تشهد بلدان عربية كبيرة ومهمة أزمات واضطرابات سياسية غير مسبوقة منذ مطلع العام 2011م الذي افتتح العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين بما هو مقدمة الألفية الثالثة التي ارتبط ظهورها بتحولات عاصفة ومتسارعة أسهمت في تغيير بنية العالم وإعادة صياغة العمليات الجارية في مختلف حقول العلم والفكر والسياسة والاقتصاد والعلاقات الدولية، وما يترتب على ذلك من ضرورة إعادة تعريف العديد من المفاهيم المتعلقة بقيم الحق والعدالة والحرية والسلطة والثروة والمعرفة والأمن والسيادة.في سياق هذه التحولات غير المسبوقة برزت العولمة كمنظومة جديدة من الإشكاليات والتناقضات والعمليات المعقدة، لتطرح أمام العقل عددا من الأسئلة والتحديات التي تتطلب أجوبة غير مسبوقة ، لا تستطيع الايديولوجيا توفيرها ، ولم يعد بمقدور صيغ التفكير المطلقة والقوالب الجاهزة معالجة معضلاتها.لا ريب في أن العالم المعاصر يشهد متغيرات و تحولات غير مسبوقة في ظل النظام الكوني الجديد الناشئ .. وفي هذا العالم المتغير يواجه اليمنيون والعرب والمسلمون تحديات حضارية بسبب الفجوة الحضارية التي تفصلهم عن عالم الحقيقة الواقعي ، وتعاظم إحساسهم بقوة صدمة ما بعد الحداثة .. فالعالم العربي والإسلامي لا يزال عاجزا عن الإجابة عن أسئلة صدمة الحداثة الأولى التي داهمته قبل مائتي سنة ، وتقتضي هذه التحديات تشغيل مفاعيل الاستجابة لها كضرورة يستحيل بدونها عبور الفجوة الحضارية التي تحول دون الحضور الفاعل للمجتمعات العربية والإسلامية في هذه الحقبة من تطور العصر والعالم .الثابت أن هذه الاستجابة تصطدم بهاجس الشعور بالعجز الذي يبحث أحيانا عن مسوغات لتبرير العجز ، بدلا من البحث عن محفزات لتجاوزه ، وهو ما يفسر الميول إلى إعادة إنتاج الخطاب المحبط الذي تم التعاطي معه عند الصدمة الأولى في بداية الأمر، ثم التمرد عليه ورفضه والتشكيك به واستبداله بالسلفية المتحجرة في وقت لاحق .يقينا أن التخلف ليس قدرا مطلقا .. ولعل ما يميز الواقع اليمني والعربي والإسلامي في عصر العولمة وما بعد الحداثة الذي تزامن مع ميلاد الألفية الثالثة من التاريخ الميلادي ، عن عصر الحداثة الذي دشنته الثورة الصناعية الأولى والثانية قبل ثلاثمائة عام ، هو استمرار تخلفه بوتائر متصاعدة ، مع وجود فرص موضوعية لتجاوز واقع التخلف .صحيح أن العالم العربي والإسلامي تخلف عن اللحاق بعصر الحداثة الأولى الذي دشنته الثورة الصناعية والتقنيات العلمية في القرن السابع عشر، وبلغت ذروتها في القرون الثلاثة الأخيرة ، وكان من نتائجها تقسيم العالم إلى مركز مهيمن وأطراف تابعة ومعزولة ، وما ترتب عن ذلك من عالمية ذات طابع عمودي.لكن عصر الثورة الالكترونية ، بما هو عصر العولمة وما بعد الحداثة يتسم بالنزوع إلى تغيير خارطة العلاقة بين مفاعيل النظام الكوني .. فالمادة لم تعد عضوية وآلية بل اليكترونية ومعلوماتية .. وبالمقابل لم يعد الفكر يبحث عن الحقيقة من خلال المعطيات الموروثة والقائمة فعلا ، بل من خلال المعطيات التي يهتم العقل بالتفكير في إبداعها وإنتاجها عبر تقنيات المعلومات وشبكات الاتصال ، وما يترتب عن ذلك من تغيير العلاقة بين الوعي المعرفي والواقع الملموس.