علاقات بريطانيا السرية مع الأصوليين والإخوان المسلمين
عن العلاقات السرية ما بين بريطانيا والجماعات المتطرفة في مختلف أنحاء العالم، يجيء كتاب المؤلف البريطاني مارك كيرتس الأخير «الشؤون السرية» ويتكون من 19 فصلا و430 صفحة من القطع المتوسط عن دار نشر «سربنت تيل»، ويوضح الكاتب في مؤلفه بعض خيوط الارتباطات السرية بين الإنجليز والإخوان المسلمين منذ النصف الأول من القرن الماضي، ومدى قوة العلاقات التي توطدت بينهم بالتمويل والتخطيط لإفشال الثورات في المنطقة العربية والإسلامية، التي كانت تمثل جبهة الحرب الباردة بين الغرب والشرق، وتحولت اليوم إلى جبهة الحرب على «الإرهاب الأصولي» الذي بات يهدد أمن المنطقة واستقرارها.يقول مارك كيرتس، مؤلف كتاب «الشؤون السرية»، إن شبح الماضي عاود الظهور مجددا وبات يخيم بظلاله على السياسة البريطانية في أفغانستان، وخلف التواطؤ البريطاني مع القوى الأصولية، بما فيها المتطرفون الذين وفروا معسكرات تدريبية لقائد الانتحاريين محمد صديق خان الذي نفذ مع زملائه هجمات 7 يوليو (تموز) عام 2005 ضد وسائل النقل في لندن والتي أودت بحياة 57 شخصا، وسط اتهامات جديدة وجهت إلى الحكومة وأجهزة الأمن، حملتها المسؤولية عن الأعمال الإرهابية التي تنفذها الحركات الأصولية، نتيجة «لتواطؤ» هذه الأجهزة في وقت سابق مع هذه التنظيمات. يقول كيرتس مؤلف كتاب «العلاقات السرية» إنه عندما وقعت هجمات لندن في 7 يوليو 2005، ألقى الكثيرون بمسؤولية ذلك على غزو العراق، إلا أن العلاقة بين هذه الهجمات الدامية وبين السياسة الخارجية البريطانية أعمق من ذلك بكثير، فالتهديد الإرهابي لبريطانيا هو نكسة إلى حد ما ناجمة عن شبكة من العمليات البريطانية السرية مع الجماعات الإسلامية المتشددة ممتدة عبر عقود. وفي حين يمثل الإرهاب أكبر تحد أمني للمملكة المتحدة، فإن تواطؤ الحكومة البريطانية مع الإسلام الأصولي لا يزال مستمرا.وذكر كيرتس أن «التهديدات الإرهابية لبريطانيا هي انعكاس ناتج عن شبكة من العمليات السرية البريطانية بالتعاون مع مجموعات إسلامية مسلحة تعود إلى عقود ماضية». وحذر من أنه «في الوقت الذي يجري اعتبار الإرهاب التحدي الأمني الأكبر بالنسبة للبلد، تواصل الحكومة البريطانية تواطؤها مع الإسلام المتطرف».فالتواطؤ مع القوى الأصولية ومن ضمنها المتطرفون الذين وفروا معسكرات تدريب لمجموعة الانتحاريين التي نفذت هجمات لندن الانتحارية في الشريط القبلي الباكستاني وللمتمردين في أفغانستان كانت له، وفقا لكيرتس، آثار كارثية على السياسة الخارجية البريطانية في الشرق الأوسط وآسيا. ويقول إنه عندما وقعت تفجيرات لندن الانتحارية سارع كثيرون لإلقاء اللوم على المشاركة البريطانية في الحرب على العراق عام 2003، لكنهم لم ينتبهوا إلى أن المسألة أعمق من ذلك بكثير.وأشار كيرتس إلى أن اثنين من الانتحاريين الأربعة الذين نفذوا عمليات لندن، تلقيا تدريبهما في معسكرات تدريب في باكستان تابعة لحركة «المجاهدين» التي استخدمت في أفغانستان لدحر الاتحاد السوفياتي السابق والتي استخدمتها باكستان أيضا في حربها ضد الهند من أجل تحرير إقليم كشمير الهندي وضمه إلى باكستان.