كتبت/ مليحــة مسلمــاني أقدم للقارئ قراءة التحولات التي مر بها الخطاب الثقافي الفلسطيني في معالجته موضوع النكبة من خلال التركيز على الفن التشكيلي الفلسطيني كمادة بحث باعتباره أحد أدوات الخطاب الثقافي الفلسطيني وأحد عناصر الهوية الثقافية. تستخدم هذه الدراسة مدخل التحليل الثقافي الذي يقوم على دراسة المحيط الثقافي للظواهر الاجتماعية والسياسية،وتقوم بقراءة التحولات التي طرأت على المعالجة التشكيلية لموضوع النكبة من خلال استقراء تمثيلات النكبة في أعمال رواد الفن التشكيلي الفلسطيني أولا، ومن ثم الانتقال إلى قراءة تلك التمثيلات في أعمال الجيل الشاب من التشكيليين الفلسطينيين. وتجيب الدراسة عن أسئلة: كيف يعرف الفن التشكيلي مفهوم النكبة؟ وما هي الرموز التي استخدمها هذا الفن في تمثيله قضية النكبة؟ ثم ما الذي طوره هذا الفن في السنوات الأخيرة في معالجته موضوع النكبة؟.تمحور الخطاب الثقافي الفلسطيني منذ عام 1948 حول مركزية القضية الفلسطينية والمأساة الإنسانية المتمثلة باحتلال الأرض وتهجير الفلسطينيين منذ عام 1948. ووجد هذا الخطاب نفسه، ومعناه في الوقت نفسه، في معركة المواجهة ضد سرقة الأرض والتراث والهوية الفلسطينية، وأخذ على عاتقه مسؤولية توثيق المأساة الفلسطينية المتمثلة في النكبة وما لحقها من أحداث أخرى لا يزال يمر بها الشعب الفلسطيني. وبعد ما يقارب الستين عاماً من هذا التحول في كل من مضمون ووظيفة الخطاب الثقافي الفلسطيني، استطاع هذا الخطاب صياغة هوية ثقافية ـ سياسية ـ إنسانية، فلسطينية، سواء بأدواته الفكرية، والمتمثلة بأدبيات مفكرين فلسطينيين مثل إدوارد سعيد وغيره، أو الأدبية، خاصة تلك التي تمثلت بأدب المقاومة، أو بأدواته الفنية من مسرح وسينما وموسيقى وفن تشكيلي وغيرها من أشكال الإبداع الفلسطيني. تأخذ هذه الدراسة من الفن التشكيلي الفلسطيني، كأحد عناصر الهوية الثقافية وأحد أدوات الخطاب الثقافي الفلسطيني، مادة بحث في السياق السياسي الفلسطيني، من خلال التركيز على تمثيلات النكبة في التشكيل الفلسطيني، والتي عكست مفهوم النكبة في الوعي الثقافي الفلسطيني، الفردي والجماعي. وشكلت موضوعاً رئيسا في الفن التشكيلي الفلسطيني على مدى مراحله المختلفة، وأنتج كل الفنانين الفلسطينيين بلا استثناء، سواء في الداخل أو في الشتات، أعمالاً تشكل النكبة موضوعاً رئيساً أحياناً، أو خلفية ينطلق منها الفنان الفلسطيني بمختلف المواضيع التي يطرحها أحيانا أخرى. تعتبر الفنون، والفن التشكيلي على وجه الخصوص، مادة بحث غير مألوفة في السياقين الاجتماعي والسياسي. لكننا نشهد اليوم توجهات غير تقليدية، يعبر عنها بالدراسات الثقافية، وتلك التي تتخذ من التحليل الثقافي منهجيةً علميةً تعتمد على دراسة المحيط الثقافي للظواهر السياسية والاجتماعية. تتأكد تلك الحاجة لهذا النوع من التحليل في الحالة التشكيلية الفلسطينية بشكل خاص، والحالة الإبداعية الفلسطينية بشكل عام. فالفن التشكيلي الفلسطيني، ورغم وضوح ارتباطه بالقضية الفلسطينية، لم ينل، كما نال أدب المقاومة على سبيل المثال، نصيبا كافيا من البحث والدراسة في السياقين السياسي والاجتماعي الفلسطينيين. فقد تمحورت أعمال الفنانين الفلسطينيين حول القضية الفلسطينية بأبعادها وعناصرها المختلفة، ووجد هذا الفن نفسه ممثلا شرعيا للتراث والثقافة والمأساة الفلسطينية في معركة المواجهة ضد سرقة الأرض والهوية. وبذلك تحولت الحركة التشكيلية الفلسطينية، كما مجمل الحركة الثقافية الفلسطينية، إلى حركة نضالية يستهدف منتجوها كما يستهدف المقاومون، يتم ذلك عن طريق مضايقة الفنانين والأدباء ونفيهم واعتقالهم بل واغتيالهم. بل إن الفن الفلسطيني ألغى تلك المسافة المعروفة تاريخيا بين الفن والشعوب، من خلال إنتاجه لوحات شكلت رمزاً فلسطينيا محليا وعالميا، كلوحة جمل المحامل للفنان سليمان منصور على سبيل المثال لا الحصر.