مما له دلالة في هذا السياق أن الآلة بوصفها أبرز معطيات الحداثة الإنتاجية في حقبة الثورة الصناعية ، أنتجت وقائع وحقائق جديدة ، ووحدت العالم في شبكة علاقات ذات طابع عمودي .. بيد أن دخول الرقم كعنصر حاسم في الإنتاج الاليكتروني جعل الواقع والحقيقة مفتوحين أمام تحولات بلا حدود .. بمعنى إمكانية إكساب العالم الواقعي بنية أفقية اندماجية لامتناهية ، بعكس عالم الثورة الصناعية العمودي والمجرد!!كانت التناقضات في عالم الحداثة الصناعية قائمة بين بنى وهياكل محورية ذات حدود صارمة ، وبين فواعل ومفاعيل ترتبط فيما بينها بعلاقات عمودية .. أما عالم ما بعد الحداثة فهو يتسم بميله لأن يتحول إلى بنية سوقية محورية و مندمجة، تصبح التناقضات معها قائمة بين فاعلين متميزين بطريقتي تفكير متناقضتين .. الأول يفكر بعقلية ديناميكية ويعمل على تطوير أنماط التفكير والعيش من خلال الاندماج ضمن سوق كونية تتوافر فيها فرص غير مسبوقة لتبادل المعطيات من أفكار وسلع وخدمات ومعلومات ، فيما يفكر الآخر بعقلية انعزالية تقليدية ، ويصر على العمل وفق قوالب مدرسية نقلية، وأفكار ماضوية جاهزة ، ما يؤدي إلى إهدار الفرص المتاحة للتقدم ، والاستمرار في إعادة إنتاج العجز ، وتهميش الذات بالذات نفسها!!من المفارقات التي تميز عصر العولمة وما بعد الحداثة عما قبله ، انه ينطوي على حوافز وفرص تفتح إمكانات هائلة أمام كل من يرغب في الاندماج به للتأثير في مفاعيله الداخلية وتغيير قواعد حركتها .. بمعنى أن العولمة فضاء مفتوح للمجايلة والمشاركة والاشتغال على معطياتها ووقائعها من خلال قدرات معرفية وأنساق ذهنية ، لا قدرات مادية عضوية كما هو حال الحداثة الصناعية .يقينا أن ذلك يتطلب طريقة تفكير جريئة واقتحامية تجترح صيغا جديدة للانفتاح والعمل والنمو والتلاقح والتفاعل ، بدلا من لعن العولمة والبكاء على أطلال الهوية والخصوصية والسيادة.. وبهذا فقط يمكن للمهمشين المشاركة في جدل العصر ، وتجنب البقاء على الهامش .لقد أضحت صورة العالم بالغة التعقيد .. فالعولمة تشكل اليوم منظومة عالمية من التناقضات والعمليات المركبة ، حيث تتداخل الأسواق المالية ويتسع الانتقال الفوري للمعلومات والمعرفة عبر تكنولوجيا الاتصال التي تضغط على الزمان والمكان ، ويتكامل نظام عالمي للإنتاج والتسويق والاستهلاك بقيادة شركات عملاقة متعددة الجنسيات وعابرة الحدود والقارات، فيما يتم تسويق أجندة سياسية كونية تعيد تعريف الجغرافيا السياسية والاقتصاد السياسي استنادا إلى الفلسفة الليبرالية الجديدة في المسائل المتعلقة بوظائف الدولة والثقافة والأسواق.يزيد من تعقيد صورة العالم الذي يتجه بخطى متسارعة نحو ذرى العولمة وما تنطوي عليه من إشكاليات ، أنه يعاني من بيئة طبيعية غير متوازنة تهدد قدرة كوكبنا الأرضي على توفير حياة آمنة للبشرية ، فيما تواجه جغرافيا هذا الكوكب تحديات وضغوط العمليات السياسية والاقتصادية الرامية إلى إعادة تنظيم الحيز والمساحة ، وإلغاء الحدود والموانع التي تحول دون حرية مرور رؤوس الأموال ومنتجات الثورة الصناعية الثالثة .لا يخلو العقل من ضغوط التحولات التي تحدث في بنية العالم وصورته تحت تأثير العولمة، إذ يبدو مهموما بحراك الخيال العلمي الذي يسعى لاستشراف آفاق غير محسوبة لمجتمع إنساني عالمي يتجاوز الدولة والهوية. . وفي سياق كهذا يتراجع دور ومكانة الثقافة الشمولية، ويزداد مأزق مخرجاتها المصابة بالجمود العقائدي والوهن الذهني والتفكير المعلب، بعد أن تحولت إلى لا وعي ٍ يعادي المعرفة ، ويعيد إنتاج مشاريع وأفكار ٍ بالية ٍ أفلست من أي رصيد أو إنجاز قابل للاستمرار .