الدولة الدينية لا تحكم إلا بمذهب أرضـي يضـطـهـد أتبـاع المـذاهب الأخـرى
إن الأصل في صراع الأفكار وحوارها أن يكون مجرد فكر يقابل نظيره الحجة بالحجة والبرهان بالبرهان ، مع حرية للفرقاء المختلفين في الرأي و للجميع في ان يعتنق ما يشاء ويرفض ما يشاء ، مع احترام المختلف في الرأي ، وعدم تحول الصراع الفكري إلى مهاترات شخصية و اتهام لصاحب الفكر المخالف في دينه وكرامته ،أو مطاردته وسجنه وتعذيبه. بالحرية ينجح الفكر الصحيح ويتوارى الفكر الفاسد خجلا. أما إذا أوتي الفكر الفاشل سيطرة بالجاه والمال والأتباع وسلطة الدولة المستبدة ـ أو كان ذلك الفكر السائد معبرا عن دين أرضي متحكم في السلطة والشعب فالعادة أنه يداري فشله باضطهاد أصحاب الرأي المخالف . هنا يكون المستقبل للفكر الذي يتعرض أصحابه للاضطهاد حتى لو كان خاطئا أو منحرفا . [c1]أولا : ماهي عقيدة الجبرية التي كانت المذهب الأرضي الرسمي للخلافة الأموية وما هدفها؟[/c]لم يكن الأمويون فى بداية الأمر بحاجة إلى فقهاء السلطة، فمعاوية لم يحتج فتوى حين قتل حجر بن عدى الكندى بسبب كلمة قالها، ولم يحتج معاوية لاتهام حجر بالردة أو إلى مبرر يتمسح بالشرع كى يقتله، وبزيد بن معاوية لم يحتج إلى فتوى حين قتل الحسين وآله فى كربلاء، ولم يحتج إلى فتوى تبيح غزو المدينة وانتهاك حرمتها، ولم يحتج إلى فتوى تبيح له حصار مكة وانتهاك حرمة الكعبة وضربها بالمجانيق..إلا أن تلك الفظائع التى حدثت فى سنوات متتالية تركت أثراً هائلاً لدى المسلمين استغله بنجاح أعداء الأمويين من الشيعة والخوارج والموالى.. ولم يعد مجدياً أمام الجهاز الدعائى الأموى تبرير مقتل آل البيت وانتهاك حرمة مكة والمدينة بمجرد القصص والروايات، وكان القصص من المهام الرسمية فى الدولة الأموية ويمثل جهاز الإعلام فى عصرنا..وكانت الطريقة الوحيدة هى التمسح بالمشيئة الإلهية، وذلك ما يفعله الظالم والعاصى فى تبرير ظلمه وعصيانه.. وهكذا بدأت الدعاية الأموية تتخذ مجرى جديداً يقول أن الله شاء أن يموت الحسين وآله قتلى فى كربلاء، وأن مشيئة الله اقتضت أن تنتهك حرمة البيت الحرام والمدينة. وإن الاعتراض على ذلك اعتراض على مشيئة الرحمن وخروج على الإسلام ويستحق القتل..وبذلك بدأ القول بالجبرية ليبرر مظالم الأمويين السابقة واللاحقة.[c1]ثانياً : من هم أبرز الضحايا الذين قاوموا هذا المذهب الفقهي الاستبدادي ؟[/c]بدأ حسن البصرى فى مقاومته تلك الدعوى بطريقة لينة خوفاً من الحجاج. إلا أن الحسن البصرى تشجع حين ظهر معبد بن خالد الجهنى وقال معلناً مقالته المشهورة «لا قدر والأمر أنف» ليرد على دعاوى الأمويين بأن ظلمهم يسير بقدر الله ومشيئته فقال معبد الجهنى أنه لا دخل لقدر الله فى تلك المعاصى وأن أمور الأمويين تجرى بالإكراه والاستبداد والظلم رغم أنوف المسلمين أى «لا قدر والأمر أنف».وانتقل معبد الجهنى إلى البصرة وقابل الحسن البصرى وقال له: يا أبا سعيد هؤلاء الملوك يسفكون دماء المؤمنين ويأخذون أموالهم ويقولون إنما تجرى أعمالنا على قدر الله، ورد عليه الحسن البصرى: «كذب أعداء الله» وقد شارك معبد فى ثورة ابن الاشعث على الحجاج الثقفى وأسره الحجاج ومات تحت التعذيب بعد سنة 80 هـ. وسمى مذهب معبد الجهنى بالقدرية التى تعنى مذهب الإرادة الحرة ومسئولية الإنسان عن أعماله، واشتق اسم القدرية من قول معبد «لا قدر والأمر أنف».وحمل راية القدرية بعد الجهنى غيلان الدمشقى الذى انضم إلى الثائرين على الخليفة هشام بن عبد الملك، وأسره الأمويون وسجنوه . وكان غيلان الدمشقى من الفصحاء فاجتذب الكثيرين من الأتباع، لذا خشى هشام من قتله بدون محاكم فسلط عليه الأوزاعى فقيه الأمويين فى دمشق ودارت مناقشة أو محاكمة أفتى بعدها الأوزاعى لهشام بأن يقتل غيلان وصاحبه المسجون معه ، وحتى ذلك الوقت لم يكن الأوزاعي قد اخترع حديث الردة فأمرالخليفة الأموي هشام بن عبدالملك بن مروان بإخراجهما من السجن وقطع أيديهما وأرجلهما ثم قطع لسان غيلان فمات .[c1]ثالثا : من هو الأوزاعي ؟