تنقسم تلك الدراسة، بما فيها تلك المقدمة النظرية، إلى ثلاثة أجزاء، بحيث نقوم في تلك المقدمة بتعريف أهداف الدراسة وفرضياتها ومفاهيمها. يبحث الجزء الثاني في تمثيلات النكبة في الفن التشكيلي الفلسطيني في المراحل السابقة التي تمتد منذ النكبة حتى بداية التسعينات، بحيث يتم بحث تمثيلات النكبة في بعض أعمال تعود إلى رواد الفن التشكيلي الفلسطيني. أما الجزء الثالث فيتضمن تحليل نماذج من أعمال فنية تعود إلى الجيل الشاب من التشكيليين الفلسطينيين تعالج موضوع النكبة. ومن ثم نخرج في ختام تلك الدراسة بخلاصة عن تمثيلات النكبة في الفن التشكيلي الفلسطيني والتحولات التي مر بها هذا الفن في خطابة المحلي والعالمي في معالجته لموضوع النكبة.نفترض أن الخطاب التشكيلي الفلسطيني ما زال يتمحور حول القضية الفلسطينية والتي تشكل النكبة بدورها أحد دعاماتها الأساسية، كما أن هذا الخطاب في تحوّلاته يعكس مجمل الخطاب الثقافي الفلسطيني الذي بدوره يتواصل ويتحاور ويستند إلى الخطاب السياسي الفلسطيني، مع الأخذ بعين الاعتبار الخصوصية التي تفرضها طبيعة الإبداع نفسه، ما بين مسرح وسينما وأدب وموسيقى، ما يحتاج إلى دراسة مقارِنة ومفصلة في مختلف عناصر الخطاب الثقافي الفلسطيني والتحولات التي طرأت عليها. وكل من الخطاب الثقافي والسياسي الفلسطيني، لا يعرف حدودا فاصلة وواضحة المعالم بينه وبين الآخر، ذلك أن الهوية الثقافية الفلسطينية تستمد معنى وجودها من القضية السياسية، ومن ناحية ثانية تجد الهوية السياسة ارتكازا لها في الهوية الثقافية.تعتبر الثقافة مفهوماً مركباً، شاملاً ومعقداً. وتركز بعض التعريفات على الثقافة كسلوك بينما يركز بعضها الآخر على الثقافة كمثُل وقيم مجردة ونرى أن كلا من الاتجاهين يحمل نظرة منقوصة تجاه الثقافة، فالثقافة هي أيضا سيرورة، لما يحويه هذا المفهوم من جدلية بين الثابت والمتغير، فضلاً عن أن ثقافة مجتمع ما تتأثر بتغيرات داخلية وخارجية يواجهها هذا المجتمع. ومن تعريفات مفهوم الثقافة أنها ذلك الكل المعقد الذي يتضمن المعرفة والاعتقاد والفن والحقوق الأخلاق والعادات وكل قدرات وأعراف أخرى اكتسبها الإنسان كفرد في مجتمع. تتبنى تلك الدراسة تعريف اليونسكو لمفهوم الثقافة، وينص هذا التعريف على أن الثقافة هي جميع السمات الروحية والمادية والفكرية والعاطفية التي تميز مجتمعاً بعينه أو فئة اجتماعية بعينها وهي تشمل الفنون والآداب وطرق الحياة كما تشمل الحقوق الأساسية للإنسان والقيم والتقاليد والمعتقدات. ويشير مفهوم الفن التشكيلي الفلسطيني في تلك الدراسة بطبيعة الحال إلى الأعمال الفنية التي تشمل النحت والرسم والتصوير وفنون الفيديو والإنشاء والأداء، التي ينتجها فنانون فلسطينيون في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس وداخل الخط الأخضر وفي الشتات. والفن التشكيلي في فلسطين هو حديث العهد نسبيا كما هو الحال في معظم الدول العربية، حيث كان الفن يقتصر حتى أوائل القرن العشرين على الزخرفة والمصنوعات اليدوية وهو ما يسمى اليوم بالفن الحرفي أو الفن التطبيقي. ونهدف من تلك الدراسة إلى بحث الخصوصية التي طورها الفن التشكيلي الفلسطيني لنفسه، من خلال معالجته موضوع النكبة، كقضية تاريخية ومعاصرة، سياسية وثقافية. مر الفن