نبض القلم
في هذه الأيام المباركة يلبي المسلمون دعوة الله إلى حج بيته الحرام، ويبادر المصطفون الأخيار من عباد الله إلى مواطن الرحمة وساحات الإنعام، ويستولي على وفد الرحمن شعور غامر، وشوق زائد إلى اللحظات السعيدة التي يتشرفون فيها برؤية الكعبة المعظمة، التي جذبت القلوب إليها ، وحولت وجوههم في الصلاة نحوها، والتف الطائفون من حولها في مجال روحي جذاب، ومنظر ساحر خلاب.إنهم يشهدون المواطن الشريفة التي نشأ فيها النبي محمد صلى الله عليه وسلم وانطلقت منها أول صيحة للخير ضد الشر، تلك الصيحة التي أنارت الطريق للسالكين، وأهدت الحائرين في ظلمات الشك، وأخذت بيد المتعثرين إلى حيث تكون القوة والعزة والكرامة والمجد. إلى وفد الله في بيته الآمن نتوجه بالتهنئة الخالصة لتوفيق الله إياهم بالاستجابة لدعوته، وقبولهم في الترشيح لنيل جوائز التقدير وأوسمة التكريم، فبشرى لهم، إنهم في حماية الله ورعايته من وقت خروجهم من بيوتهم ، حتى عودتهم إلى أوطانهم ، وإنهم في فيض من رحماته وإنعاماته في حلهم وترحالهم ، في ما يرويه ابن جريج عن جابر رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( هذا البيت دعامة الإسلام، فمن خرج يؤم هذا البيت من حاج أو معتمر كان مضمونا على الله إن قبضه أن يدخله الجنة، وإن رده إلى أهله رده بأجر وغنيمة). وقال أيضاً في ما رواه النسائي وابن حبان عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( الحجاج والعمار وفد الله، إن دعوه أجابهم ، وإن استغفروه غفرلهم). وكما يقول في حديث متفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من حج فلم يرفث ولم يفسق ، رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه). كما أخرج أحمد والطبراني والبيهقي بإسناد حسن عن بريدة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الحج المبرور ليس له من جزاء إلا الجنة). نهنئكم ياوفد الله باللحظات السعيدة التي يذيع فيها رب العزة سبحانه وتعالى في الملأ الأعلى من ملائكته الأبرار نبأ جدارتكم بالتشريف والتكريم ، وذلك حين يباهي بكم في يوم عرفه فيقول: ( انظروا إلى عبادي، أتوني شعثاً غبراً ضاحين من كل فج عميق، أشهدكم إني قد غفرت لهم) رواه البيهقي وابن خزيمة عن جابر. يا وفد الله في حرم الله، أنتم النائبون عنا في المشهد العظيم في هذا المؤتمر الإسلامي الجامع، وأنتم الممثلون لملايين المسلمين في حضور هذه الجلسات الكريمة، ومن حقنا أن نوجه إليكم النصح والتوجيه لتفيدوا من هذه الفرصة الثمينة.إن الحج إلى جانب فائدته الروحية، له جوانب اجتماعية وسياسية في غاية الأهمية، ذلك أنه مؤتمر المسلمين الذين دعاهم الله إلى عقده في دورات سنوية منتظمة، ووضع له من الترتيبات والنظم ما يكفل له النجاح في أداء مهمته على الوجه المطلوب منه. وكلنا يعلم أهمية المؤتمرات في توجيه الحياة العامة، والدور الخطير الذي تقوم به في المجالات السياسية والاقتصادية والفكرية، وغيرها من المجالات، والإسلام في دعوته جاء بأحكم الأصول وأدق التشريعات وأكمل النظم في جميع نواحي الحياة. عندما بوأ الله لإبراهيم عليه السلام مكان البيت، أمره بتطهيره وإعداده لاستقبال الوافدين إليه من ضيوف الرحمن، وبتوجيه الدعوة العامة للناس ليأتوه رجالاً وركبانا وعلى كل ضامر من كل فج عميق، قال تعالى: ( وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت ألا تشرك بي شيئاً وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود، وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق، ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام ). وجاء الإسلام ليجعل حضور هذا المؤتمر فرضاً محتوماً على الناس أجمعين يقوم بأدائه منهم من توفرت عنده الإمكانيات التي تختلف في بعض مظاهرها باختلاف الأزمنة والظروف.قال تعالى:« ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا».وقد حذر الله تعالى تحذيراً شديداً من التخلف عن حضور هذا المؤتمر، فقال « ومن كفر فإن الله غني عن العالمين».ولقد حدد الله ميقات هذا المؤتمر وجعله أياماَ معلومات واختار مكانه الذي هو أول بيت وضع للناس في مكة ، ووضع له آداباً وإرشادات تحفظ نظامه وتكفل له نجاحه قال تعالى: فلارفث ولا فسوق ولا جدال في الحج».وجعل لهذا المؤتمر شعاراً في القول والعمل هو التوحيد الخالص والوحدة الكاملة، فالتلبية الجماعية بكلماتها القوية النافذة، والتكبيرات المتتبعة في المشاعر المقدسة ما هي إلا نشيد إسلامي هادف وهتاف صادر من الأعماق تردده الألسنة فترددها معهم الأجواء، وترن بها الأصداء، وتنطلق بها الحناجر فتهتف لها الملائكة في السماء.إنه شعار يشهد العالم أجمع أن المسلمين لا يخشون إلا الله الأكبر، ولا يذلون إلا لسلطانه الأعظم، فهو وحده لا شريك له، صدق وعده ونصر جنده، وهزم الأحزاب وحده.وفي هذا المشهد العظيم يقف الحجاج في المشاعر المقدسة متجردين من كل مظاهر السلطان طارحين وراءهم الاحساب والأنساب والألقاب، وفوارق الأجناس والألوان واللغات محرمين جميعاً في زي واحد، ضارعين إلى رب واحد، متجهين إلى بيت واحد ساعين لهدف واحد، كل ذلك تصوير قوى لمعنى الوحدة الإسلامية، وتطبيق عملي لمبادئ الحرية والإخاء والمساواة التي حمل لواءها الإسلام قبل أن تنادي بها الأمم المتحدة بمئات السنين.لقد بين الله الغرض من هذا المؤتمر وأوجزه في كلمة عامة جامعة « ليشهدوا منافع لهم» وهي منافع لا تقتصر عند حد معين بل هي منافع فردية جماعية مادية ، أدبية دينية ، ودنيوية ، فكرية وسياسية ، اقتصادية واجتماعية.ومن أقوى الوسائل للحصول على هذه المنافع هو التعاون والتضامن الذي يسوده الإخلاص والانسجام وتزول فيه عوامل الفرقة والتشرذم وتلغى فيه نوازع الشر.فما أحوجنا اليوم أن نستلهم من الحج التعاون والتلاقي والتفاهم لتوحيد الكلمة ولم الشمل ، وجمع الصفوف ، حتى نواجه التحديات التي تهدد وحدة بلادنا والسلام الاجتماعي.[c1] خطيب جامع الهاشمي / الشيخ عثمان