[/c]الأوزاعى هو من أخترع للحكام الأمويين حد الردة بهدف تبرير قتل خصومهم بعد ان وقع الأمويون في مشكلة غيلان الدمشقي الذي مات مه الله من بشاعة التعذيب بعد قطع يديه ورجليه ولسانه لأنهم لم يتمكنوا من قتله نتيجة لعدم توفر غطاء شرعي يبرر قتله قبل ظهورحد الردة الذي اخترعه لهم الأوزاعي في وقت لاحق ، وأستفاد منه الحكام الأمويون كثيرا ومن بعدهم العباسيون أيضا وكل الحكام الطغاة في التاريخ الاسلامي .. وقد نشأ الأوزاعي فى ظل الدولة الأموية وخدمها كما خدم أعداءها العباسيين فيما بعد.ولد عبد الرحمن بن عمرو بن محمد الأوزاعى فى بعلبك سنة 115هـ ونشأ بالبقاع فى حجر أمه وكانت تنتقل به من بلد إلى بلد، وتأدب أى تعلم بنفسه، وقد كان شديد الطموح، وقد أدرك أن طريقه للوصول للجاه تأتى عن طريق الشهرة بين الناس والتزلف لبنى أمية، وإذا كان صعباً على الفقيه فى العراق أن يحظى بحب الناس مع حب بنى أمية، حيث تسود الكراهية للأمويين، فإن الوضع فى الشام مختلف، إذ أن أهل الشام هواهم مع الأمويين، لذلك كان سهلاً على الأوزاعى أن يحصل على الحظوة الشعبية والحظوة الأموية معاً.وكان من السهل على الأوزاعى أن يستميل إليه أفئدة الناس بادعاء الزهد وسبك الكرامات ، قبل ظهور التصوف بقرن من الزمان، وكان الرأى العام يحتفل بالزهاد ويحضر مجالسهم، وكان الأمويون فى نفس الوقت يحتاجون إلى وجود شيخ شعبي يقدم لهم إلى جانب الفتوى الملائمة المسوغ الشرعي لحكمهم الظالم، واستغل الأوزاعي تشوق المجتمع لقصص الزهاد والصالحين فأسرف فى تأليف الكرامات والوحي لنفسه فيقول : « رأيت رب العزة فى المنام فقال أنت الذى تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فقلت بفضلك يا رب، ثم قلت: يا رب أمتنى على الإسلام، فقال: وعلى السنة « !! وهذا وحى كاذب يدعيه الأوزاعى لنفسه ويقبله منه عصره، وقد سبق به الأوزاعى ما قاله الصوفية بعده بقرن من الزمان، وهو فى ذلك المنام الذى ادعاه يجعل رب العزة يزكيه ويمدحه. وقد أشاعوا أن بعض الناس رأى مناماً يقال فيه « أن الأوزاعي خير من يمشي على الأرض» !!؟؟ .. وتنتهي الأسطورة بادعاء أن من رأى هذا المنام لابد أن يموت، حتى لا يوجد الدليل على تلك الرؤيا أو تلك الدعوى أو ذلك المزعم.وكان واضحاً أن الأوزاعي يقوم بمهنة القصص التى ابتدعها الأمويون وجعلوا لها ديواناً رسمياً يبثون من خلاله دعايتهم وبياناتهم السياسية والدينية . وفى إحدى تلك المجالس حكى الأوزاعي عن نفسه قال : «أردت بيت المقدس، فرافقت يهودياً فلما صرنا إلى طبرية، نزل فاستخرج ضفدعاً فوضع فى عنقه خيطاً فصار الضفدع خنزيراً، فقال أبيعه إلى هؤلاء النصارى، فذهب فباعه واشترى طعاماً فأكلناه ثم ركبنا، فما سرنا، غير بعيد حتى جاء القوم يطلبوننا، فقال لى: أحسبه صار فى أيديهم ضفدعاً، فحانت منى التفاتة إليه فإذا بدنه فى ناحية ورأسه فى ناحية، فوقفت وجاء القوم فلما نظروا إليه فزعوا ورجعوا عنه فقال لى الرأس: أرجعوا؟ قلت نعم. فالتأم الرأس إلى البدن وركب وركبنا فقلت له لا أرافقك أبداً أذهب عنى».وتلك الأسطورة لو قالها شخص عادى لاستحق السخرية من الناس ولكن حين يقولها شيخ يحظى بتصديق الناس له واعتقادهم فى دينه فلابد أن يصدقوه..- وقد استطاع الأوزاعي أن يقنع الناس بتقواه فوصفوه بأنه كان من شدة الخشوع كأنه أعمى وقالوا «أنه كان يعظ الناس فلا يبقى أحد فى مجلسه إلا بكى بعينه أو بقلبه وما رأيناه يبكى فى مجلسه قط، وكان إذا اختلى بكى حتى يرحمه الناس» فكيف يبكي فى خلوة وكيف يرحمه الناس وهم لا يرون بكاءه..والمستفاد من ذلك أن هناك من يشيع تلك الأخبار عن الأوزاعي حتى يعتقد الناس فى خشوعه وخوفه من الله. وكانت زوجته من ضمن فريق الدعاية، فقد دخلت امرأة عليها فرأت الحصير الذى يصلى عليه الأوزاعى مبلولاً فقالت المرأة لعل الصبى تبول هنا؟ فقالت لها زوجة الأوزاعى: هذا أثر دموع الشيخ فى سجوده وهكذا يصبح كل يوم!!ولذلك كان الأوزاعي فى الشام معظّماً مكرّماً كما يقول المؤرخ الشامى ابن كثير. وكان أمره أعز عندهم من أمر السلطان، وقد أمر الوالى العباسى عبد الله بن على بعد القضاء على الأمويين بأن يقتل الأوزاعى باعتباره من عملائهم فقال له أصحابه دعه عنك والله لو أمر أهل الشام أن يقتلوك لقتلوك..