وأضاف أن هناك إثباتا على أن بريطانيا سهلت إرسال متطوعين من «المجاهدين» للقتال في يوغوسلافيا وفي كوسوفو في عقد التسعينات، وأن الكثير من «المجاهدين» كانوا يتلقون تعليماتهم من مجموعة دربتها بريطانيا وزودتها بالأسلحة ومن ضمنها صواريخ مضادة للطائرات.ومن مجموعة المجاهدين هذه، أشار كيرتس إلى جلال الدين حقاني، وزير الحدود في عهد حركة طالبان الأصولية والقائد العام لقوات «طالبان» حاليا التي تتصدى للقوات البريطانية في أفغانستان، إضافة إلى قلب الدين حكمتيار، الذي يوصف اليوم بأنه «قاتل قاسي القلب»، الذي حصل على مساعدات سرية هائلة وتدريب عسكري من بريطانيا في عقد الثمانينات، وجرى استقباله في أروقة الحكومة البريطانية في هوايتهول.وحكمتيار، وفقا لكيرتس، تم تكليفه أيضا من جانب بريطانيا للقيام بعمليات سرية داخل الجمهوريات الإسلامية للاتحاد السوفياتي. وعبر كيرتس عن قلقه من التحول الجاري حاليا في السياسة البريطانية التي تتجه نحو عقد صفقة جديدة مع هذه القوى الأصولية من أجل ضمان خروج غير مشرف لها من الحرب الأفغانية الوحشية، مشيرا إلى تصريحات قائد القوات البريطانية السير ديفيد ريتشاردز، الذي قال في الأسبوع الماضي إنه «ينبغي البدء بالمحادثات مع طالبان في أقرب وقت»، لأن «سمعة بريطانيا ونفوذها في العالم أصبحا على المحك». وتابع كيرتس أن جذور الدعوة البريطانية للتفاهم مع طالبان تعود إلى عام 2004 عندما تم توجيه الدعوة لمولانا فضل الرحمن، القيادي الأصولي الباكستاني الموالي لـطالبان، من أجل زيارة لندن وإجراء محادثات مع مسؤولين في وزارة الخارجية البريطانية. عقب هذه الزيارة أبلغ فضل الرحمن وسائل الإعلام الباكستانية أن بريطانيا تجري محادثات غير مباشرة مع طالبان، «بحثا عن خروج أميركي مشرف من أفغانستان». وحذر كيرتس من أن مثل هذا الاعتماد على القوى الأصولية لتحقيق أهداف تتعلق بالسياسة الخارجية هو تذكير لما حصل في الماضي، «عندما كان مثل هذا التواطؤ موجها للسيطرة على مصادر النفط وإسقاط أنظمة حكم قومية». مشيرا إلى أن الحكومتين البريطانية والأميركية تآمرتا عام 1953 مع آية الله سيد القاشاني، الزعيم الروحي للشيعة ومؤسس مجموعة «أنصار الإسلام» المتطرفة في إيران، من أجل إسقاط نظام حكومة مصدق التي كانت تحظى بشعبية واسعة، بل إن الحكومتين بحثتا مسألة تنصيب القاشاني، سلف آية الله الخميني، زعيما سياسيا على إيران.وقال كيرتس في مقدمة كتابه «الشؤون السرية» إن وكالات الاستخبارات البريطانية منعت شن 12 عملية إرهابية في بريطانيا على مدار العقد الماضي، وتزعم أن هناك نحو 2000 إرهابي معروفين لأجهزة الاستخبارات يعملون ضمن 200 خلية نائمة، ويحذر مسؤولو مكافحة الإرهاب من هجمات وأخذ رهائن يشارك فيها مسلحون بقنابل ستحدث على الأراضي البريطانية، ويبدو أن معدل التهديد بالإرهاب مبالغ فيه لأسباب سياسية، وكما اتهمت البارونة ماننغهام - بللر رئيسة الاستخبارات البريطانية