أضواء
إن من يتأمل الخطاب الديني المتشدد يأخذه العجب لكثرة ما يعتريه من تناقضات ، تلك التناقضات التي كان يمكن للمتأمل غض الطرف عنها لو كانت صادرة عن أناس لا يحسبون على الدين ، أما وهي تصدر عمن ينطقون باسم الدين ، فإنه لابدّ لنا من الوقوف عندها وتجليتها ؛ لأنها تشكل خللًا كبيراً يوسم به الإسلام لا أصحابها الذين أنتجوها ، ولعلنا نضرب أمثلة لبعض تلك التناقضات التي أثر ت تأثيراً سلبياً على المجتمع . يأتي على رأس تلك التناقضات الفزع الشديد من عمل المرأة في مجال يستدعي اختلاطها بالرجال لا خلوتها ببعضهم ، كالطبيبات والمهندسات والعاملات في البنوك والشركات ، والإعلاميات وموظفات الاستقبال في المستشفيات ، فنراهم يقيمون الدنيا ولا يقعدونها ، حدّ أن وصل الأمر ببعضهم إلى تكفير من يسمح بالاختلاط وإباحة دمه ، لكنهم في الوقت نفسه يغضون الطرف عن البيوت التي تعج بالاختلاط بين الخدم والسائقين وأهل البيت ، ولا أستثني من ذلك بيوتهم التي قد يوجد فيها من أولئك نظراً لكبرها أضعاف ما يوجد منهم في غيرها من البيوت! وهم عندما يحذرون من الاختلاط ، يغضون الطرف عما يفعله بعض الرقاة الشرعيين من خلوة بالنساء. - في الوقت الذي تستمتع فيه نساؤهم وبناتهم برخاء مادي وأمن وظيفي ، نجدهم لا يأبهون بمعاناة النسوة والفتيات الفقيرات المحتاجات للعمل حقيقة وليس ترفاً وتضييعاً للوقت ، حتى وإن كان العمل محاسبة في محل تجاري ، ولذلك نجدهم يقفزون على الحقائق ويستنكرون الدعوة لتمكين المرأة من العمل محاسبة ، متجاهلين أن التي تريد ذلك العمل لم يدفعها إليه إلا عدم وجود ما هو أفضل منه ، وما حيلة المضطر إلا ركوب الصعاب . - يشهد التفاوت في الأحكام تناقضاً عجيباً في بلادنا ، ففي الوقت الذي يغض فيه الطرف عن أشخاص يرتكبون جرائم ، بالصمت تارة وكأن الجريمة لم تكن ، وتارة أخرى ينبري مدافعون عنهم ومحذرون من محاسبتهم مهما عظم جرمهم ، في الوقت نفسه نجد آخرين سرعان ما يحكم عليهم بأحكام تعزيرية من سجن وجلد ، حتى وإن كان ما فعلوه لا يشكل واحداً في المائة من جريمة الآخرين، ولعلنا نضرب مثالاً على هذا التناقض بالحكم الذي ناله الصحفي الذي دافع عن أهل منطقته ضد تهاون شركة الكهرباء ، باتهامه بدعوة الناس إلى التجمهر ، والحكم عليه بالسجن والجلد ، وإمعاناً في إهانته جعل بعض الجلد أمام شركة الكهرباء !!!! يقول الشيخ العبيكان : (فالتعزير بابه واسع ، ولكن من المؤسف أننا نلاحظ عدداً من القضاة لا يعرفون في التعزير سوى الجلد والسجن ، والجمع بينهما بسجن وجلد ... ليس هذا مسلكا سديدا ، وهذا خلاف المطلوب...). وهنا لا نملك إلا أن نقارن فعلة ذلك الصحفي بما فعله القاضي المرتشي الذي قيل إن محاكمته قد تسبب الفتنة، وهذا موقف المجلس الأعلى للقضاء من القضية كما هو لم يتغير (فما زال عند البيان الذي أصدره في وقت سابق حول القضية وليس هناك مستجدات) الحياة 18\11\2010 ! يحدث هذا مع أن خادم الحرمين أصدر أمراً بإدراج جرائم الفساد المالي والإداري ، ضمن الجرائم التي لا يشملها العفو الوارد في ضوء التعليمات والأوامر والتنظيمات المتعلقة بمكافحة الفساد. أما موظف الهيئة الذي اعتدى على رجل بسكين فما زلنا ننتظر ما يصدر بشأنه ، ونرجو ألا يكون كما في قضية فتاة تبوك ! فالمعتدي