في الذكرى الـ (18) لرحيل الموسيقار أحمد بن أحمد قاسم
دلت الحالات والنماذج الشعرية والغنائية الموسيقية التي تحدثنا عنها في كتاباتنا الفنية النقدية عن الفنانين والشعراء الذين تناولنا بعض أعمالهم الشعرية والغنائية وعياً نظرياً وفكرياً بالجمال، ولدى عدد آخر ممن لم نأت على ذكرهم، ولما كان الشعر وسيلة الشاعر للتعبير عن إدراكه بأهمية الجمال، فقد انشغل بالقصيدة أو الأغنية ومنحها أقصى اهتمامه، ويظهر ذلك جلياً في اشتغال البعض على اللغة وعلى اللهجة من ناحية، ومن ناحية أخرى من خلال اشتغال البعض الآخر على الكلمة/ المفردة ومشتقاتها والمستعمل منها والمهمل، أو الاشتغال عليهما معاً، والاهتمام بالصورة والمكان والزمان وغيرها من المضامين التي لايمكن أن تنهض القصيدة (الأغنية) بدونها.ويبدو واضحاً وجلياً اهتمام الموسيقار أحمد قاسم وإدراكه بضرورة تطوير وإبراز النواحي الموسيقية الدالة على معان وصور تعبيرية تصويرية ذات رؤى هندسية معمارية فلسفية وجمالية في ألحانه وأغانيه ذائعة الصيت المنتشرة والرائجة على امتداد الجزيرة العربية والخليج والوطن العربي بأسره.نجح الموسيقار أحمد قاسم في تعاطيه مع الشعر الغنائي بتفوق واقتدار غير مسبوق مدعماً باشتغالات واعية تستند على أهمية إضافة أبعاد إبداعية جديدة مسموعة ومرئية موسيقية علمية أكاديمية في أعماله وألحانه تضاف للنص الغنائي وترتقي به إلى مدارات تحمل مضامين معرفية ثقافية كونية غير متناهية، ما سنتطرق إليه نموذج يؤكد حالة من حالات التوحد الإبداعي الفكري بين قطبين هامين شكلا (ثنائية غنائية) وبصمة هامة في مسار تاريخ الغناء اليمني الحديث والمعاصر الموسيقار أحمد بن أحمد قاسم والأديب الشاعر لطفي جعفر أمان في قراءة نقدية لهذا العمل الفني البديع (أغنية في جفونك).في الواقع يعتبر المرحوم الشاعر الكبير لطفي جعفر أمان خير مثال للاشتغال الشعري على اللهجة والمفردة معاً من خلال حرصه على جمال الكلمة وعنايته بها لفظاً ومعنى ومبنى ما يمكن تشبيهه بالصناعة الدقيقة المبنية على عذوبة المنطق ومراعاة النسب اللفظي بين الحروف.في أغنية (في جفونك) من الحان وغناء الفنان أحمد قاسم نجد مثالاً على هذا الاشتغال الفني على اللهجة والمفردة والصورة الموسيقية المتكاملة.(في جفونك مرود السحر استوىيا مكحل بالهوى ..شوف ما سويت في القلب استوىوهوى .. وهوىمن عيونك .. من عيونك)فنحن نرى في هذا النص الشعري الغنائي رغم أن كلماته تبدو عادية في القراءة الأولى لكن في القراءة الثانية سنجد(الصورة الفريدة لديناميكية الحب وكيميائيته) التي اعطت النص (رفعة وطاقة دياليتكية)، ما يجعلها (الأبيات) والاشتغال النغمي الموسيقي بمصاف نص بصري، فنحن لانقرأ النص أو نسمعه هنا فقط، بل نرى ذلك (التفاعل الكيميائي لذلك القلب العاشق)، وقد انتقلت إليه شحنة الحب وذبيبها من قلب الحبيب المكحل بالهوى، ونحس خفقانه، واشتعال نار الغرام فيه.