السابقة الحكومة بتخويف الشعب حتى تتمكن من تمرير قوانين الإرهاب الجديدة التي ستحد من الحريات المدنية، وقالت ماننغهام أيضا إنها لم تندهش من تورط مواطنين بريطانيين في القيام بهجمات 7/7 في لندن. وكانت البارونة ماننغهام عضوا في لجنة الاستخبارات المشتركة للحكومة بحكم منصبها مديرة لجهاز الأمن الداخلي، وذكرت أن بريطانيا بالإضافة إلى دول غربية أخرى تواجه بوضوح تهديدات من الجماعات الإسلامية المتطرفة.وتحدث المؤلف كيرتس عن كيفية إنجاح سياسات بريطانيا الاستراتيجية فقال: «إن بريطانيا تعاونت على نحو روتيني مع الولايات المتحدة الأميركية التي لديها تاريخ مماثل من المواجهات مع الإسلام المتطرف، مع الأخذ في الاعتبار انحدار القوة البريطانية فإن العمليات الأنغلو أميركية المشتركة تغيرت من كونها مشاريع مشتركة إلى حد كبير، في السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية إلى مشاريع كان فيها الهوايتهول الشريك غير الرئيسي مع أميركا الذي غالبا ما يزود بقوات خاصة في عمليات تدار من قبل واشنطن». وتحدث كيرتس في الفصل الأول عن جذور العلاقات البريطانية مع الإسلام المتطرف، فقال إن مثل هذا التعاون يمكن أن نجده في السياسات الإمبراطورية فقد جاءت الخطوة الأولى تجاه نفوذ الإمبراطورية البريطانية في العالم الإسلامي عام 1765، عندما سلمت الإمبراطورية المغولية في مقاطعة بنغال الغنية شركة الهند الشرقية التابعة لبريطانيا حق زيادة العوائد، وتحكمت بريطانيا بالتالي في شبه القارة الهندية، حيث تغلبت على قوات السلطان تيبو، وهي آخر معاقل الإمبراطورية المغولية في الهند عام 1779. وفي نهاية القرن الـ19 تحركت الإمبراطورية البريطانية إلى ما هو أبعد من الهند، وأصبح لها نفوذ قوي على العالم الإسلامي.وفي الكتاب أيضا بحسب مؤلفه كيرتس هناك حديث مهم عن أن بريطانيا مولت حركة «الإخوان المسلمين» في مصر سرا من أجل إسقاط نظام حكم الرئيس السابق جمال عبد الناصر، على اعتبار أن الحركات الأصولية أفضل من الحركات القومية العربية. وأضاف أن بريطانيا بدأت بتمويل «الإخوان» عام 1942. وأعلن أنه حتى بعد وفاة عبد الناصر واستخدام خليفته أنور السادات «الإخوان» كأداة لتدعيم حكمه، واصلت بريطانيا النظر إلى الإخوان على أنهم «سلاح يمكن استخدامه»، وفقا لمسؤولين بريطانيين لتدعيم نظام الحكم في مصر. وفي فصل خاص حمل عنوان «تغذية (القاعدة)» وجد المؤلف أن بداية التسعينات شهدت بروز التطرف الإسلامي في كل من أوروبا والولايات المتحدة للمرة الأولى، مصحوبا بأول حرب جهادية في أوروبا وهي حرب البوسنة بعد عام 1992، إضافة إلى تفجير مركز التجارة العالمي في نيويورك عام 1993، إضافة إلى أول هجمات على أوروبا الغربية حيث كانت التفجيرات على مترو باريس عام 1995، ولا شك في أن السعودية قد عانت أيضا من أول الهجمات الإرهابية في نوفمبر عام 1995، عندما فجرت سيارة مفخخة مبنى سكنيا يضم بعثة التدريب العسكرية الأميركية التي جاءت لتدريب الحرس الوطني السعودي. وفي يونيو عام 1996 تم ضرب أبراج الخبر السكنية