وقد حكى ابن كثير قصة ذلك اللقاء بين الأوزاعى والقائد العباسى عبد الله بن على عم الخليفة السفاح والجبار الذى أباد بنى أمية بالشام، يقول ابن كثير عن الأوزاعى «كان له فى بيت المال على الخلفاء إقطاع ــ اى ارضا زراعية أقتطعوها له أى أعطوها له ــ صار له من بنى أمية وقد وصل إليه من خلفاء بنى أمية وأقاربهم وبنى العباس نحو السبعين ألف دينار». بمعنى أنه استفاد من حكام الدولتين الأموية والعباسية الذين أعطوه الإقطاعيات الزراعية والأموال.ويذكر ابن كثير أن الأوزاعي اجتمع بالخليفة المنصور العباسية حين دخل المنصور الشام وقد أحبه المنصور وعظمه.. ولذلك وصلته الأعطيات والإقطاعيات من العباسيين كما كانت فى عهد الأمويين.لقد ظلت هيبة الأوزاعى فى الشام تحتل قلوب أهله حتى أن الذهبى فى كتابه «ميزان الاعتدال» تحرج من نقد الأوزاعى فى ترجمته له واكتفى بأن يقول عن مسرور بن سعيد رواية الأوزاعى «غمزه أى هاجمه وطعن فيه ابن حيان، فقال: يروى عن الأوزاعى المناكير الكثيرة.. [c1]رابعاً : ما معنى أن الأوزاعي كان يروي المناكير ؟ [/c]المقصود مما رواه الامام الذهبي عن الأوزاعي أنه كان في حياته يروي أحاديث منكرة..وأفظعها حديث الردة «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزانى، والتارك لدينه المفارق للجماعة».لأنه أعطى اثنين من المبررات لقتل النفس لا تستحق القتل، وقد وافق ذلك هوى الدولة الأموية التي تخلصت من خصومها بهذا الحديث وهوى الدولة العباسية لأنها بهذا الحديث المفترى وجدت غطاء تشريعياً للتخلص من خصومها الأمويين ثم الفرس..لقد جاءت الدولة العباسية بمفهوم جديد للسلطة يخالف المفهوم الأموي، فإذا كانت الدولة الأموية تعول أساساً على قانون القوة فإن العباسيين الذين وصلوا للحكم تحت ستار الدعوة للرضى من آل محمد أو تحت شعار أنهم آل البيت كان لهم مفهوم جديد للسلطة هو قانون الشرع. فالخليفة الجديد يحكم بالسلطة الإلهية المستمدة من كونه من آل بيت النبى، والخليفة المنصور العباسى خطب يوم عرفة فقال: «يا أيها الناس إنما أنا سلطان الله فى أرضه أسوسكم بتوفيقه ورشده وخازنه على فيئه أقسمه بإرادته وأعطيه بإذنه ».أي يحكم بالحق الإلهي وذلك ما كان سائداً فى العصور الوسطى وفى أوروبا باسم The Divine Right Of Kings ومن الطبيعى أن يؤسس أحكامه على أدلة تشريعية، وإذا كان عسيراً أن يجد هواه فى القرآن فإنه يمكن أن يخترع له فقهاء السلطة ما يريد من الأحاديث والفتاوى....ولذلك فإن استئصال الأمويين في السنوات الأولى للحكم العباسي كان بفتوى وحديث الردة الذى يحل دم المسلم بإحدى ثلاث وكلها تنطبق على فلول بني أمية، فقد قتلوا آل البيت فى كربلاء وقتلوا كل ثائر من ذرية الحسين وآخر ضحاياهم كان إبراهيم المهدي صاحب الدعوة العباسية الذي قتله مروان بن محمد آخر الخلفاء الأمويين فى الشام.. إذن ينطبق عليهم من وجهة نظر العباسيين قاعدة النفس بالنفس، ثم انهمك الأمويون فى عصرهم الأخير فى المجون والانحلال الخلقي وكان رائدهم فى ذلك بعض الخلفاء الأمويين مثل يزيد بن معاوية ويزيد بن عبد الملك والوليد بن يزيد ، أي كان من السهل اتهامهم بالزنا بعد إحصان، ومن السهل أيضاً اتهامهم بترك الدين ومفارقة الجماعة خصوصاً وقد اشتهروا بإماتة الصلاة وعدم إقامتها، وكانت صياغة الحديث بهذا الشكل تعبر عن فهم الأوزاعى لمتطلبات السلطة العباسية الجديدة واحتياجاتها فى التخلص من خصومها تحت غطاء شرعى مصطنع والدليل على ذلك رواج حديث الأوزاعى واستخدام السلطة العباسية له فى مواجهة خصومها الجدد وهم الفرس...