دراسة /خيرة خلف الله (تونس) وعبداللطيف المنير (سوريا)مع التواتر النسق الحياتي السريع، وانتشار المعلومة اللحظية الناتجة عن ثورة البرمجيات، تقارب العالم وناسه، وتلاقحت أفكاره بثقافة الآخرين، وأفرزت شكلا ثقافيا معاصراً نتيجة التداخل الحضاري. وأصبح العالم في تقاربه أصغر من قرية صغيرة. هذا النتاج الجديد لم يكن مألوفا لدينا، لكنه تزامني مع هذه الحياة السريعة، وشمل وأثر على معظم سلوكيات الفرد في المجتمع ومنها الفنون والأدب، وحتى على نمطية التفكير لديه.فمثلاً في الموسيقى، ومنها الراب هذا التوقيع السريع الذي تنتهي أواخر كلماته بقافية ثابتة لا تحتاج ممن يؤديها أن يكون موسيقيا أو فناناً، أو ملحناً، سوى أن يعرف كيف يتحكم بلوحة المفاتيح للآلة الموسيقية الرقمية المبرمجة لحنياً، ويبدأ بالغناء السريع. كذلك التصوير والرسم الرقمي، لم يعد يحتاج أن تكون فناناً بقدر ما تكون بحاجة لمعرفة بعض البرامج الحاسوبية التي تخص هذا النوع من الأداء!ولم يكن الأدب ببعيد عن هذه الثورة، بل أصبح وبفعل مواقع التواصل الاجتماعي على الشبكة العنكبوتية (الإنترنت) ومنها الفيس بوك، حياة بشر وقبائل وأمم لهم أخبارهم ورسائلهم وأدبهم وفنونهم، ولهم خصائصهم وفعاليتهم. وما يخصنا هنا، وفي بحثنا هذا، موضوع أدب الجداريات على الفيس بوك والذي سنسميه هنا (أدب الومضة الجدارية)، أو كما يعرف سابقاً (الخاطرة) أو كما قيل: خربشات على الحائط في الشوارع العامة!فقد تقرأ نصاً على جدار الفيس بوك لأحد الشعراء من عشر كلمات، فتكون أمام قصة متكاملة الشروط من مقدمة وعقدة ونهاية، هذا الكم المختزل في عشر كلمات تقريبا، والمضغوط بصورة جميلة، وأحيانا تكون أيقونات رائعة في الجمالية الشعرية.ومن خلال متابعتنا لبعض الشاعرات والشعراء والكتاب، وأكثرهم من جيل الشباب، الذين يكتبون هذا النص الوامض، توجهنا بسؤالين لهم:- هل لكم أن تعطونا فكرة سريعة عن اللحظات التي تسبق هذا النوع من الكتابة، وعن شعوركم قبل كتابة هذه الومضة الأدبية علي جدارية الفيس بوك؟- والسؤال الثاني: ماذا تريدون من هذه الومضة، هل هي تفريغ شحنة نفسية لكم تودون من خلالها النفاذ إلى القارئ، أم شيء آخر؟أجابت الصحافية الشابة إحسان الفقيه من الأردن:(أشعر بضجيج في رأسي، افتح مربعاً أو مستطيلا أحرك أصابعي في الهواء مثل الذي يهم بعزف على آلة البيانو، مثلا الكلمة الأولى مهمة أو العبارة الأولى وبعدها يتدفق الكلام، لا أعود لترتيب شيء، فقط أتأكد من الأخطاء المطبعية هناك، وفي الإملاء أخطئ طبعا أحيانا ولكن أقل من غيري). وتضيف إحسان الفقيه قائلة: (الومضة لها علاقة بالليلة السابقة وبمزاجي الحالي، نعم هي عبارة عن تفريغ شحنة نفسية وبصراحة أشعر بالارتياح وبنوع من اللذة وبدماء تتدفق إلى قلبي كلما كتب احدهم تعليقا سواء أعجب بي أم لم يعجب، المهم أن هناك قراء تتلمسهم، وتتذوقهم، وتشعر أنهم معك يقرأونك الآن). [c1]نماذج من ومضات إحسان الفقيه[/c](من قال إني أمقت الملك أو أنقم على الأغنياء؟ قد لا أحب الأول ولكني لا أكرهه، ولا أظن أن هناك نصا قانونياً يجرمني إن لم اصفق له أو أفتح فمي بدهشة حين أراه كالبلهاء، أو إن لم أتخشب في مكاني عندما أرى سياراتٍ حمقاء تكاد تسحقني ذات موكب خاص به أو بعائلته أو معاونيه، نقمتي على الأغنياء لا علاقة لها بما ورثوا عن آبائهم فقد ....