في المنطقة الشرقية، التي يقطن فيها أفراد الجوية الأميركية، وقد أسفر انفجار شاحنة عن مقتل 20 شخصا، والجزائر هي الأخرى شهدت حربا أهلية بشعة بين الحكومة وعناصر الجماعات الأصولية، أدت إلى مقتل ما يقرب من 100 ألف شخص، منذ اندلاعها عام 1992، وفي أفغانستان انقلبت عناصر المجاهدين على نفسها بعد خروج السوفيات وسقوط الحكومة الموالية للروس عام 1992، ما أدى إلى مقتل الآلاف من أبناء الشعب الأفغاني وتدمير العاصمة كابل، وأدت الفوضى وانعدام القانون بين الفصائل الجهادية إلى ظهور حركة طالبان الأصولية عام 1996، التي سيطرت على العاصمة كابل، وهكذا كانت هناك نتائج بشعة بسبب عولمة الإرهاب، حيث أشعل الجهاديون المسلحون الحرب في أفغانستان في الثمانينات بعد أن تدربوا في معسكرات الجهاد في أفغانستان وباكستان، وعادوا إلى أوطانهم مسلحين بخبرات الحرب لمحاربة حكوماتهم والنظم القائمة، محاولين الاستفادة من نجاحهم في مواجهة السوفيات.وفي الفصل الـ13 يتحدث المؤلف كيرتس عن محاولة اغتيال العقيد معمر القذافي والسعي لإسقاط نظام صدام حسين، فيقول: شهد النصف الثاني من التسعينات زيادة الماكينة الدعائية لـ«القاعدة» ضد الغرب، في سلسلة من الهجمات الإرهابية الوحشية، ففي يونيو (حزيران) عام 1986 أصدر بن لادن زعيم «القاعدة» فتوى إعلان الجهاد ضد الأميركيين وبعده بعامين أعلن تأسيس «الجبهة الدولية للجهاد ضد الصليبيين واليهود» التي وحدت مجموعة من التيارات الجهادية تحت مظلتها خلف أجندة لقتل الأميركيين والقضاء على التواجد الأميركي في الدول الإسلامية، وضمت الجبهة (القاعدة) بالإضافة إلى جماعتين باكستانيتين مثل عسكر طيبة وحركة المجاهدين، كما ضمت الجماعات المصرية مثل الجماعة الإسلامية والجهاد الإسلامي، وعددا من الحركات الأصولية الأخرى، وتصادف إعلان عام 1996، مع نسف أبراج الخبر في السعودية التي تضم فريقا من القوات الجوية الأميركية والذي أدى إلى قتل 20 بينهم 19 أميركيا. وفي نوفمبر (تشرين الثاني) من العام التالي شنت الجماعة الإسلامية هجوما على معبد الدير البحري في الأقصر حيث قتل 63 سائحا. وفي أغسطس (آب) 1998 نسفت القاعدة سفارتي أميركا في كينيا وتنزانيا ما أدى إلى مقتل 224 معظمهم من الأفارقة. وفي تلك الآونة كانت بريطانيا بلا موقف حازم تجاه الإسلام الراديكالي، فأحيانا كانت تنظر إليه باعتباره تهديدا بصفة خاصة لحليفها السعودي، بعد هجمات الخبر 1996، ولحليفها الأميركي بعد هجمات السفارتين، وفي الوقت ذاته استمرت بريطانيا في التسامح مع ما أصبح يعرف باسم «لندنستان» بما في ذلك وجود عدد من مساعدي بن لادن في بريطانيا الذين روجوا لبيانات «القاعدة» حول العالم، وقد أصبحت لندن بالإضافة إلى أفغانستان الواقعة تحت سيطرة طالبان، التي يعيش فيها بن لادن مع أعوانه في قندهار المركز الرئيسي للجهاد العالمي حيث أغمضت الحكومة البريطانية - على الأقل - عينيها عن نشاطات الأصوليين التي تنطلق من أراضيها. وأيضا كانت لندن تتعامل بصفة خاصة في ليبيا وكوسوفو مع الإسلام الراديكالي وبدرجة