قصة قصيرة
أظهرت لنا الحياة العصرية التي نعيشها حالياً في ظل العولمة رجلا غريب الأطوار من رجال الأعمال الكبيرة،فقد كان قليل الكلام قليل الأصدقاء،لا يؤمن بالعلاقات الإنسانية..الحياة عنده بشيء مادي وملموس.وهي من الممكن أن تصبح لا شيء إذا لم تترجم في النهاية إلى أرقام تضيف إلى رصيده في البنوك رصيد جديدا كان وحيداً بلا زوجة ولا أولاد ولا قريب ولا صديق وكانت السعادة عنده عمل ومال وصفقات جديدة مربحة..فهو لم يجرب طعما آخر لها لأنه لا يعرف من أين يأتي هذا المذاق؟.وفي عودته إلى البيت في مساء أحد الأيام،صدمت سيارته رجلاًَ كان يعبر الشارع ومات الرجل وقضت المحكمة لأرملته بتعويض كبير وحكمت عليه بالسجن ستة أشهر مع إيقاف التنفيذ.وجلس الرجل يكتب أول رسالة لأرملة الرجل الذي لقي مصرعه تحت عجلات سيارته..وكانت قصيرة جداً كالعادة مثل بقية الرسائل التي تعود على كتابتها أو إملائها على سكرتيرته.فقط كانت هذه المرة مختلفة في الأسلوب والهدف..كانت تحمل العزاء للزوجة المسكينة وتحمل معها شيكاً بمبلغ كبير يزيد كثيراً على المبلغ الذي قضت به المحكمة تعويضاً لها عن فقدها زوجها.وانقضت بضعة أسابيع،ثم حدثت المفأجاة.لقد أعادت الأرملة الحزينة الشيك ومعه رسالة قصيرة “شكراً وأعيد إليك مالك،فليس في الدنيا شيء يمكن أن يعوضني عن زوجي الذي فقدته!”.نزل إلى الشارع يحمل الرسالة التي هزت كيانه هزاً.فقد أكتشف لأول مرة أن هناك ما هو أثمن وأغلى بكثير من المال الذي تمتلئ به خزائنه..كانت أقصر رسالة تلقاها في حياته..ولكنها حملت معها معنى جديداً للحياة التي عرفها هو.وذهب يبحث عنها..كان يريد أن يرى هذه المرأة كان يريد أن يكتشف هذا “المعدن” الجديد من البشر..ووجده.كانت تقف بملابس الحداد وراء البيت الصغير الذي حطمه.لم تكن تنتظره هو على أي حال،إنما كانت تنتظر ساعي البريد الذي لمحته من النافذة.وفهمت من الرسالة التي كان يحملها في يده،ويلوح بها، أنهالها. لابد أن أمها قد قررت المجيء كما وعدتها.وما كادت تسمع الطرق على الباب حتى سارعت تفتحه..فإذا بها وجهاً أمامه.. كانت تعرفه ..فقد رأته في المحكمة وسمعته وهو يدافع عن نفسه..أما هو فقد كانت هذه أول مرة تقع فيها عيناه عليها..امرأة شابة لم تتجاوز العقد الثالث من عمرها،في عينيها ألذابلتين جمال حزين لم يخطئه..فقد كان يتفرس في وجهها ويتأمله.أليس هذا هو السبب مجيئه..إليها؟!.ردت تحيته ببرود.ثم تركته ريثما تفض الرسالة التي سلمها إليها ساعي البريد الذي كان قد وصل لتوه.كانت رسالة طويلة ولكنها استطاعت أن تختلس منها تبحث عنها..ودمعت عيناها..وأخرجت منديلها لتمسح به دموعها،ثم جاء صوته:هل استطيع أن أفعل لك شيئاً..أي شيء ؟!.أشكرك،فقد فعلت الكثير،أرجو أن تعذرني فإنني متعبة وفي حاجة إلى الراحة.ودخلت وأغلقت الباب،وألقت بنفسها على أقرب مقعد وراحت تبكي كما لم تبك من قبل.لم يخرجها من أحزانها إلا صوت طفلتها وهي عائدة من المدرسة.أمي..قابلت رجلاً غريباً عند باب البيت وأعطاني هذه الرسالة لك.وقرأت الأم الرسالة:”عرفت اليوم معنى الحياة يا سيدتي.إنه شيء مغاير تماماً لما كنت أعرفه.أرجوك أن تصفحي عني،فأنا لا أملك أمامك إلا الرجاء”.وفي مكتبه جلس يكتب أخرى إلى محاميه:”أرجو أن تخصص نصف ثروتي لملاجئ الأيتام بعد موتي،ولكن الآن،فأنا أريد أن أعيش وأرى البسمة تعود إلى هذه الوجوه المحرومة”.