تلك الشعوب وهو تراثها الإنساني والحضاري. وهناك ملاحظة ايجابية جديرة بالاهتمام هي أن البرنامج قد كشف أيضاً عن أغلى رأسمال في التنمية الثقافية وهو الإنسان الموهوب المبدع حيث أن البرنامج على مدى حلقاته الرمضانية استضاف عدداً من جعابذة الأدب والفكر والثقافة والإبداع ورجال الآثار والتاريخ والموثقين وكنوز الخبرة الغنائية والموسيقية والشعبية ورواة الحكايات والأساطير الذين اغنوا حلقات البرنامج بالنقاش في الكشف عن كنوز ثقافتنا الشعبية اليمنية. ولم تقف معالم النجاح لهذا البرنامج عند هذا الحد بل أكدت جميع حوارات الحلقات الثقافية على نقاط أشبه ما تكون بالتوصيات لحماية تراثنا الشعبي مثل التأكيد على تأليف أو إصدار موسوعة تعنى بتوثيق التراث الشعبي الثقافي المتنوع والمصطلحات الثقافية الشعبية وشرحها مع ذكر المناسبات وذكر حلقات السمر والرواد للخيال الشعبي من النساء ( الجدات) أو الذكور والعمل على إصدار كتاب لتجميع وتوثيق كل أنواع الموروث الشعبي كالأمثال الشعبية والحكايات والأساطير والألعاب الشعبية والصناعات الشعبية والموسيقى التراثية والغناء التراثي والطرائف اليمنية والشعر الشعبي مع ذكر الرواد وسرد نبذ عن حياتهم الشخصية والإبداعية.ولم يقف الجدل الذي أثاره المتحاورون في حلقات البرنامج والنخب الثقافية عند دراسة عمق الشعب اليمني الممثل بتراثه كوسيلة تهدي الشعوب التواقة إلى تمتين علاقاتها السياسية والاقتصادية والتجارية وإنما تعدى هذا الجدل إلى مسائل توظيفه في البرامج الثقافية والإعلامية والتربوية والمسرح الشعبي والصناعة الثقافية فالمتحاورون أكدوا بشفافية وبحرص شديد ضرورة أن توظف أجناس الأدب الشعبي الثقافي ضمن معالجات حماية الموروث كأن توظف الحكايات والأساطير الشعبية في مسرح الطفل لما تحمله من مضامين وقيم تربوية نبيلة في تنشئة الطفل بل لعل البعض من المهتمين بثقافة الطفل قد اقترح على فضائياتنا اليمنية الحكومية والخاصة استغلال الموروث الشعبي الثقافي في التقديم الدرامي التربوي عبر برامج الأطفال التلفزيونية سعياً نحو خلق الشخصية المتوازنة جسمانياً وعقلياً ومعرفياً . ختام هذه الإطلالة اجزم القول : إن البرنامج كان ناجحاً في حسن اختيار مادته الثقافية وعبر معديه ومخرجيه ومحاوريه وذكرنا بالزمن الثقافي الجميل الذي يفتخر به جيل الحاضر والجيل القادم إن شاء الله .. برنامج تفرد بالنجاح بالرغم من شحة الإمكانيات وإرباكات الانقطاعات الكهربائية وعلى قيادة إذاعة عدن أن تفتخر بتفرد هذا البرنامج مضموناً وإخراجاً فنياً وكادراً مقتدراً وقائداً إدارياً ترجم عملياً إن الإعلام ليس وظيفة وإنما هو إبداع شعاره ربط القول بالعمل وتحدي الصعاب بالإخلاص والخبرة .. واختم هذه الإطلالة بأطيب التحيات والتهاني المدير العام لإذاعة عدن يسلم مطر والإعلامي المبدع احمد صالح ربيع والمذيعين والمحاورين المقتدرين مقدمي البرنامج وزبدة الخبرة الإعلامية في إذاعة عدن وتلفزيونها الزميلين صلاح بن جوهر ورضية سلطان فألف تحية لكل من بذل جهوداً في إنجاح هذا البرنامج نحو مزيد من البرامج الناجحة.