محدودة في العراق، وكما أثبت تاريخيا فإن الإسلام المتطرف كان مفيدا للمخططين البريطانيين في مواجهة النظم الوطنية مثل القذافي في ليبيا وميلوسوفيتش في يوغوسلافيا وصدام حسين في العراق. وقد كشف الكاتب بعض الخيوط المعقدة في تلك العلاقات العصية على الفهم والتصديق بين بريطانيا والأصوليين، لمدى تشابك وتبادل الأدوار فيها ما بين الدولي والإقليمي والمحلي، وبين الأنظمة الرسمية والأجهزة المخابراتية، وبين المخابرات والأحزاب والتيارات السياسية الإسلامية التي توالدت وانتشرت في الشارع العربي وهيمنت على الواقع السياسي والثقافي، خلال العقود الثلاثة الأخيرة، في مشهد لم يعاصره العرب على مدار تاريخهم. ولم يكن الخبر مفاجئا بقدر ما كان مثيرا نشره في الصفحات الأولى من صحافتنا، لما بات لهذه التيارات من قوة ترهيب وتهديد ضد مصالح كل من يتجرأ على البحث في شؤونها وكشف أسرارها والمس بسمعتها (العقائدية) التي ما فتئت تتشدق بإيمانها الإسلامي ضد الأديان الأخرى.ومراجعة الملفات السرية تكشف أن المتعاونين الإسلاميين المعترف بهم من المخططين هم من المناهضين والمحرضين ضد الدول والمصالح الغربية، ولكنهم دخلوا في زواج مصالح لتحقيق أهداف على المدى القصير. كما أنه بعد تراجع النفوذ البريطاني في الشرق الأوسط سعت الحكومة البريطانية إلى جميع الحلفاء، مع قليل من الاعتبار للعواقب على المدى الطويل. لا ينبغي أن يكون دور بريطانيا في ظهور الإرهاب العالمي مبالغا فيه، ولكن هناك الكثير من المساهمات: معارضة القومية العربية، التي مهدت الطريق لصعود الإسلام الراديكالي في 1970، وتقديم الدعم للمحاربين في الحرب المقدسة الأفغانية في 1980، ومن ثم ظهور أسامة بن لادن وتنظيم (القاعدة)، وظاهرة «لندنستان» في 1990، عندما أصبحت لندن عاصمة مركزية لتنظيم الجهاد العالمي.ويدلل كيرتس في كتابه «الشؤون السرية» على ذلك القول بأن اثنين من الأربعة الذين نفذوا تفجيرات لندن تلقوا تدريبا في معسكرات باكستانية تديرها جماعة حركة المجاهدين الإرهابية التي رعتها باكستان لتحارب القوات الهندية في كشمير.ولم تقم بريطانيا فقط بتسليح باكستان وتدريبها، ولكنها قدمت أيضا مساعدات سرية استفادت منها حركة المجاهدين، فهناك أقاويل قوية تشير إلى أن بريطانيا سهلت سفر المجاهدين للحرب في يوغوسلافيا وكوسوفو في التسعينات.ويمضي الكاتب في القول إن اعتماد بريطانيا على الإسلاميين لتحقيق أهدافها يرجع إلى الماضي، عندما كانت تريد السيطرة على المصادر الطبيعية لبعض الدول أو الإطاحة بالحكومات القومية فيها.وأشار إلى العملية الإنجليزية الأميركية عام 1953 في إيران للتخلص من حكومة مصدق التي كانت تحظى بشعبية والتي قامت بتأميم صناعة النفط في البلاد، الأمر الذي ألحق ضررا كبيرا بالشركات البريطانية، وشملت هذه العملية مشاركة آية الله سيد قاشاني مؤسس حركة أنصار الإسلام، وهي حركة أصولية مسلحة. وقامت أجهزة المخابرات البريطانية والأميركية بتمويل المظاهرات ضد حكومة مصدق، بل إنها ناقشت احتمال اختيار قاشاني كقائد للبلاد بعد الانقلاب.