الوحدة اليمنية في التراث الفكري للحركة الوطنية
منذ أن هبطت القوات البريطانية الجديدة في أرضنا..ونحن نسمع من يقول لنا:إن اليمن في محنة.. لقد كشر لها الخصم عن نابه.. وتحركت القوات من قواعدها في قبرص والقنال وشارفت الحدود.. فلتقف حملاتكم على اليمن.. هادنوها.. كفوا أقلامكم الحادة عنها..ولاتطعنوها من الخلف إن لم تستطيعوا أن تنصروها وتشدوا أزرها.هكذا يقولون .. وبعضهم أخوة أعزاء وأصدقاء كبار نكن لهم شعور الأبناء للآباء.. ونستشف من كلماتهم نبرة الإخلاص والحب العميق لنا ولليمن..وآخرون مغرضون أذناب تفضحهم سحنهم الماكرة ويدل عليهم ماضيهم النتن للوصول بحاضرهم المكرس لخيانة الشعب.. وهم ينوحون ويتباكون الآن ويكادون يفجرون عيون الرثاء والإشفاق على اليمن في محنتها الموهومة.. وقصدهم الأصيل خداعنا وكسب الوقت في معركة الحياة والموت بيننا وبين أسيادهم، ولهؤلاء جميعاً نحب أن نقول:إن أقلامنا لم تخط يوماً من الأيام كلمة واحدة ضد اليمن.. وماكانت أبداً حرباً عواناً عليها..أجل.. نحن نعترف أننا حاربنا ـ وسنحارب ـ الأوضاع المهترئة الفاسدة في اليمن، وحاربنا ـ وسنحارب ـ بلا هوادة .. الفئة الحاكمة التي تحكم اليمن حكماً استبدادياً كيفياً مطلقاً.واليمن ليست أولئك الحكام الطغاة.واليمن ليست الإمام.فلا تخلطوا بينهما.. ولاتذكروها وأنتم تعنون الطغاة الذين يهدرون كرامتها ويصادرون إرادتها..والمحنة التي تواجهها اليمن.. إنما هي محنة الحكام ومن صنعهم.. وماكانت لتكون كذلك لو أن لهؤلاء الحكام سنداً شعبياً ولو أنهم يستمدون وجودهم من الجماهير ويعبرون في سياستهم عن إرادتها.ذلك لأنهم أخضعوا الشعب لسياسة أخرى موجهة، هي سياسة التجهيل والإفقار والتجويع والإرهاب.. وعزلوه في الظلمة.. يتنفس الموت، وتشده ضرورات العيش الأولية وتستغرق كل همومه.. ولايفكر إلا في شيء واحد هو حماية نفسه معيشياً واجتماعياً.وبعيداً عنه انزووا في الأبراج العتمة يرسمون مايسمى «بالسياسات العليا».وهكذا لم يعد يستطيع الشعب أن يرفع رأسه المغروس في الوحل.. ويتلقف سياسة تحاك في الخفاء وتنحدر إليه من أعلى.. حتى لو التقت هذه السياسة في روحها وخطوطها العامة مع أمانيه الوطنية الكبرى.ومن هنا يفقد الشعب حسه بها وإيمانه بضرورتها.. ولاتسندها كتل الجماهير مادامت لم تنبع منها ولاتستطيع أن تعيها.وبالمقابل تفقد هذه السياسة فعاليتها وتهوي إلى صعيد المناورات السياسية والمهاترات الدولية.. والسياسة التي نعنيها بالذات قد أصبحت دجلاً وتهويشاً.. ولعبة مكشوفة يحركها الحكام هناك حسب خطة مرسومة.وأصحابها لايمكن أن يكونوا جادين في أمرهم.. وأمامهم قوة أخطر واعتى.. ولا سند لهم من الشعب.وليس في الجنوب عاقل واحد يرغب في ان يمتد ظلهم شبراً واحداً أبعد من الرقعة التي يفرضون سلطانهم عليها، وكل همهم هو ذر الرماد في العيون والحفاظ على سلطانهم وكيانهم الخاص بواسطة المساومات ولا أقول السياسة..وحتما لن يكون الأمر كذلك يوم يتحرر الشعب من نيرهم ويتبنى تلك السياسة فتستحيل حقيقة حية في واقع الجماهير.فلا تطلبوا إلينا أن نهادن الطغاة.. باسم مهادنة اليمن.. وضعوا أمامكم دائماً ذلك الفارق الخطير.. ذلك الخيط الرفيع بين اليمن وحكامها المفروضين عليها.إن اليمن هي تلك الأرض الطيبة التي تريد الحياة.. وتنشد الخلاص من ظالميها وجلاديها.وهي تلك الجموع الكادحة المنتجة الباحثة عن نفسها وعن مستقبلها وسط العرق والدموع والدم، وتحت سياط الإرهاب والعسف.. وذلك الشعب الجائع المضطهد الذي يتوق إلى الحرية والخبز والأمن.تلك هي اليمن.. اليمن الحقيقة.. اليمن الشعب.. اليمن الأم.. أنها أرضنا الحبيبة ..أرض الميعاد.وباسم هذه الأرض المعذبة ومن أجل أبنائها الضائعين.. نكتب.. ونحارب.وان كانت اليوم حرباً مكتوبة وقودها الكلمة المضيئة والحرف المشع.. فهي غداً حرب تدب في الشوارع وتهدر في الأفق وتزلزل الأرض تحت أقدام الطغاة.[c1]*عبدالله باذيب / النهضة - العدد 28 ، 16 يوليو 1955م[/c]