د. حسـن علـي مجلـي *[c1]تجريــم الامتنــاعأولاً : المسئولية الجزائية :[/c]((الشرطي الذي يجاوز حدود سلطاته يتحول إلى لص أو قاطع طريق، كذلك من يتجاوز حدود السلطة المشروعة. سواء أكان موظفاً رفيعاً أم وضيعاً، ملكاً أم شرطياً. بل إن جرمه يكون أعظم إذا صدر عمن عظمت الأمانة التي عُهد بها إليه)).[جون لوك - في (الحكم المدني) فقرة 202] (أ. د. إمام عبدالفتاح إمام، (الطاغية)، الطبعة الثالثة، 1997م).إن امتناع الجهات الحكومية والمؤسسات والهيئات العامة في ((الجمهورية اليمنية)) عن تنفيذ الأحكام القضائية الصادرة ضدها يعتبر جريمة خطيرة لأنه ينطوي على مخالفة لقوة الشيء المقضي به، وهي مخالفة خطيرة لمبدأ أساسي وأصل من الأصول الدستورية والقانونية تمليه الطمأنينة العامة وتقضي به ضرورة استقرار الحقوق والروابط الاجتماعية استقراراً ثابتاً.ليس ذلك وحسب بل إن عدم تنفيذ أحكام القضاء هو نتيجة حتمية ودليل في الوقت ذاته على الفوضى والاستهتار والفساد الذي يميز سلوك موظفي الحكومة و (القطاع العام والمختلط) في اليمن الذين لا يحترمون القانون ولا ينفذون أحكام القضاء إلا بمقدار ما يحققه ذلك من نفع شخصي غير مشروع لهم كحصولهم على نسبه من المحكوم به (رشوة).ويعتبر تمرد الموظف العام ومن في حكمه على القانون ورفضه تنفيذ أحكام القضاء جريمة ضد الدستور بحسب المادتين (49 و 51) منه ويتمثل النشاط الإجرامي للموظف في التدخل السلبي بالامتناع ومن ثم فإن هذه الجريمة لا تسقط بالتقادم، كذلك فإن امتناع الجهات الحكومية المحكوم عليها عن تنفيذ الأحكام الباتة الصادرة ضدها هو إهدار صارخ لحق الإنسان في العدل وهو من الحقوق الأساسية التي نص عليها الدستور اليمني [المادتين (41 ، 51]) كذلك الميثاق العالمي لحقوق الإنسان في المادة الثامنة منه، حيث أناط بالقضاء توفير الحماية للمواطن من كل عدوان وبغي يقع على حقوقه وحرياته وكفالة مصالحه المشروعة.إن أحكام القضاء في العالم أجمع كذلك سياسة الدول الديمقراطية متواترة كما أن الإجماع الفقهي قائم على أنه لا يجوز الامتناع أياً كانت الأسباب عن تنفيذ الأحكام القضائية الباتة والحائزة حجية الأمر المقضي به والمحكوم بتنفيذها أو التقاعس فيه على أي وجه كان وذلك إذعاناً لحجية الأحكام وإعلاءً لشأنها وإكباراً لسيادة القانون وأمانة النـزول عند مقتضياته.والإجماع القضائي والفقهي أيضاً نزولاً عند أحكام الدستور والقانون هو أن تنفيذ الأحكام القضائية أياً كان نوعها تقع مسؤوليته وواجب القيام به على عاتق السلطة التنفيذية وبالتالي فإن مسئوليتها عن تنفيذ ما يصدر ضدها من أحكام أشد وأوجب.ومن البديهي أنه ليس لأحد في جهاز الدولة مهما علا شأنه تسفيه أحكام القضاء لتبرير امتناعه عن تنفيذها وتمرده عليها بل إن الواجب يقضي الالتزام بتنفيذها احتراماً للشرعية الدستورية والقانون، وعملاً بالصيغة التنفيذية التي تذيل بها تلك الأحكام، ولذلك تعتبر المخالفة القانونية في هذه المسألة جسمية ومارقة لما تنطوي عليه من خروج سافر على الدستور والقوانين.وقد حرص المشرع اليمني على تجريم الامتناع عن تنفيذ أحكام القضاء وتقرير عقوبة شديدة للجاني فنصت المادة (165/1) من قانون العقوبات على ما يلي :((يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على ثلاث سنوات أو بالغرامة :1- كل موظف عام استعمل سلطة وظيفته في تعطيل القوانين أو اللوائح أو الأنظمة أو في رفض تنفيذ الأوامر والأحكام الصادرة من محكمة أو أي جهة مختصة أو امتنع عمداً عن تنفيذ شيء مما ذكر يدخل تنفيذه في اختصاصه ...)).كما أن المادة (489) من قانون المرافعات رقم (40) لسنة 2002م تنص على ما يلي:((يعاقب كل من اعترض أو عرقل تنفيذ أي حكم صدر ضد الدولة بالحبس مدة لا تزيد عن سنتين)).ولا يؤثر في المساءلة الجزائية والعقاب اعتصام الموظف المرتكب لجريمة الامتناع بانتفاء الدوافع الشخصية لديه أو تستره خلف رداء المصلحة العامة، إذ أن تحقيق هذه المصلحة المزعومة ليس سبيله ارتكاب أعمال غير مشروعة كالامتناع عن تنفيذ الأحكام أو تعطيل هذا التنفيذ.