وأضاف: «تكشف ملفات حكومية نزعت عنها صفة السرية عن أن مخططين أدركوا أن المتعاونين معهم من الإسلاميين معادون للغرب، ومع ذلك دخلوا معهم فيما هو أشبه بزواج مصلحة لتحقيق أهداف قصيرة الأجل». والآن، يطل الماضي برأسه مجددا «ليخيم بظلاله القاتمة على السياسة البريطانية بأفغانستان، ويتكبد الجنود البريطانيون إضافة إلى المدنيين الأفغان ثمنا فادحا بسبب تلك الحركة الارتجاعية».ويكشف المؤلف: تعاونت حكومات بريطانية متعاقبة سرا مع قوى مسلحة على صلة بتنظيم (القاعدة) سعيا للسيطرة على موارد النفط والإطاحة بحكومات وتعزيز المصالح المالية البريطانية. وكان أول تطبيق لسياسة الدعم السري مع جماعة الإخوان المسلمين بمصر، حيث جرى تشجيعهم على إسقاط أو اغتيال الرئيس جمال عبد الناصر ذي التوجهات العربية القومية.وتعد تفجيرات 7 يوليو في الجزء الأكبر منها نتاجا لتلك السياسة الخارجية البريطانية نظرا لاعتمادها على «بنية تحتية إرهابية» أسستها دولة باكستانية تحظى منذ أمد بعيد بدعم الحكومة البريطانية، بجانب جماعات إرهابية باكستانية، حسبما ذكر كيرتس. ويسرد الكتاب تفاصيل تاريخ طويل من التواطؤ البريطاني مع الإسلام الراديكالي، بما في ذلك جماعات إرهابية. وتعد هجمات 7 يوليو والتهديد الإرهابي الأوسع نطاقا القائم حاليا، إلى حد ما نتاجا للسياسة الخارجية البريطانية، حيث اعتمدت التفجيرات على بنية تحتية إرهابية أنشأتها دولة باكستانية حظيت بدعم الحكومة البريطانية، وجماعات باكستانية إرهابية استفادت من النشاطات السرية البريطانية السابقة.الملاحظ أنه على امتداد حقبة ما بعد الحرب، ساندت بريطانيا سرا جماعات إسلامية راديكالية في أفغانستان وإيران والعراق وليبيا والبلقان وسورية وإندونيسيا ومصر. ويشير الكتاب إلى وثائق بريطانية كشف عنها مؤخرا.وبدأ التمويل البريطاني للإخوان المسلمين بمصر في أربعينات القرن الماضي. وفي العقد التالي، تآمرت بريطانيا مع الجماعة لاغتيال عبد الناصر (وكذلك الإطاحة بالحكومات القومية في سورية). وكان الهدف من وراء دعم المنظمات الإسلامية - خلال بداية حقبة ما بعد الحرب- التصدي للتيار القومي الذي اكتسب شعبية كبيرة. وعليه، انحازت الحكومة البريطانية باستمرار إلى جانب الإخوان المسلمين بمختلف أرجاء الشرق الأوسط.الحرب السرية في أفغانستان وكانت الحرب السرية في أفغانستان في ثمانينات القرن الماضي لدعم المجاهدين، والتي أفرزت بطبيعة الحال «القاعدة»، مجرد امتداد لسياسة بريطانية قائمة، ومثلت تلك أكبر عملية سرية تنفذها الحكومة البريطانية منذ الحرب العالمية الثانية وتضمنت توفير دعم للكثير من الجماعات الأفغانية الأجنبية التي كانت تقاتل السوفيات (والتي تحارب القوات البريطانية الآن ضد بعضها داخل أفغانستان). ومنذ ذلك الحين، جرى تنفيذ مجموعة متنوعة من العمليات المشابهة تضمنت عمل بريطانيا بجانب قوى إسلامية للتصدي لعدد من الأعداء ميلوسوفيتش في يوغوسلافيا والقذافي بليبيا وصدام بالعراق، على سبيل المثال.