* منذ أكثر من مئة عام دعا مصلحون اجتماعيون وسياسيون عرب حكوماتهم إلى ضرورة الإصلاح، وتوارث آخرون هذه الدعوة وطوروها جيلاً بعد جيل .. طالبوا حينها أو في ذلك الوقت المبكر بإصلاح التعليم.. إصلاح الخطاب الديني .. إصلاح إداري .. إصلاح سياسي.. إصلاحات قانونية تكفل المساواة والعدالة.. وإصلاح اقتصادي .. وقالوا إذا كانت الشريعة في الماضي تقول إن الناس شركاء في ثلاث : الكلا والماء والنار ، فإن هذه الثلاث صارت اليوم الطعام والإرواء والطاقة .. الشراكة في الثروات الزراعية والنفطية والغازية والبحرية.. وهذه وغيرها من الثروات يجب إدارتها إدارة كفؤة وتوزيعها توزيعاً عادلاً لصالح السكان.منذ أكثر من مائة عام والدعوة نفسها هي الدعوة، ولم تقم الحكومات بتلك الإصلاحات التي كان يتعين أن تكون من القضايا المفروغ منها في الدول العربية.. وما حدث بالضبط هو العكس تماماً .. التعليم أسوأ مما كان عليه والخطاب الديني كذلك ، وازدادت أعداد الفقراء وتعمق التراتب الاجتماعي والفوارق بين الطبقات .* كان الحكام يركنون إلى رجال الدين الذين يجاملونهم بترديد تراث الفقهاء القدامى الذين انتجوا “ الأداب السلطانية” وقالوا لهم اثبتوا مكانكم واطمئنوا إن “الشريعة” لم توجب عليكم سوى كف الأذى عن “الرعية” و “ حماية البيضة” والنظر في المظالم والفصل في الخصومات والتودد إلى الرعية وعدم أخذ أموالها ، والرأفة بالدعار والمجرمين، ومن الرأفة عدم القتل ، بل تشاد لهم السجون لتكون قبوراً للأحياء مع مراعاة أن تكون السجون نظيفة يتوافر فيها الطعام وأماكن للعبادة ، على أن يفصل بين السجناء حسب الجنس والجرم والمرتبة، فيكون للرجال قسم والنساء قسم وعتاة المجرمين يفصلون عن الأقل خطراً.وكانوا يقولون للحكام ليس عليكم تجاه “ الرعية” التزام غير ذلك ، بل إن “ الشريعة” توجب على “ الرعية” طاعة ولي الأمر والدعاء له وتعليم الأولاد ذلك ، فإن من إجلال الله إجلال السلطان” ومن واجب الرعية” تمكين ولي الأمر من التصرف في المال ، وعدم التدخل في السياسة وتأويل الشريعة ، وأن لا يتتبعوا أسرار السلطان وعليهم تعظيمه وتفخيمه في الظاهر والباطن ، وإذا علموا أنه مسرور وفرح فليظهروا الاستبشار بذلك وفي مبدأ عام على الرعية أن تنصرف إلى الكد والكسب “ والباقي” على الله، و”السلطان” ظله في أرضه!.* لقد ركن الحكام إلى الفقهاء الذين ظلموا ، وإلى رجال الذين جعلوا من أنفسهم “ أحذية” تداس بها دعوات الإصلاح وتقهر بها القوى التقدمية .. ومن أعباث القدر أن معظم رجال الدين اليوم صاروا حرباً على الحكام أو في مقدمة خصومهم .. يسمون الحكام طواغيت وفراعنة وينادون بإسقاطهم .. وقد ظهر هذا التحول بداية ظهور ميول لدى الحكام نحو الإصلاحات وبناء دولة المؤسسات وإضعاف دور قوى التخلف والرجعية.. فرجال الدين يناهضون الحكام العرب ويدعون إلى إسقاطهم ليس لشيء سوى أنهم لم يمكنوا الأحزاب الدينية من الحكم .. وهذه المناهضة والدعوة لإسقاط الأنظمة العربية تنشط من أجل إحلال رجال الدين والأحزاب الدينية محل الأنظمة .. أي تكريس التخلف الذي كانت الأنظمة القائمة قد شرعت في محاربته من خلال مجموعة من القرارات والإجراءات المتعلقة بالإصلاح الشامل.
أخبار متعلقة