إلى أين سيأخذنا هذا العالم المتغير بإيقاع متسارع يفضح عجز الأفكار الجامدة والسياسات الخائبة والمشاريع البالية أمام مرآة التحولات الجذرية ؟ ومتى نقوى على فهم هذا العالم والاستجابة لتحدياته ؟يقول ابن خلدون في مقدمته الشهيرة : « إن أحوال العالم والأمم والناس وعوائدهم ونحلهم لاتدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر ، إنما هو الاختلاف على الأيام والأزمنة والانتقال من حال إلى حال.. وكما يكون ذلك في الأشخاص والأوقات والأبصار ، فكذلك يقع في الآفاق والأقطار والأزمنة والدول » .لا يعيب الإنسان ، كما لا يعيب الأحزاب والحركات السياسية والمفكرين والمثقفين والسياسيين ممارسة الحرية القصوى في النقد الموضوعي والنقد الذاتي ومراجعة الأفكار والسياسات وتجديد طرائق التفكير والعمل ، والبحث عن أجوبة جديدة عن الأسئلة غير المألوفة التي تطرحها متغيرات وتناقضات الحياة ، وصولا إلى اختيار وجهة التطور .ولا قيمة للسياسة حين تكون عاجزة عن المبادرة والاكتشاف .. ولا دور طليعيا للعقل حين لا يجترح تعب البحث عن الحقيقة ، ولا يدرك ضرورة إعادة اكتشاف واقع ٍ بحاجة إلى المزيد من الكشف، وإعادة بناء السياسة والفكر السياسي من أجل فهم أعمق للمتغيرات التي يشهدها الوطن و التاريخ والعالم والحضارة البشرية في هذه الحقبة من مسار تطور عصرنا الراهن.ما من شك في أن التحول نحو الديمقراطية أضحى واحدا من أبرز هذه المتغيرات التي لا تخلو بالضرورة من التناقضات والإشكاليات المعقدة .. والحال أن ثمة علامات بارزة في مسار الديمقراطية الناشئة في بلادنا وهي الميل نحو مزيد من حرية التفكير وحرية التعبير وعلنية المناقشات ، بيد أن الحرية والعلنية غير معصومتين على الدوام من الانحراف نحو الفوضوية ، الأمر الذي يتطلب أسلوبا واقعيا في التعامل مع المنابع الفكرية والاجتماعية للميول الفوضوية في المجتمع بصرف النظر عن عدم تجانسها .من الخطأ الاعتقاد بأن الجانب الأكثر جاذبية في الفوضوية هو نزعتها المتمردة على الأوضاع والوقائع السلبية ، بل أن الجانب الأكثر جاذبية فيها هو ثوريتها المتسمة بالجموح الفوضوي تارة، ونفاد الصبر ضد كل شيء تارة أخرى .وهنا تبرز أهمية الديمقراطية في التعامل مع الجانب الأول بوصفه احتياطيا مباشرا لايديولوجيا القفز على الواقع، وما يترتب عنها من انحرافات انتهازية، ومع الجانب الثاني بوصفه خطرا مباشرا على التطور الموضوعي للديمقراطية، وتهديدا بالعودة إلى الشمولية والاستبداد . وبوسع التحليل النقدي للانحرافات الانتهازية أن يقودنا إلى استنتاج هام ، وهو أن بروز تلك الانحرافات ارتبط على الدوام بمصادرة الديمقراطية وتضييق قنواتها وتعطيل أطرها، بقدر ما ارتبط النضال ضد تلك الانحرافات بممارسة الديمقراطية وإشاعتها في المجتمع.من نافل القول أن إرساء دعائم المناقشات الحرة والعلنية بين مختلف الأفكار والآراء ، يعد من الناحية العملية نقدا مباشرا للأخطاء التي ارتكبت في الماضي، أثناء هيمنة الثقافة السياسية الشمولية ونزعات التفكير الدوغمائي التي ارتبط وجودها بغياب الديمقراطية، والثابت أن تنوع الآراء والأفكار والخيارات في مجرى الممارسة السياسية لا يضعف وحدة المجتمع ، بل إنه يساعد على أن تكون مهمة إعادة بناء السياسة وتطويرها غير محصورة في نخب فوقية أو أوليغارشيات إقطاعية وقبلية وتجارية تحتكر الممارسة السياسية بصورة مطلقة.[c1]*عن / صحيفة ( 26 سبتمبر )[/c]
|
فكر
تحولات غير مسبوقة ( 1 ـــ 4 )
أخبار متعلقة