فالموالي الفرس هم الذين أعانوا العباسيين على إقامة ملكهم، وكان أبو مسلم الخرسانى وجنده هم القوة الضاربة للعباسيين، وحين جاء وقت توزيع الغنائم والمكاسب السياسية استأثر العباسيون بكل شىء وقتلوا أبا مسلم الخرسانى، فثارت ابنته فى خراسان وظهرت طائفة الأبومسلمية تحارب العباسيين فى شرق فارس، وكان لهم أتباعهم فى بغداد وفى البلاط العباسى، وبينما واجه العباسيون ثورات الموالي فى شرق فارس بإرسال الجيوش الجرارة فإنهم تتبعوا عملاء الثوار فى بغداد وعمدوا إلى التخلص منهم باتهامهم بالردة أو الزندقة، ولذلك نشط الخليفة المهدى العباسى فى تتبع خصومه تحت مسمى الزنادقة وقتلهم بالتهم الثلاث الواردة فى حديث الأوزاعى، وكانت شهرة بعض المسلمين الفرس بالانحلال الدينى والأخلاقى ما يساعد على اتهامهم وقتلهم وفقاً لذلك التشيع الأوزاعى. والسطور الأولى فى تاريخ الخليفة المهدى العباسى تؤكد حرصه على إبادة الزنادقة وأنه تتبعهم فى كل مكان. والمهدى هو ابن الخليفة أبو جعفر المنصور، ولهذا لا تعجب إذا أصبحت للأوزاعى حظوة عند الخليفة المنصور العباسى أو بتعبير ابن كثير “وقد أحبه وعظمه”.ولا نعجب أيضاً إذا عامل الخليفة المنصور العباسي فقيهاً آخر بالاضطهاد والعنت ثم قتله، إنه الإمام أبو حنيفة الذى يعتبر صورة معكوسة للأوزاعي..لقد نشأ الأوزاعي فى الشام ينتمي إلى العرب ويخدم السلطة الأموية، أما أبو حنيفة فقد نشأ في العراق منتمياً إلى الفرس ويناوئ السلطة الأموية وجاءت الدولة العباسية وسرعان ما أصلح الأوزاعي شئونه معها وصار صاحب حظوة عند الخليفة المنصور.[c1]خامساً : من منكم يعرف ابن ابي ليلة وابن شبرمة وابن ابي هند؟[/c]كان اولئك هم فقهاء السلطة وأصحاب المشورة للخليفة أبى جعفر المنصور . وبسبب نفوذهم ودسائسهم أمر المنصور العباسى بسجن أبى حنيفة ، ثم قتله بالسم عام 150 هجرية. كان المنصورقد اصطنع مجموعة من الفقهاء تفتي له بما يريد ،منهم ابن ابي ليلة وابن شبرمة وابن ابي هند.ولم يكن أبوحنيفة من هذا الصنف فانتهى به الأمر الى السجن و القتل. وبسبب الاضطهاد الذى تعرض له أبوحنيفة فقد ذاع اسمه ، ومع أن الثابت أنه لم يؤلف كتابا فى الفقه فقد أصبح إماما لأول مذهب فقهى سنى ، بل حصل بعد مقتله على لقب الامام الأعظم ، أى كوفىء على الاضطهاد الذى تعرض له ظلما. هذا بينما اختفى في صندوق زبالة التاريخ اولئك الفقهاء الذين كانوا فى وقتهم أصحاب أسماء رنانة وطنانة. .. نقولها ثانيا : من منكم يعرف ابن ابي ليلة وابن شبرمة وابن ابي هند؟ ثم نقول : من منكم لا يعرف الامام أبا حنيفة النعمان؟؟[c1]سادساً : من منكم يعرف ربيعة بن أبي عبدالرحمن الرأي؟[/c]حسنا ..أنه فقيه المدينة الذى كان شيخ الامام مالك بن آنس والذى كان أعلم من مالك. أى جاء مالك أقل علما من شيخه ربيعة بن أبي عبدالرحمن الرأي .. لقد مات ربيعة الرأي عام 136 هـ وقت أن اشتهر تلميذه مالك في المدينة ، ويروي ابن الجوزي فى ( المنتظم ) فى ترجمة ربيعة هذا أن بعضهم قال ( أتينا مالك ابن أنس فجعل يحدثنا عن ربيعة الرأي فكنا نستزيده من حديث ربيعة فقال لنا ذات يوم: ما تصنعون بربيعة هو نائم في ذاك الطاق ، فأتينا ربيعة فأنبهناه فقلنا له: أنت ربيعة بن أبي عبد الرحمن قال: نعم .قلنا: ربيعة بن فروخ؟ قال: بلى .قلنا: ربيعة الرأي ؟ قال: نعم ، قلنا: الذي يحدث عنك مالك بن أنس؟ قال: نعم. قلنا: كيف حظي بك مالك ولم تحظ أنت بنفسك ؟ قال: أما علمتم أن مثقالا من دولة خير من حمل علم ) ( المنتظم 7 / 351 ـ ) سألوه لماذا اشتهر مالك بالعلم الذى أخذه من ربيعة بينما لم يحظ ربيعة نفسه بما يستحق من شهرة ، وأجاب ربيعة بتلك الكلمة القصيرة التى أوجزت الموقف كله : فالنفوذ السياسى والاجتماعى فى عصور الاستبداد هو الذى يرتفع بمتوسطى العلم الى درجة الشهرة بينما يعانى العلماء الحقيقيون من النسيان والاهمال. حاز مالك الشهرة دون شيخه لسببين : الأول : إن ربيعة كان من الموالى ، أى أقل درجة فى السلم الاجتماعى من العرب ، لذلك احتفل اهل المدينة بوجود تلميذ عربى لربيعة الرأي فارتفعوا به فى الشهرة فوق شيخه، ومات ربيعة الرأي مجهولا بينما نعم مالك بالشهرة و الصيت لأنه امتاز عن ربيعة بشىء وحيد أنه عربى من الأنصار.الثانى : إن مالك تعرض لاضطهاد الدولة العباسية وتعذيبها. لذلك كوفئ بأن صار فيما بعد إماما لمذهب المالكية . بينما ذهب شيخه ربيعة الرأي الى ظلمات النسيان .. [c1]سابعاً : وماذا عن ابن حنبل ؟