حسب تصريح المتحدث باسم الهيئة في حائل (إن كان أخطأ فهو بشر ، والخطأ وارد) ، وهذا جيد فالبشر خطاؤون ، لكن خطأ الموظف الرسمي يختلف عن خطأ من لا صفة رسمية له ، ومع هذا نتمنى أن يطبق هذا القول على الجميع ، وأن لا تضخم الأمور البسيطة التي تصدر من الناس ، كجلوس فتاة مع خطيبها أو قريب لها من غير محارمها في مطعم ، وأن يلتمس لهما العذر كما يلتمس لرجال الهيئة في الحوادث الكبيرة. يحدث هذا على الرغم من أن سمو الأمير نايف دعا رجال الهيئة إلى أن (يكونوا عقلاء متأنين ، ويتسموا بسعة الأفق والرفق واللين) ! ولذا لم نستغرب عندما دافع عن عضو الهيئة المعتدي بالسكين أحد المحسوبين على هذا التيار، متهماً الكتاب بالأخذ بوجهة نظر الرجل المطعون ، لكنه يقع فيما حذر منه بأخذه بوجهة نظر رجل الهيئة فقط،مع أنه شهد ضده ثلاثة رجال علاوة على المعتدى عليه وشقيقه . وهنا لابدّ لنا من ذكر ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أعان على خصومة بظلم ، أو يعين على ظلم، لم يزل في سخط الله حتى ينزع) . - الانتقائية والمزاجية في التعامل مع الأحداث والقضايا التي يعج بها مجتمعنا ، فإن كان الحدث صادراً عمن يسمونهم ليبراليين أو علمانيين؛ فإن مجالسهم وصحفهم ومنتدياتهم لا تكف عن تناول الموضوع والتأليب على أصحابه ، وتوجيهه الوجهة التي تخدم أجندتهم وتحرف الموضوع عن وجهه الحقيقي ؛ كما حدث في قصر تحفيظ القرآن على المواطنين دون الوافدين ؛ حيث حرفت القضية عن وجهتها الحقيقية ، وأصبحت السعودة في نظرهم أكذوبة ، والوطن أصبح حقاً مشاعاً لكل مسلمي الأرض ، فلا خصوصية لنا، ولا حقوق تمليها المواطنة ، في التفافٍ مقيت على القضية برمتها ، وإلا كيف يجوز الصمت عما يزيد على 20 ألف وظيفة يشغلها أجانب الله وحده يعلم أهدافهم ، ولعل العقلاء هنا يتساءلون عن مصير الأموال التي يتبرع بها المحسنون لحلقات تحفيظ القرآن ، وهل تذهب لوجهتها أم لوجهة أخرى ؟ لا أظن أن مواطناً لديه ذرة من وطنية يسمح بأن يتولى هذا العدد من الأجانب تلك الوظائف - مع ما يدعون من قلة مردودها المادي - بينما هناك آلاف المواطنين من خريجي مدارس تحفيظ القرآن لا عمل لهم ! - وهناك قضايا يغضون الطرف عنها لأن مرتكبيها محسوبون عليهم ، إذ لم نسمع إدانة للراقي الذي قتل فتاة بصعقها كهربائياً ، وكل ما فعلوه هو مسارعتهم إلى أهل الفتاة طالبين التنازل عن الحق الخاص ، لأن ما حدث خطأ غير مقصود ، وهو ما نتوقعه في حال الرجل المعتدى عليه بالسكين . رفض بعض القائمين على العمل الخيري مساعدة المحتاجين الذين لا يطيلون لحاهم ولا يقصرون ثيابهم، مع أنهم مستحقون للإحسان ، ولا فضل ولا منة لأولئك القائمين على العمل الخيري الذين لم يردعهم الدين الذي يدعونه حتى عن تصنيف الفقراء والسائلين ! - التحول في المواقف فأعداء الأمس يمكن أن يتحولوا في طرفة عين إلى أصفياء نكاية بآخرين وكيداً لهم ، وهي مواقف اعتدناها وصارت مكشوفة لا تنطلي على ذوي العقول. - الدعوة إلى الزهد في نعيم الدنيا وعدم التكالب عليها، خطاب يوجه للمريدين الذين غرروا بهم ودلسوا عليهم، إذ الزهد في الدنيا أكذوبة تهاوت تحت بريق الأموال التي تنهال انهيالاً ، من اللجان الشرعية في البنوك التي تدر الملايين سنوياً ، وبرامج القنوات