إن أغنية (لطفي/ أحمد قاسم) تتميز دائماً بفنها الرفيع وجماليتها، ونسيجها اللغوي، وصياغتها الشعرية واللحنية الحساسة مع ما تحتويه من اناقة لفظية ونغمية ومعانٍ سامية تنسجم وتتناغم مع شاعر بحساسية ورهافة وأناقة وتناغم لطفي أمان مع روحه وذاته ونصه الشعري، وملكات وفذاذة ورومانسية الموسيقار العبقري أحمد قاسم.ونلحظ في الأبيات التي جئنا على ذكرها، كيف أورد المفردة (مرود) وفي أي سياغ شعري استخدمه وكيف وظف هذه الكلمة (المهملة) التي نادراً ما تستخدم فجعلها أيقونه في مطلع الأغنية (في جفونك مرود السحر استوى).إن هذا المطلع الساحر يدل على أن لطفي أمان وأحمد قاسم كان لديهما وعي واضح بقضايا الجمال والأسس الدقيقة في إدراكه والإحساس به، كما تمتعا في الوقت نفسه بالقدر ذاته من الوعي بجمال اللغة العربية فحرصا على (تصوير المعاني في الأغنية) بالألفاظ التي بها وتدل عليها.فبعد إن حدد (لطفي) مكنون السحر في جفون الحبيب فإنه يفيد من المعنى الذي يكمن وراء ذلك المعنى الذي أراده فيخرج به من حيث المألوف والمعتاد إلى استشفاف معنى جديد من اللفظ السابق للإرتقاء به (يامكحل بالهوى) الذي يثير الدهشة في نصه الجمالي، فلو قال إن حبيبه مكحل بما تكحل به النساء أي (الكحل) لما أصبحت معشوقته ذلك النموذج للجمال الساحر أو لسحر الجمال، ولما استدعى منه ذلك أن يتغنى بها طالما هي كسائر النساء في جمالها وفي زينتها مالم يكن الشاعر نفسه هو الذي يسمو بها في شعره إلى مصاف جمال لم تبلغه النساء من قبل (!).أبدع الموسيقار الراحل أحمد قاسم في لحن الأغنية على مقام (السوزناك)، ثم ينتقل في الكوبلية إلى مقام آخر في هذه الأبيات: (با أهب لك ما تشتي وأكثر، يا حلا في كأس كوثر، بس قلي يا قمر ملفوف بعنبر، يا مشدر أيش أهب لك؟ با أهب لك) مستخدماً مقام (الحجاز على درجة الصول) ثم يعود إلى المقام الأساسي (السوزناك)، وكان موفقاً للغاية في استخدام إيقاع (الرومبا) الذي يكتب (4/4)، وفي هذه الأبيات الرائعة يصف الشاعر معشوقه فهو حلا في كأس كوثر، وهو قمر ملفوف قوامه البديع بعنبر، (والمشدر) الذي لايمكن أن يحجب فتنته شيء، بل يزيده فتنة ودلالاً، وفي الحقيقة إن المستمع للأغنية ومطلعها في (المذهب) بصوت أحمد قاسم الجهوري (الذهبي) يدرك ماهية ووظيفة فن الغناء والأداء العميق في أبهى صوره وتجلياته في هذه الأبيات: (في جفونك مرود السحر استوى، يا مكحل بالهوى، شوف ما سويت بالقلب استوى، وهوى .. وهوى، من عيونك .. من عيونك). حوار لغوي بلاغي موسيقي نغمي ترجمه بتألق موسيقارنا واستطاع إيصال أحاسيسه ومشاعره وخلجاته إلى المستمع فهو يحترق لوعة وصبابة وهياماً في مخاطبة المعشوق الحبيب الذي يرى في جفونه وعيونه العالم بأسره ولايستطيع حياله إلا التضحية بنفسه وحياته مهما كانت النتائج وعواقبها.(كوبليهات من الأغنية)يا معطر يا الذي بانك علاكلما تخطر دلاخطرتك في القلب نشوى وسلايا حلا .. يا حلازيد تخطر.. يا معطر* * * شوف جروحي نظرتك أم بسمتكقتلت؟ أم خطرتك؟آه يا قاتل ومحيي ميتكفديتك .. فديتككل روحي .. كل روحي