[/c]ربما يعرف القليلون زعيمى المعتزلة : ابن أبى داود وابن الزيات ، وربما لولا دورهما فى اضطهاد وتعذيب احمد بن حنبل ما سمع عنهما أحد . انها فتنة او محنة القول بخلق القرآن التى كان ابن حنبل أشهر ضحاياها . وقد وقع الخليفة المأمون (833-813) في هوى ذلك التيار المعتزلى الجديد، اذ كان شغوفا بمجالس العلم، واقتنع بمقولة المعتزلة ان القرآن مخلوق، واستعظم ان يعارضهم الفقهاء المحافظون، فصمم على فرض رأيه علي الدولة ، وتحت الضغط تراجع كبار الفقهاء ـ ومنهم المؤرخ المحدث محمد بن سعد ـ ووافقوا السلطة العباسية علي القول بخلق القرآن ، وكان يمكن أن تنتهى المسألة عند هذا الحد ولكن ابن حنبل ومحمد بن نوح صمدا صمودا عظيما ، فوضعا في السجن تحت العذاب ومات المأمون وقد اوصى ولي عهده المعتصم بالله بالاستمرار بالقضية ، فأمر المعتصم بتعذيب ابن حنبل ، وظل ابن حنبل بالسجن الي ان افرج عنه في رمضان سنة 220هـ،واستمر اثر الضرب في جسده يتوجع منه الي ان مات رحمه الله سنة241 هـ (ابن الجوزي:مناقب ابن حنبل 339،346بيروت ط1،تحقيق محمد ومصطفى عبدالقادرعطا.. المنتظم : لابن الجوزى 11/43 ،تاريخ الطبري 8/ 631:645)إبن حنبل الان لا يزال حيا فى قلوب الملايين حتى الآن ، وكل ذلك بسبب نعمة الاضطهاد التى أوقعه به غباء المعتزلة وقتها .لقد صمم ابن حنبل على رايه وتحمل السجن والتعذيب فصار اسطورة بعد موته ، وهو الذى لم يكن فى حياته سوى واحد من أصحاب الحديث الذين يمتلئ بهم الشارع العباسى فى النصف الأول من القرن الثالث الهجرى.ومن الطريف أن ابن حنبل كان رفيقا للمؤرخ الفقيه المحدث محمد بن سعد المشهور صاحب (الطبقات الكبرى ) . ولقد جاءت ترجمة ابن حنبل فى الطبقات الكبرى لابن سعد مجرد بضعة أسطر بينما افرد ابن سعد صفحات لمشاهير عصره مما يدل على ان ابن حنبل فى ذلك الوقت لم يكن مشهورا ، ولولا اضطهاده ما سمع به احد . بعدهذه الترجمة القصيرة التى قالها رفيق احمد بن حنبل بدأت الأساطير تقال فى مناقب أحمد بن حنبل بعد موته ، وأخذت تزداد بمرور السنين مع تعاظم جماهير تابعيه الذين أصبح اسمهم ( الحنابلة ) ، وفى القرن السادس الهجرى جمع المؤرح ( الحنبلى ) عبد الرحمن بن الجوزى هذه الأساطير فى كتاب ضخم فى مناقب الامام أحمد بن حنبل ، وصار كتابه هذا المليء بالمدح والتمجيد مصدرا لمن يكتب فى تاريخ ابن حنبل.بالاضطهاد تحول ابن حنبل من صاحب حديث الى إمام كبير لأحد المذاهب الفقهية للدين السنى ، مع أنه لم يكن فقيها حقيقيا ، ولم يصل الى عشر (بضم العين ) معشار استاذه الشافعى .. بل اصبح اتباعه ( الحنابلة ) أهم قوة مؤثرة فى الشارع العباسى فى عصره الثانى ، ثم فى عصرنا السعيد. إنها نعمة الاضطهاد التى جعلت ابن حنبل حيا ومؤثرا حتى الآن من غزوة مانهاتن فى نيويورك الى كهوف تورا بورا وبيشاور. [c1]ثامنا : وماذا عن الخليفة الواثق ؟[/c]سيطر المعتزلة على الخلافة العباسية فى عصر المعتصم والواثق واضطهدوا ابن حنبل وأتباعه، وفى عهد الخليفة الواثق حوكم أحمد بن نصر الخزاعى امام الخليفة الواثق وقتله الخليفة بيده معتقداً أنه يتقرب إلى الله بدمه ومتهماً إياه بالردة أو أنه زنديق.وكان المعتزلة يرون أن القرآن مخلوق وأن رؤية الله تعالى مستحيلة وكان الحنابلة يرون أن القرآن غير مخلوق لأنه كلام الله تعالى وأن رؤية الله جائزة، وكان لكل فريق أدلته من تأويل الآيات ومن الأحاديث التى توافق مذهبه.استدعى الخليفة الواثق في يوم السبت غرة رمضان 231هـ الفقيه الحنبلي أحمد بن نصر بن مالك وناقشه لرفضه القول بخلق القرآن. ثم أمر بالنطع (كساء يجلس عليه المحكوم عليه بالإعدام حتى لا يلوث المكان بدمه) فأجلسه عليه وهو مقيد، وأمر بشد رأسه بحبل، وأمرهم أن يمدوه، ومشى إليه، حتى ضرب عنقه، وأمر بحمل رأسه إلى بغداد، فنصب إلى الجانب الشرقى أياماً وفى الجانب الغربى أياماً، وعلقت ورقة فى أذنه فيها: «بسم الله الرحمن الرحيم: هذا رأس أحمد بن نصر بن مالك دعاه عبد الله الإمام هارون الواثق بالله أمير المؤمنين إلى القول بخلق القرآن ونفى التشبيه فأبى إلا المعاندة فعجله الله إلى ناره..».