وأعرب كيرتس عن اعتقاده بأن سياسة «لندنستان» - القائمة على السماح للندن بالعمل كقاعدة تنظيمية للإرهاب الجهادي بمختلف أرجاء العالم - ارتبطت بصورة وثيقة بالسعي لضمان تحقيق أهداف السياسة الخارجية البريطانية.وتعد العلاقة الخاصة القائمة بين الحكومة البريطانية والرياض واحدة من أبرز الملامح المميزة للسياسة الخارجية البريطانية خلال حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية. وتكشف وثائق أن بريطانيا أبرمت الكثير من الصفقات الاستثمارية مع السعودية عام 1973 (بالقرب من فترة اندلاع أزمة النفط)، وربطت فعليا الاقتصاد البريطاني بنظيره السعودي في ذلك الوقت، الأمر الذي عجزت بريطانيا عن التعافي منه مطلقا.وتكمن جذور كل ذلك في سياسة «فرق تسد» التي انتهجتها الإمبراطورية عندما استغلت بريطانيا القوى الإسلامية في تعزيز مصالحها الإمبريالية في الكثير من الدول، مثل الهند وفلسطين والأردن واليمن. ويحاول الكتاب كشف مدى العلاقة الوثيقة بين التواطؤ بين بريطانيا والإسلام الراديكالي من ناحية وانحسارها الإمبريالي في أعقاب الحرب العالمية الثانية من ناحية أخرى - في وقت اتسم فيه صانعو السياسات بالسرعة والبرجماتية وافتقروا إلى أي بوصلة توجيه أخلاقية وانصب تركيزهم على التصدي للقوى القومية في محاولة يائسة للحفاظ على مكانتهم في خضم عالم متغير.وبالنظر إلى الخطاب السائد حول «الحرب ضد الإرهاب»، ربما يجد الكثيرون في فكرة تواطؤ بريطانيا مع الإسلام الراديكالي أمرا منافيا للمنطق. إذا، كيف يمكن تبرير هذه الادعاءات؟ في الواقع، غالبا ما تكون الحقيقة عكس الخطاب السائد ، الأمر الذي ربما يشكل قاعدة عامة بشأن القضايا الكبرى. من الواضح أن «الحرب ضد الإرهاب» شكلت حربا ضد أهداف معينة حددتها لندن وواشنطن، وليست حربا على الإرهاب بالمعنى الحقيقي.وبعد هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001 باتت مسألة أن حلفاء بريطانيا جاؤوا في قلب الإرهاب العالمي على مدار 3 عقود على الأقل مجرد حقيقة نادرا ما يأتي ذكرها في وسائل الإعلام الذي يشكل التيار الرئيسي. وتركت «الحرب» التي تشنها أميركا وبريطانيا المصادر الحقيقية للإرهاب في العالم من دون مساس. ولو كانت جهود تلك «الحرب» جادة لكانت ركزت على بعض المناطق المثيرة للاهتمام، بينها لندن. وعند محاولة تبرير هذه السياسات، غالبا ما تجري الإشارة إلى أن بريطانيا تساند أهون الشر. لكن يبقى التساؤل: ما هي القيمة الحقيقية لمثل تلك الادعاءات؟.وفي خضم ذلك، ساندت وزارة الخارجية البريطانية بنشاط رجلا اعتبرته «سياسيا رجعيا بصورة كاملة» وهو آية الله قاشاني الذي نظم أنصاره المتشددون مظاهرات ضخمة سبقت الانقلاب العسكري الذي وقع عام 1953 الذي جاء بالشاه - ذي التوجهات شديدة المحافظة لكنه موال للغرب - إلى الحكم. وعمل قاشاني بمثابة المعلم الخاص لروح الله خوميني الذي أطاح عام 1979 بالشاه وأقر بدلا منه نظاما دينيا قمعيا لا يزال مهيمنا على السلطة حتى اليوم.