التشكيلي الفلسطيني منذ عام 1917 بمراحل ثلاث. سيطر شكل الفن الشعبي على أولى تلك المراحل، وهي المرحلة التي تمتد منذ عام 1917 حتى عام 1948، والذي وإن كان فنا تطبيقيا إلا أنه أنتج أيضا أعمالاً ذات مضامين ورسائل سياسية. شكل عام 1948 نقطة تحول جذري على صعيد الدور والمضمون للفن التشكيلي الفلسطيني، ليشهد بذلك مرحلة أسست لحركة تشكيلية فلسطينية فيما بعد، سيطرت على تلك المرحلة مضامين الحنين إلى الوطن والذكريات عنه وأخذ الفن على عاتقه، كما الأدب الفلسطيني، مسؤولية توثيق واقع اللجوء الفلسطيني. ثم أتت مرحلة فن الثورة والتي قد تعتبر أهم مرحلة في مسيرة الحركة التشكيلية الفلسطينية على صعيد الوظيفة على الأقل. ويميز الفنان عبد الرحمن المزين ثلاث نقلات في تلك المرحلة، الأولى (1965 - 1971) حيث غلبت على تلك الأعمال رموز الكوفية والرشاش والشمس كرمز للأمل والحصان كرمز للانطلاقة، ترافق وجود تلك الرموز في العمل التشكيلي الفلسطيني في تلك الفترة مع انطلاق حركات التحرر الوطني الفلسطينية والتي ركزت على النضال والمقاومة والكفاح المسلح بهدف تحرير الأرض. النقلة الثانية (1971 - 1982) وهي النقلة الأهم في مرحلة فن الثورة حيث تم الاعتراف بالثورة الفلسطينية وبمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني، وتمتاز تلك الأعمال بتوظيف عناصر التراث الفلسطيني في الفن. النقلة الثالثة يسميها المزين مرحلة الملحمة التي بدأت منذ عام 1982 حيث تطور شكل العمل من اللوحة إلى الجدارية تماشياً وتعبيراً عن الواقع الذي تمثل في اجتياح لبنان وارتكاب المجازر بحق الفلسطينيين في مخيمات اللجوء ومن ثم اندلاع الانتفاضة الفلسطينية عام 1987.وفي مختلف تلك المراحل، شكلت النكبة، بأبعادها وانعكاساتها على الإنسان الفلسطيني، الهاجس الأول للفنان الفلسطيني، خاصة الفنانين الذين تم تهجيرهم من مدنهم وقراهم والذين جاءت أعمالهم توثيقاً لمأساة التشريد ولواقع المخيمات وتطلعا نحو العودة في لوحات يكللها حلم العودة إلى فلسطين الربيع والوطن. وبرز فنانون في تلك المراحل اعتبرت لوحاتهم، فلسطينياً وعربياً وعالمي، ناطقاً رسمياً باسم الشعب الفلسطيني وحقه في العودة. من بين هؤلاء كان الفنان الشهيد ناجي العلي وإسماعيل شموط وسليمان منصور ومصطفى الحلاج وعبد عابدي وغيرهم. نهدف من هذا الجزء من الدراسة استكشاف تمثيلات النكبة في أعمال بعض رواد ورائدات الفن التشكيلي الفلسطيني.يعتبر الفنان إسماعيل شموط (مواليد اللد 1930) رائد تمثيل مأساة اللجوء الفلسطيني، وعبرت أعماله التي يبقى محورها الإنسان، عن عمق الألم الذي ألم بالإنسان الفلسطيني، من خلال رسمه شخوصا تكتسي وجوهها ملامح من حزن وأسى عميقين لكنها أيضاً شخوص يشع من داخلها الكبرياء والتحدي والأمل في استرجاع حقها والعودة إلى الوطن الأم. تظهر المرأة كشخصية مركزية في أعمال شموط، بزيها الفلسطيني دائما، وبعلاقتها مع الطفل أحياناً في مقاربة بين علاقة الأمومة بمريم العذراء والمسيح، كإعادة إنتاج لتاريخ اللجوء الذي يكرر نفسه على أرض فلسطين، وكتعبير عن علاقة أمومة خاصة عامة، تشبه علاقة الطفل بالأم بعلاقة الإنسان الفلسطيني بالأرض. ومن الجدير ذكره أنه تم اتخاذ المرأة الفلسطينية في أعمال معظم رواد الفن التشكيلي الفلسطيني كاستعارة للأرض والهوية الوطنية والثقافية والتراثية، كما في أعمال ناجي العلي وسليمان منصور ونبيل العناني وعبد عابدي وعبد الرحمن المزين وكامل المغني وغيرهم.
|
فنون
النكبــة في الخطــاب الثقافــي الفلسطينــي.. الفــن التشكيــلي أنموذجـــاً
أخبار متعلقة