وننقل من تاريخ ابن الجوزى الحنبلى محاكمة ابن نصر الخزاعى أمام الخليفة الواثق يوم السبت غرة رمضان 231 قال له الخليفة: ما تقول فى القرآن. قال: هو كلام الله. قال: أفمخلوق هو؟. قال: هو كلام الله. قال: أفترى ربك فى القيامة؟. قال: كذا جاءت الرواية. قال: ويحك يرى كما يرى المخلوق هو؟. قال: هو كلام الله. قال: المحدود المجسوم ويحويه مكان ويحصره الناظر؟ أنا أكفر برب هذه صفته.. ما تقولون فيه؟. فقال عبد الرحمن بن إسحق القاضى: هو حلال الدم. وقال جماعة الفقهاء كما قال، فظهر ابن أبى داود (شيخ المعتزلة) أنه كاره لقتله، وقال: يا أمير المؤمنين شيخ لعل به عاهة أو تغير عقله، يؤخر أمره ويستتاب. فقال الخليفة الواثق: ما أراه إلا مؤذناً بالكفر قائماً بما يعتقده منه. ودعا الخليفة الواثق بالصمامة (سيف عمرو بن معد يكرب) وقال: إذا قمت فلا يقومن أحد معى فإنى أحتسب خطاى إلى هذا الكافر الذى يعبد رباً لا نعبده ولا نعرفه بالصفة التى وصفه بها، ثم أمر بالنطع (كساء يجلس عليه المحكوم عليه بالإعدام حتى لا يلوث المكان بدمه) فأجلسه عليه وهو مقيد، وأمر بشد رأسه بحبل، وأمرهم أن يمدوه، ومشى إليه، حتى ضرب عنقه، وأمر بحمل رأسه إلى بغداد، فنصب إلى الجانب الشرقى أياماً وفى الجانب الغربى أياماً، وعلقت ورقة فى أذنه فيها: «بسم الله الرحمن الرحيم: هذا رأس أحمد بن نصر بن مالك دعاه عبد الله الإمام هارون الواثق بالله أمير المؤمنين إلى القول بخلق القرآن ونفى التشبيه فأبى إلا المعاندة فعجله الله إلى ناره..».أى أن الخليفة الواثق حكم بكفره وقتله بيده وحكم أيضاً بدخوله النار..!!أى أن الخليفة الأحمق ما ترك لله تعالى شيئاً..وظل رأس الفقيه الحنبلي أحمد بن نصر رحمه الله مصلوباً ببغداد، وظل جسده مصلوباً بسامراء إلى أن أنزل وجمع بين رأسه ويديه ودفن فى مقبرة..[c1] تاسعاً : لا أظن أنكم تعرفون محمد بن داود الظاهري؟[/c]إنه ليس داود بن على فقيه العراق ومنشئ المذهب الظاهري الذي يقف عند ظاهر النصوص ويمنع تأويلها والاجتهاد فيها ، بل هو ابنه محمد .ورث محمد هذا شهرة أبيه فجلس يفتي منذ صغره ، واصبح زعيم الحنابلة ، وكانوا المسيطرين على الشارع العباسى فى عهده .واشتهر محمد بن داود بالشذوذ الجنسى فاستحسنوا ذلك منه وحفل شعره والروايات عنه بوقائعه مع عشيقه الوسيم محمد بن جامع . وحين جاء الطبري إلى بغداد فى أخريات عمره وقمة شهرته رأى فيه محمد بن داود منافسا خطيرا فكانت محنة الطبري على يديه ، وبدلا من الحوار مع الطبرى ومقارعته الحجة بالحجة فان عشرات الألوف من صعاليك ـ أو فقهاء ـ الحنابلة بزعامة محمد بن داود الظاهرى هاجموا الطبرى وكادوا يفتكون به فهرب الى بيته فحاصروه داخل البيت. كان السبب هو رأي الطبرى فى مسألة الاستواء على العرش واتهامه بأنه خالف رأى الإمام ابن حنبل الذى تحول الى اله مقدس لدى جحافل الحنابلة الذين ظلوا يحاصرون الطبرى فى داره سنوات إلى أن مات رحمه الله تحت أنقاض بيته ، بل ومنعوا الخروج بجنازته فكان قبره حطام بيته .فى حياته كان محمد بن داود الظاهرى ملء السمع والبصر الى أن مات عام 297 فى الثانية والاربعين من عمره ( الصفدى . الوافى بالوفيات 3 / 58 ـ ) ومع ذلك انتهى به الأمر مجهولا بين سطور المصادر التاريخية مثل : (تاريخ بغداد ) للخطيب البغدادى و( المنتظم ) لابن الجوزى و( تاريخ ابن كثير ) و( الوافي بالوفيات ) للصفدى و( العبر) للذهبي و( وفيات الأعيان ) لابن خلكان و( شذرات الذهب) لابن العماد الحنبلي و( الفهرست ) لابن النديم .. إندثر محمد بن داود الظاهرى بينما لا يزال الطبرى ملء السمع و البصر حتى الان، وهذا هو الفارق بين الضحية المظلوم المتمكن من علمه و زعيم غوغاء من المتطرفين ..[c1]عاشراً : كلنا يعرف الحلاج ؟ ولكن هل تعرفون من قتل الحلاج ؟