أيوب .. النهر الظاميء !!
ليس في استطاعة احد ان يقول كل شيء عن اي شيء او حتى عن بعض شيء.. وانما في وسعه ان يقول القليل عن القليل، وهذا اكثر مما سيتاح لي في هذا الحيز الضيق لاقوله عن الفنان والمبدع الكبير (ايوب طارش) فاذا قصرت فارجو ان لا ألام، فما اجمل ماقاله الكاتب (اوسكار وايلد) عندما عتب الناس على احد عازفي البيانو لانه لم يحسن العزف، فقال: »لاتلوموا العازف، انه بذل اقصى مايستطيع« !! .. وانا ذلك العازف.علوان الجيلاني وعندما اتحدث عن ايوب فانني اعزف على اوتار نفسي، اي انني سأحاول ان ارى ابعد، وألمس أرق، وأسمع أعمق، وأشم أكثر.. فقد وضع هذا الفنان اسمه على كل شيء، وعينيه على كل لون، واذنه على كل صوت، وانفه على كل عطر.. ثم حرك اوتار عوده .. فسمعنا دقات قلوبنا!!.لقد رافق ايوب مواجيدنا الوطنية .. متغنياً بتراب الوطن وسمائه، باحلامه وطموحاته، بتاريخه ووحدته .. تماما كما رافق رحلة الغربة اليمنية، فكان دندنة المهاجر المشتاق لبلاده واهله، ولوعة المنتظرات في كل مدينة وقرية.. فاذا سمعت امرأة تلوب بصوته:إرجع لحولك كم دعاك تسقيهورد الربيع من له سواك يجنيهفان شفاه رجل بعيد سترد :ميان له امعز من فارقديار امحبايب؟وكيف يهنا زاده؟!وايوب الذي جنينا معه حلاوة الاغنية الريفية غارقة بعرق المزارعين وفرحة المكدودين .. كان ايضا اجمل من رافق عواطفنا، ولون ايام عشقنا .. اي انه كان يطلق أغنية ويترك احاسيسنا تجري وراء ظله او يتركنا نلاحظ اصداءه في نفوسنا!!ومعنى ذلك ايضا.. ان ايوب كان يقول ما في نفسه، وما في نفوسنا .. والتفسير الوحيد لما كان يفعله آلاف الناس الذين رأوا محبوبتهم وعايشوا مواجيدهم على انات ايوب التي تعذب حتى العذاب!!ان وراء كل اغنية من اغنياته كم هائل من الشجن والحزن والاسى والمعاني الجادة.. ويبدو انه كان مع كل اغنية يفعل تماما ماكانت تفعله قواقع اللؤلؤ حين تتسلل اليها ذرة من الرمل.. هذه الذرة تؤذي ذلك المخلوق الحساس الذي يسكن القوقعة، فيغوض في اعماق البحر، ويظل يفرز عليها مادة عازلة.. وعلى مر الايام تتحول هذه المادة العازلة الى حبة لؤلؤ رائعة..فاللؤلؤة او اللحن ليس الا محاولة من الفنان لعزل روحه عن تلك المعاناة المؤلمة .. واللؤلؤة ليست الا دموع الفنان الحساس .. فقد اقام القوقع قبرا رائعا لذرة الرمل، وذرة الرمل هي تلك المعاناة .. هي ذلك الهاجس وذلك الشجن المر والحزن القاتم والاسى الاليم.. اما حبة الشجن فهي العمل الابداعي الجميل الذي نسمعه يقول:مادريش كيف قلبك رضييروى وقلبي مارضيشاشرب واشرب من هوى غيركولكن مارتويشوالضوء في عيني اذا غيبتوجهك مايغيبشخليتني القى وجوه الفجراعشى ماستضيشواحرقت اعشاشي وارياشي ولاخليت ريشاو يقول :تهنيتك وغنيتك غناأنا المحروم من خمر الوجنومن بعد التلاقي والهنارمي بي الحب في بحر المحنتهدا بي لامواج الضنااخذ قلبي وسيب لي الشجنيقهدني ويسقيني المنىعطش يجري بروحي والبدنلقد رافق ايوب في رحلته الغنائية شعراء كبار ولكنهم كانوا الى جانب ذلك عشاقا كبار ومربين ايضا، ولذلك فان كلمات اغانيه ليست الا صورا لاعمال مشتعلة ومتوهجة.. انها اعماق الشوامخ الذين غنى لهم وصور الحياة التي عاشوها .. فكل واحد منهم عاش تجربة الحياة، وتجربة الحب آلاما وجروحا، هوانا وفشلا، عذابا وانانية ايضا.. ثم انهم غمسوا فرشاتهم في كل تلك الالوان .. ولم يكتفوا بذلك، بل اشعلوا بما قالوه دماء ايوب!!وكانت اغانيه من شعر الفضول بشكل خاص، اشبه بتلك القصص الجميلة التي احرقها احد العشاق القدامى ثم اطلقها في حقول القمح لتشعل فيها النار.. ولم تكن حقول القمح في حالة ايوب الا ارواحنا نحن.. ولذلك كانت اغانيه جذوة في قلوب كل العشاق والمحبين والمتذوقين للفن والابداع .. لقد جاء ايوب الى الغناء مؤسسا بتراثه العريق، وظل الاخضرار الصوفي ملمحا بارزا في اغلب ماغناه.. ولكن ذلك الاخضرار الذي لم يكن بردا وسلاما عليه، وانما كان ماءً قليلة على نار كثيرة.. وفي وجدانه هو الذي جعل ايوب عصياً على كل الظروف والمعوقات، تشتد عليه المعاناة حتى يوشك على الاختفاء .. ثم يبعث من جديد انبعاث (برومثيوس) في الاسطورة الاغريقية.. ذلك الرجل الذي تنهش النسور قلبه، ثم ينبت له قلب جديد، لتجيء النسور وتنهشه من جديد!!فهو وان كان قد شرب من يد الشعب شهد المحبة والاعجاب والتقدير.. فانه من جانب الجهات الرسمية قد بقي دائما بين (امجفا) و(مغلايب) .. ولعله قد شعر مرات بتلك المرارة التي يحس بها الفنانون الكبار.. فهو يعلم ان بينه وبين الناس نهرا.. هو يلقي في هذا النهر بدمه وخلاصة روحه .. ويمضي النهار الى الناس، ولايعود اليه. .وتبقى القمة التي انطلق منها الماء جافة عطشى!!هل استطعت ان اقول شيئا يفي بحق هذا الفنان الكبير؟!أشك في ذلك..فأنا ايضا .. مكانني ظمآن!!