[c1] ثانياً : المسؤوليــة المدنيــة :[/c]لا تقف المساءلة القانونية عند حد معاقبة الموظف المرتكب جريمة الامتناع عن تنفيذ أحكام القضاء بل يستطيع المحكوم له أن يقيم دعوى تعويض ضد شخص أي موظف ساهم في الامتناع الإجرائي عن تنفيذ الحكم وذلك طبقاً للمادة (304) من القانون المدني التي تنص على أن كل خطأ سبب ضرراً للغير يلزم من ارتكبه بالتعويض، لأن امتناع الموظف عن تنفيذ حكم بات واجب النفاذ يعد خطأ جسيماً من ناحية كما أنه تترتب على هذا الخطأ أضرار جسيمة تصيب المحكوم له مصدرها عدم حصوله على الحق المحكوم به، والسبب المباشر لهذا الضرر هو مسلك الموظف الممتنع الخاطئ بالامتناع عن تنفيذ الحكم ويقدر التعويض الذي يقضي به لصالح المحكوم له بقيمة الحق الصادر به الحكم الذي امتنع عن تنفيذه وما لحق طالب التنفيذ من أضرار حالية ومستقبلية جراء الامتناع الإجرامي. وبديهي أن دعوى التعويض هذه ترفع ضد الموظف شخصياً والحكم الصادر ضده بالتعويض يستطيع المحكوم له تنفيذه بطريق الحجز على ممتلكاته وأمواله الخاصة واقتضاء المبلغ المقضي به عن طريق التنفيذ الجبري [المواد (357 - 373)] من قانون المرافعات والتنفيذ المدني.وقد لا يتأتى هذا الإجراء في ظل الظروف الحالية التي قد تحول دون مساءلة الموظف المجرم ولكن ذلك لا يحول دون رفع دعوى مدنية ضده لتأكيد الحق في مواجهته حتى يحين الأوان لإخضاعه للمساءلة القانونية الجزائية والمدنية بعد زوال سلطته إما بعزله أو إحالته إلى المعاش أو سقوط النظام الحاكم الذي يتمترس الموظف المذكور خلفه ويحمي بالوظيفة التي يشغلها فيه. على أن الجدير بالتنويه هو أن حق المتضرر في رفع الدعوى ضد هذه الفئة الباغية من الموظفين لا يسقط بالتقادم لأن جريمتهم في الامتناع عن تنفيذ الأحكام القضائية أو تعطيل ذلك وفقاً للمادة (149) من الدستور تمس القضاء وتشكل تدخلاً غير مشروع في شؤون العدالة ومن ثم فيجوز تقديم الدعوى في أي وقت ومن كافة الأشخاص المتضررين بمن فيهم أولاد وأحفاد المتضرر وأن نزلوا أو أصولهم إن علوا.[c1]معوقات المساءلة الجنائية :[/c]لا تجد المساءلة الجنائية للموظف في الحكومة والقطاع العام والمختلط الذي يرتكب جريمة الامتناع عن تنفيذ أحكام القضاء طريقها إلى التحقيق لأسباب عديدة منها :أولاً : تأكد الموظف في الجهاز الحكومي والقطاعين العام والمختلط (رئيس وزراء، نائب رئيس وزراء، وزير، وكيل وزارة، مدير، رئيس مؤسسة، رئيس مصلحة ... الخ) نتيجة شوكته الرسمية بأنه لن يخضع للمساءلة الجزائية ناهيك عن للعقاب.ومما يشجع الموظف العام على تحدي أحكام القضاء ورفض تنفيذها تمتعه بالحصانة الواردة في المادة (26) من قانون الإجراءات الجزائية التي تنص على ما يلي :((لا يجوز رفع الدعوى الجزائية على أحد رجال الضبط القضائي أو موظف عام لجريمة وقعت منه أثناء تأديته وظيفته أو بسببها إلا بإذن من النائب العام أو ممن يفوض بذلك من المحامين أو رؤساء النيابة ويجب صدور الإذن في أحوال القصاص والدية والأرش وفي أحوال القذف إذا تقدم المجني عليه بالشكوى وأصر عليها)).ثانياً : يقين الموظف (رئيس وزراء، وزير، رئيس مؤسسة أو هيئة ... الخ) بأن السلطة الحاكمة غير جادة في تطبيق القانون ومن ثم فإنه لا يهمها تنفيذ أحكام القضاء إلا بمقدار ما يحقق ذلك مصالحها الخاصة.ثالثاً : تأكد الموظف الحكومي الممتنع عن تنفيذ الحكم القضائي الصادر ضد إدارته بأن المحكوم له سيخضع عاجلاً أم آجلاً لشروطه غير المشروعة من حيث مقاسمته المبلغ أو الشيء المحكوم به لكي يوافق على تنفيذ الحكم ضد الجهة الحكومية التي يتولى إدارتها.رابعاً : الطابع الاستبدادي للوظيفة العامة في الجمهورية اليمنية حيث يشعر الموظف بأن الجهة الحكومية والمؤسسة أو الهيئة العامة التي يحكمها هي إقطاعيته الخاصة ومن ثم فهو لا يسمح بتنفيذ أي حكم قضائي ضدها إلا بمقدار ما يحقق له ذلك من نفع شخصي غير مشروع على هيئة رشوة صريحة أو مستترة أو غير ذلك من أشكال المنفعة الحرام.[c1]* أستاذ العلوم القانونية - جامعة صنعاء[/c]
|
دراسات
جريمة الامتناع عن تنفيذ الأحكام القضائية
أخبار متعلقة