[/c]كان التصوف وأربابه ضحية الحنابلة فى القرن الثالث الهجرى، إذ كان يخطو خطواته الاولي تطارده جماعات الحنابلة بنفوذها فى الشارع و القصور العباسية . وبسبب نفوذ الحنابلة فقد لاحقت الدولة العباسية رواد التصوف بالمحاكمات ،واشهرها محاكمة سمنون الذي اعتقل فيها كل ارباب التصوف فأظهروا التقية وأنكروا عقائدهم خوف القتل . الا ان الدولة العباسية اعتقلت الحلاج سنة 301 فظل رهن المحاكمة يتعرض للتعذيب الى أن قتلوه رحمه الله عام 309 في خلافة المقتدر العباسي الذى حكم ربع قرن من الزمان:(320-295) . اشتهر المقتدر العباسى بالعجز والانغماس فى المجون ، وترك مقاليد الدولة لأمه (شغب ) فتحكمت ام المقتدر فى الخلافة العباسية حتى أنها عينت وصيفتها قاضيا للقضاء . وكان الذى سعى فى اعتقال الحلاج ثم قتله مشاهير هذا العصر من الحنابلة ، منهم ابو الحسين الراسبى الذى اعتقل الحلاج عام 301 ، ثم على بن عيسى الذى أحضر القضاة للتحقيق معه ، وفى النهاية كان الوزير حامد بن العباس الذى أمر بقتله بعد تعذيب هائل . يقول عنه ابن الجوزى( وضرب الف سوط وكان يصرخ اثناء التعذيب البشع : كيف تقتلون رجلا يشهد بأن لا إله الا الله وان محمدا رسول الله ، ثم قطعت يده ثم رجله ، وحز راسه ، واحرقت جثته ، وألقي رماده فى دجلة ) (المنتظم13/201 ـ 206.)لم يكن الحلاج رحمه الله زعيما للصوفية فى عهده ، ومؤلفاته خليط من الرموز والخزعبلات ، ولا يرقى للمستوى العلمى لمعاصريه من رواد التصوف،ولكن الحلاج تفوق عليهم جميعا فى الشهرة ، وهو الآن من أشهر الصوفية ومعلما بارزا فى تاريخ الدين الصوفى الأرضى .. والسبب هو أنه عوقب على عقيدته بالسجن و التعذيب والقتل .مرة اخرى نسأل : من منا لا يعرف الحلاج ؟ثم : من منكم يعرف المقتدر العباسى وشغب والراسبى وعلى بن عيسى وحامد بن العباس الذين ابتلعتهم هاوية النسيان ؟![c1]أحد عشر: وماذا عن ابن تيمية؟[/c]وبسبب اضطهاد الحنابلة للتصوف واربابه انتشر التصوف ، ثم تسيد وتحكم ، و جاء دوره ليضطهد الفقهاء الحنابلة بعد انتهاء العصر العباسى وقيام الدولة المملوكية ( 648 ـ 921 )وكان ابن تيمية (الحنبلى ) ومدرسته الفقهية السنية أبرز ضحايا الاضطهاد الصوفى المملوكى. وبدأت محاكمة ابن تيمية حين احتج على كتاب الفصوص لابن عربي الذي يصرح بعقيدة الصوفية في وحدة الوجود أو انه لا فارق بين الله والكون ،وكان ذلك في شهر رجب 705هـ في الشام ، وكان الشام تابعا للسلطنة المملوكية ،وكان السلطان الفعلي وقتها بيبرس الجاشنكير الذي اغتصب الحكم من السلطان الشرعي محمد بن قلاوون ،وكان ابن تيمية باعتباره اكبر فقهاء عصره يؤيد حق الملك الشرعي ومن هنا كان الجاشنكير غاضبا عليه فأيد الصوفية في اضطهاده .ثم عقدت لابن تيمية محاكمة اخرى في مصر حيث اعتقلوه في جب القلعة وارادوا الحكم بقتله ،وانصبت محاكمته حول امور فقهية لأن خصومه منعوه من مناقشة عقائد ابن عربي خوف الفضيحة، ومع ذلك ارادوا الحكم بقتل ابن تيمية في تلك الخلافات الفقهية اليسيرة . واثناء اعتقاله في السجن حاولوا الحصول على اعترافه بعقائدهم ويعرضون عليه الصلح والافراج ولكنه رفض ، وفي النهاية افرجوا عنه ونفوه الى الاسكندرية على امل ان يقتله اعداؤه فيها ، الا انه صار له اتباع في الاسكندرية ، ثم اطلق بيبرس الجاشنكير سراحه . واستمرت المناوشات بينه وبين الصوفية حتي انهم عادوا لمحاكمته وسلطوا عليه سفهاءهم فضربوه والحوا على السلطان في سجنه فسجنه.واسقطت ثورة شعبية مصرية السلطان الجاشنكير و قد تخلى الصوفية والجند عن الجاشنكير فهرب وجيء بالسلطان الشرعي محمد بن قلاوون صديق ابن تيمية ، وكان وقتها ابن تيمية معتقلا . وأعدالصوفية العدة لاستقبال السلطان الناصر محمد الذي سبق وأن تخلوا عنه من قبل ليستعيدوا مكانتهم عنده وليكفروا عن تخليهم عنه من قبل. وصحيح ان السلطان الناصر محمد بن قلاوون افرج عن ابن تيمية واتباعه واكرمه وجعل ابن تيمية مستشارا له، الا ان السلطان الجديد استجاب لدسائس شيوخ الصوفية ، وكانت لديه هواجسه من شخصية ابن تيمية وكثرة اتباعه وشدته فى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر،فصدق الاشاعات الصوفية عن الطموح السياسى لابن تيمية. وكان الناصر محمد بن قلاوون قد تعلم الكثير من عزله مرتين من السلطة ، ويريد الاحتفاظ بسلطنته الثالثة مستبدا بدون أى نقد لذا انحاز الى الصوفية مضحيا بصديقه القديم ابن تيمية ، فاقام للصوفية اكبر خانقاه وهي خانقاه سرياقوس وافتتحها في حفل جامع سنة 725هـ ، وفي السنة التالية امر باعتقال صديقه القديم ابن تيمية بسبب فتوى سابقة له عن تحريم زيارة القبور.