الفضائية (قنوات العهر والكفر والمجون) ؛ حيث أصبحت بقرة حلوباً تدر هي الأخرى الملايين على أهل الخير والصلاح تماما كنجوم الفن والرياضة ، ناهيكم عن المحاضرات التي يصل مقابل الواحدة منها إلى الستين ألفاً ! - ربط الكوارث الطبيعية كالأمطار والزلازل بالمعاصي التي تصدر من الناس ، لكنهم لا يربطونها بالجرائم التي يرتكبها بعض المحسوبين على التيار الديني كالرشوة ونهب الأموال والاعتداء على الناس ، ولعلنا نذكر في هذا السياق معاناة المرأة في بلادنا في عدم نيل حقوقها المشروعة ، لكنهم بالغوا في اختراع أنواع الزيجات التي أحسن استغلالها كثيرٌ من الرجال على حساب كرامة المرأة ، من مسيار ومسفار ومصياف وزواج نهاري. وقد كان التعاطف مع الرجال ضد النساء ، وضعف القوانين سبباً في توحشهم مع زوجاتهم وأبنائهم. - حصرُ الاحتساب في مراقبة أعين النساء وعباءاتهن. وتجاهل مشكلة السكن التي تسبب فيها محتكرو الأراضي والمضاربون بالعقارات ، فلم نسمع لهم صوتاً في التحذير من الاحتكار الذي يحرمه الدين ، أو المطالبة بفرض زكاة على الأراضي البيضاء . إذ يوجد حوالي 40 في المائة من المواطنين لا يملكون منازل بسبب جشع ملاكها . ومع أن الأمير نايف طالب المساجد والمدارس بمحاربة فكر تكفير الدولة وعلمائها ، لكننا لم نرَ لتلك الدعوة أثراً ، فما زال دعاة التكفير يكفّرون فئة من المواطنين وكل من شعروا أنه يغرد خارج سربهم ، فقد أفتى أحدهم مؤخرا بردة من أباح الاختلاط مشدداً على أن ما قررته اللجنة الدائمة في فتواها هو محل اتفاق بين العلماء كما حكاه الحافظ أبو بكر محمد بن عبدالله العامري (530) في كتابه أحكام النظر (ص287) فقال:«اتفق علماء الأمة أن من اعتقد هذه المحظورات، وإباحة امتزاج الرجال بالنسوان الأجانب، فقد كفر، واستحق القتل بردته» أه . ولا يخفى أن قوله هذا يعد تناقضاً صارخاً مع قوله تعالى: (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول)، وليس إلى أبي بكر العامري وغيره! - اتخاذ التدين المظهري من بعض المنحرفين ستاراً يخفون خلفه انحرافهم ؛ لأنهم يعلمون أن هناك من يغض الطرف عنهم ماداموا يحضرون صلاة الجماعة في المسجد ، وتبدو عليهم مظاهر التدين الشكلي ، وحسب ما أوردته جريدة المدينة منذ أشهر فإن جهات رقابية في الباحة تحقق في 11 مخالفة قام بها إمام مسجد شهير، منها جمع تبرعات مالية وانتحال وظيفة رسمية، وطبع كوبونات للتبرعات ، وفتح حساب للغرض نفسه. وسبق لذلك المتهم أن قُبض عليه في المخالفات نفسها في العام 1425 وأخذت عليه الإمارة تعهداً ، لكنه استمر في إجرامه . وهنا نتساءل لو لم يكن ذلك المنحرف إمام مسجد هل كانوا سيكتفون بأخذ تعهد عليه ؟ وهذا يذكرنا بإمام المسجد الذي جمع بين ست زوجات في آن واحد مبرراً ذلك بجهله أمراً يعرفه طلاب المرحلة الابتدائية ، مما يؤكد تواطؤ بعض القضاة مع من يدعون الدين وينتسبون إلى مؤسساته ، المهم هو ألا يكون ممن يحسبون على التيار المتنور، وليس من فئات المجتمع الأخرى التي لا تلتزم بالمظهر الشكلي لرجل الدين ! إن الصمت عن كثير من تلك الجرائم والاعتداءات ليس إلا انحيازاً غير مبرر ، انحيازاً لا يقره الدين الذي أمر المسلم بالعدل والقسط ولو كان الخصم ذا قربى !.[c1]عن /صحيفة ( الرياض ) السعودية [/c]