وفي كتابه «الشؤون السرية»، يقدم كيرتس شهادة مثيرة للصدمة حول توجه السياسة الخارجية البريطانية خلال الأعوام المائة الأخيرة. سعيا وراء المصالح الوطنية، وقفت المملكة المتحدة مرارا إلى جانب أكثر قوى الإسلام السياسي وحشية ومحافظة وتآمرت بقوة ضد حكومات ديمقراطية بمختلف أنحاء العالم. وفي الوقت الذي جاءت فيه هذه السياسة بمكاسب مؤقتة، فإن ثمنها على المدى البعيد كان فادحا.بمختلف جنبات العالم المسلم على مدار القرن الماضي، تمثل العدو الرئيسي لبريطانيا ليس في قوى التطرف الديني، وإنما في الوطنيين العلمانيين الذين سعوا لاستخلاص السيطرة على موارد بلادهم من أيدي القوى الاستعمارية السابقة. مرة بعد أخرى، من مصر لإيران وإندونيسيا، سعت بريطانيا لتقويض مثل هؤلاء الزعماء من خلال تسليح وتدريب خصومهم المتطرفين، بينما منحت دعما سخيا لحكام استبداديين إسلاميين على استعداد للتعاون مع بريطانيا بشروط مقبولة. في خضم تلك العملية، أسهمت بريطانيا على نحو مباشر في تنامي الإسلام الراديكالي عالميا، والآن ارتدت تداعيات ذلك على الوطن.وفي سعيها الحثيث للإبقاء على معقل استراتيجي لها في جنوب آسيا - أو حسبما قال تشرشل «الإبقاء على قطعة صغيرة من الهند بعد الاستقلال» عام 1947 - لعبت بريطانيا دورا محوريا في إقامة باكستان، وهي دولة اصطناعية لا تتوافر لديها عوامل تمكنها من المساعدة في الحفاظ على وحدتها سوى كونها دولة مسلمة. وخلال العقود الأخيرة، سعت حكومات باكستانية متعاقبة لتعزيز سلطتها عبر تأجيج مشاعر الحماس الديني في الداخل، ومناصرة إسلاميين مسلحين بمختلف أرجاء المنطقة. ومع ذلك، يجري التعامل مع باكستان منذ أمد بعيد على أنها حليف محوري للمملكة المتحدة وواحدة من الدول المفضلة في توزيع المساعدات العسكرية، على الرغم من أن الاستخبارات الباكستانية، حسبما ادعى كيرتس، استمرت في دعمها للجماعات الجهادية التي تقاتل الآن ضد القوات البريطانية في أفغانستان. وارتبطت بريطانيا بعلاقة أوثق مع السعودية التي ساعدت بريطانيا في صياغة شكلها الحديث مع أفول نجم الحقبة الاستعمارية.ويرسم كيرتس في كتابه صورة لدولة وجدت نفسها حبيسة سلسلة من التحالفات غير المريحة - تحمل منافع عامة مشكوكا فيها - عجزت الحكومة البريطانية عن إدراك طبيعتها الحقيقية بصورة كاملة. وتبدو القضية متفاقمة جراء المستويات الاستثنائية من السرية المحيطة بالسياسة الخارجية البريطانية، ما يعيق إجراء نقاش فاعل حول القرارات التي يجري اتخاذها باسم البريطانيين. مثلا، لا تزال السرية مفروضة على الكثير من الملفات المتعلقة بتدخلنا المجهض بمنطقة قناة السويس على الرغم من مرور نصف قرن. ونظرا لقاعدة «الأعوام الثلاثين» المثيرة للجدل التي تنتهجها المملكة المتحدة، يبقى جزء كبير من تاريخنا الحديث مفقودا. ومع ذلك، تمكن المؤلف مارك كيرتس من القيام بعمل رائع بناء على المصادر المتاحة أمامه، حيث جمع عددا مبهرا من المعلومات المسربة والاعترافات الحكومية للتأكيد على أنه من المنظور الأخلاقي تبدلت السياسة الخارجية البريطانية قليلا في العقود الأخيرة. وقدم بالفعل على هذا الصعيد حجة قوية، وإن كانت مثيرة للحزن.[c1]عن/ (الشرق الأوسط)