وحمل الاعتقال الاخير لابن تيمية كل الحقد الصوفي عليه ،اذ كان يفرح بالسجن حيث يتفرغ للعبادة والتأليف ، الا ان خصومة الصوفية في سجنه الاخير منعوه من الكتابة، مما اثر تأثيرا سيئا علي نفسيته فمات بعد عامين من السجن سنة 728هـ ( ابن ايبك الداودار:سيرة الملك الناصر 133:138،143،154،146،150:151القاهرة1960)ونسأل الان : ألا يزال ابن تيمية حيا حتى الآن بكتبه ومؤلفاته وفتاويه ؟ وإذا كان لا يزال حيا فاين أصحاب الجاه والسطوة الذين اضطهدوه ؟ ونتساءل : كم عدد المفكرين المسلمين الذين يعرفون السلطان بيبرس الجاشنكير الذى اضطهد ابن تيمية؟ ولقد نسيت ان أذكر اسم الشيخ الصوفى الذى سيطر على الدولة المملوكية وقتها . إنه الشيخ نصر المنبجى .. فهل يعرفه منكم أحد ؟.. [c1] ثاني عشر : الإمام محمد عبده [/c]وقد بدأت النهضة الدينية الحديثة على يد الإمام محمد عبده بمؤلفاته واصلاحاته ومدرسته. ولقد قاسى الامام محمد عبده من مشايخ الأزهر حتى كان يلعنهم وقت الاحتضار ، وهو الذى سمى الأزهر بالمخروب والمارستان والاسطبل.. ولا يزال محمد عبده بعد وفاته ـ عام 1905م ـ ملء السمع والبصر .. فهل يعرف أحد أسماء شيوخ الأزهر الذين ضايقوه وطاردوه ؟ ولقد عاشت بعد الامام محمد عبده مدرسة فكرية عانت بعض معاناته ، كان منهم د. طه حسين. وبالمناسبة : من هم شيوخ الأزهر الذين اضطهدوا طه حسين وأسقطوه فى العالمية ؟ ماتوا وهم أحياء بينما لا يزال حيا .. طه حسين .[c1] ثالث عشر : افسحوا الطريق لأهل القرآن ؟[/c]وبدأ القرآنيون بالبناء على ما تبقى من مدرسة الامام محمد عبده ، ولا يزالون ماضين فى طريقهم برغم الاضطهاد الحنبلى السنى السلفى. وبالمناسبة .. هل سمع أحد عن عبد الرحمن الكردى وعبداللطيف خليف والسعدى فرهود ؟ هؤلاء هم الذين عانى منهم أحمد صبحى منصور أثناء سيطرتهم على جامعة الأزهر خلال السبعينيات و الثمانينيات من القرن الماضى، ولكن من يسمع بهم الآن ؟ هل قرأ لهم أحد ؟ وكم عدد من يقرأ لأحمد صبحى منصور ؟ وإذا كان هذا هو الحال اليوم فماذا بعد مرور قرون حين يتسيد فكر القرآن وتقرؤه الأجيال القادمة ؟ وهل ستعرف الأجيال القادمة اسماء أصحاب السطوة الان من الزعماء العرب و شيوخ الفكر السلفى ؟ و إذا قرأت عنهم بالصدفة فماذا ستقول عنهم ؟. إن الفكر السلفى بعجزه وتخلفه وارهابه وتزمته يقدم أكبر خدمه للفكر القرآنى . لقد أدخل الفكرالسلفى المسلمين فى نفق التدين السطحى الزائف الذى اضحى كل شيء فيه محتاجا الى فتوى. وامتدت الفتاوى لتشمل كل شيء فى عصر تميز بالتغيرات المتلاحقة المتسارعة والجديدة والتى تحتاج الى فكر فقهى معاصر يجتهد وفق حقائق القرآن الصالح لكل زمان ومكان وليس مما قاله الأسلاف فى عصرهم . إلا أن الفقهاء السلفيين الذين دسوا انوفهم فى كل شيء يفتون فيه ـ عجزوا عن ملاحقة نبض العصر ، لذا اكتفوا بالمنع والحظر لأنه الأسهل لهم والأقرب لطبيعتهم ، ولأن الفقه التراثى القديم ليست فيه حلول لتلك المستجدات العصرية. ومن هنا يكرر الفقه السلفى نفسه فى فتاويه و أدلته وأقاويله ..وفى كل مرة يؤكد عجزه .. وفى النهاية سيفلس ويتراجع الى الماضى الذى جاء منه تاركا الطريق لأصحاب الفكر القرآنى الجديد والمتجدد والذى يؤطر للثقافة المعاصرة من الديمقراطية وحقوق الانسان و العلمانية من داخل القرآن الكريم نفسه.نقول هذا مع افتراض جدلى بأن السلفيين لا يضطهدون القرآنيين ، فكيف إذا اضفنا نعمة الاضطهاد التى تجعل الفكر المضطهد يفوز بالمستقبل ؟ أى أن الرؤية المستفادة من التاريخ تؤكد انه بعون الله جل وعلا سيسود الفكر القرآنى الداعى لاصلاح المسلمين من داخل القرآن الكريم .وبالتالى فان من اذكرهم ـــ ولو بالنقد ـــ سيتمتعون بالخلود فى المستقبل . أما الكائنات العضوية اياها فلقد رضيت لها أن تستمر فى النباح والعيش في كهوف العصور الغابرة والانقراض في صحاريها المجدبة .