نبض القلم
من الفاظ الهجاء والمدح الشائعة في مجتمعنا لفظا (التشدد) و(التسامح) فاذا أراد الناس ان يذموا رجلاً ويشنعوا عليه قالوا عنه انه (متشدد) واذا أرادوا أن يمدحوه ويثنوا عليه قالوا انه (متسامح) فما هو نصيب هذا من الحق؟ وما أثره في حياتنا الاجتماعية؟.هناك حقوق للأفراد وحقوق للجماعات، ومن حقوق الأفراد ما هي أساسية لا يعتبر الإنسان سعيداً في الحياة بدونها، كحق الحياة، وحق الحرية، وحق العلم، وحق العمل، وحق الكرامة.. ومن واجبه ان يدافع عنها ويتعصب لها، بل ويتشدد ازاءها.فانت من حقك ان تدافع عن حياتك وتتشدد لهذا الحق، ومن اراد الاعتداء على حياتك فدافعته بكل ما تمتلك من وسيلة، كنت معذوراً في نظر الشريعة والقانون، ولن يعيبك أحد على ذلك أو ينعتك بالتعصب. وقل مثل ذلك في حقك بالحرية، الحرية في جسمك، الحرية في فكرك، الحرية في عقيدتك، ولا ينكر عليك حق الدفاع عنها والتعصب لها، وكذلك حقك في العمل والكسب، انه حق مقدس فلا يجوز لاحد ان يمنعك الأكل او اللباس او السكن او حاجاتك الضرورية.وهكذا يكون تشدد الانسان لحقوقه الأساسية ودفاعه عنها فضيلة يحمد عليها وتسامحه فيها نقيصه يذم عليها ويلام من أجلها.أما في الحقوق الجزئية الثانوية كحقك على فلان بمال استدانه منك، أوحقك في أرض ينازعك فيها غيرك، فالتمسك بحقك مشروع لا عيب فيه، وان كان التسامح فيه من مكارم الاخلاق.أما حقوق الأمة كحقها في السيادة الوطنية وحقها في الاستقرار والأمن وحقها في السعادة، فهي حقوق مقدسة لا يجوز التفريط فيها بل يعتبر التفريط فيها خيانة وطنية تستحق العقوبة البالغة.فيا ترى لو ان رئيس الدولة تسامح في حق أمته، وفرط في استقلال بلده ولم يحافظ على سيادتها، هل هو في مثل هذه الحالة يستحق المديح او الثناء أم هو خائن مفرط في حق أمته وبلاده يستحق العقاب؟.فهل يا ترى يعاب على رجل الدولة ان يكون شديداً في تطبيق القانون متمسكاً بمبدأ العدالة بين أبناء الشعب، متحمساً للحق، شديد النكاية بالعابثين بالأمن والاستقرار؟ أذلك مما يعاب عليه أم يمدح به؟ان تشدد المرء لحقوقه الضرورية وتعصبه لحقوق أمته وبلاده خلق كريم يعود على المجتمع بالخير والبركة، كما ان تفريطه بذلك وتسامحه فيه خلق ذميم ينشأ عنه فوضى في المجتمع، واهدار لكرامة الأمة وسيادة الدولة. ومن هنا عاب الناس على رئيس الدولة تسامحه مع الحوثيين الذين تمردوا على الدولة وحاربوها لعدة مرات، عابوا عليه لانه لم يحسم الأمر معهم، بل تركهم حتى قويت شوكتهم، واستفحل أمرهم فعاثوا في الارض فساداً. لذا كان الواجب التصدي لهم قبل استفحال أمرهم وقوة نفوذهم، لتأكيد هيبة الدولة واظهار حزمها مع العابثين بالأمن والاستقرار.ومن هنا نلمس عظمة أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين وقف ذلك الموقف الحازم الشديد من المرتدين، فلقد اراده بعض الصحابة ان يهادنهم ويجيب بعضهم الى ما ارادوا الامتناع عن دفع الزكاة لخزينة الدولة، فأبى ذلك وخالفهم جميعاً وقال قولته المشهورة: «والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه الى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه».انه هنا وقف موقف المتشدد في حق الأمة والتمسك بقوانينها وأنظمتها والحريص على نصيبها من أموال الأفراد، فهو هنا في تعصب حميد، لانه تعصب لحق الأمة وأنكر من تمرد عليها.والقيادة الحقة في أي مجتمع هي التي تأخذ بيد المظلوم وتضرب بيد من حديد على الظالم وتحفظ كرامة البائسين والضعفاء والمشردين، وتوازن بين الأقوياء والضعفاء حتى لا يطغى قوي ولا يمتهن ضعيف، وبهذا نقف أمام صلابة الرسول صلى الله عليه وسلم في موقفه من كفار قريش حين دعاه عمه أبو طالب الى التخفيف من اندفاعه في مواجهة قريش، وايقاف دعوته فقال قولته الشهيرة: «والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على ان اترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه». فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يستجب لوساطة عمه أبي طالب في التخلي عن مسؤوليته في نشر الدعوة، لانه قائد أمة وحامل رسالة سامية، فلو كان استجاب لوساطة عمه وخضع لضغوطات قريش لما كان الاسلام قد وصل الى ما وصل اليه من مجد وخلود، وهذه هي حقيقة التشدد الحميد للأمة ومبادئها وينتفي التسامح في مثل هذه الحالة، أما التشدد الذميم هو اضطهاد المخالفين في الفكر والرأي والعقيدة والحقد عليهم، وإساءة معاملتهم وسلب أموالهم، واهانة كرامتهم، كما يفعل الجهلاء من اصحاب العقائد الضالة، في صعدة وفي غيرها الذين دفعهم تعصبهم لمذهبهم الى محاربة الدولة والتمرد على الأنظمة والقوانين السائدة، وهو ما يؤدي بالمجتمع في صعدة وغيرها الى الشقاء والخراب ويؤدي بالناس الى التشرد.إن مآسي الحروب والفرقة والعداء والفتن، ليست ناشئة عن التشدد لتثبيت النظام والقانون في المجتمع، وانما هي ناشئة من التشدد اللئيم للجهل والحقد والخرافة والمنطقة والقبيلة، فاذا ما تشددت الدولة للدفاع عن السيادة وتثبيت القوانين والانظمة فانها بذلك تتشدد لحق الأمة في الكرامة والسعادة وحق الوطن في العزة والسيادة.[c1]* خطيب جامع الهاشمي الشيخ عثمان[/c]