وفي عينة من ومضات غادة مخول صليبا، وهي كاتبة من لبنان ولها مقال أسبوعي تحت عنوان (قهوة من كلمات)، في مجلة “المرأة اليوم”، التي تصدر من أبو ظبي عن العربية للصحافة والإعلام، ويقوم على تحريرها أعلام من الفكر والإعلام. تقول عن ومضاتها:(هذه الومضات هي إما فكرة مسبقة تأتيني وأنا في حالة ما، مع كتاب أو في مكان ما، أو حتى عند سماع أغنية، هناك شيء يلهمني لأكتب، ربما كلمة أو جملة وحتى لحن فريد يحرك الإحساس ويعطي الراحة النفسية لدافع الكتابة. كما هي أيضاً تعبير سريع عن خيال ما، أخلقه في أي حالة أعيشها لربما حزن أو فرح أو قلق، لأن جدار الفيس بوك يساعدنا أن نتشارك ما نشعر به مع الآخرين، هذا ويشعرنا بالراحة لتفريغ ما هو لم يكتب على ورق. التواصل مع الآخرين عبر ما نكتبه هو دليل أن الكلمة وصلت لقلب أو فكر القارئ، ربما عبرت عن نفسه أيضاً أو عن أي حالة يعيشها. كما هي أيضاً كتابات تلهمنا لأن نكتب نصاً كاملاً وهي تكون كفكرة أو إحساس يساعد في الانطلاق).[c1]نماذج مما تكتبه غادة مخول صليبا[/c](هو.. ليس له مكان أو زمان، رجل من عصر لم يأتِ بعد، يرمم حلمي وينام في إحساسي، يتشبث الصحو في رائحة قهوتي الداكنة واللذيذة بمرارتها، أرتشفه ببطء ولا أعرفه، متسائلة مع النسيم: هل سيبقى الغائب المتكلم في اللازوردِ؟ أنا.. حقاً أهديه وردتي).أما الشاعرة المخضرمة ضحى بوترعة، عضو اتحات الكتاب ومدرسة لغة عربية وفرنسية من تونس، كتبت على جداريتها: (تولد في ألف مرة)، لأن انتباه الذاكرة غيمة قرب الندى. ومعجزة الارتطام فوق سقف عاشقة لا تتوب!وعلى أسئلتنا أجابت:(القصيدة الومضة ربما تحاول عبر اختزالها شكلاً من أشكال التقدم الهروبي، التخلص من توتر ملح جداً .. لا بد أن يظهر .. أو ينتهي.. وتعتمد على ثقافة المتلقي الشعرية. فلا بد للشعر أن يكون نخبوياً وإلا صار كلاماً عادياً. الشعر الآن يخرج من الذاتية المغلقة .. الومضة هي كالبرق تماما .. تضيء العالم فتكشف وبسرعة أيضا العتمة ثم تعتمد على قوة الانتباه ...).لكن بلال سلامة الشاعر الشاب من فلسطين حين يكتب بشكل مختلف نراه قد تخصص في هذا النوع من الأدب فهو يكتب بإحساس عالٍ جدا، وبشكل مضغوطة أدبية، مكثفة المعنى، ليقول في بعض ومضاته:يحكى أنزوجة الراويالتي تكره المساحيقدهنت وجهها بغيمة... لذا ..مات البطل.وفي ومضة أخرى يقول:أستطيع تدوين تاريخ الثلاثة آلاف عام المنقضية.. عنكوأنا أبتسم للغيم بلطف، لكنني لا أستطيع دون قبلة واحدة أن أقول للتاريخ، لا تبدأ... حبيبتي لم تنهض من نومها بعد[c1] *** [/c]وفي جدارية أخرى له كتب:في عيد ميلادهاتذكرت كل شيءلكني..نسيت الوقت![c1] *** [/c][c1]وفي معرض سؤالنا للشاعر بلال سلامة أفاد عن ومضاته قائلا:[/c](هي لحظات، ومضة، أو حالَة، وإن شئت سكتة تأملية، أو فكرة، لا فرق.. لا وقت لها، ولا مكان أو زمان يسبقها، تفرض نفسها أينما كنت وكيفما كنت، في البيت أو في الشارع، ومضات أو مشاهد من أفكارنا العادية السريعة الكثيرة، من أحلامنا وهواجسنا، أحاسيسنا وتطلعاتنا، انتباهنا الحسي إلى جمالية شيء ما، إلى حالة عاطفية، أو فكرية، من عالم الفرد الخاص والجمعي في آن واحد).ويضيف بلال: إن تدوين هذه الأفكار، بصورة أدبية، أو دهشة كثيرة الشكوى، أو قليلة الحظ، أمر ضروري يساعد على اكتشاف عوالمنا وعزفنا المنفرد، معرفة علاقتنا بالأشياء، الزاوية التي ننظر من خلالها لأدق التفاصيل، إدراك طبيعة الصور التي نشاهدها في الواقع اليومي المعيش وما تمثله لنا، كيف نراها، وكيف نترجمها، وكيف نشعر بها، وكيف تنمو العلاقة المرتبطة بها، أيضاً الصور المتخيلة في الأذهان، والتي لا يراها أحد غيرنا، أن نستطيع ترجمتها وتدوينها رغم سرعتها الهائلة، أو أن يحالفنا الحظ لالتقاط بعضها وترجمته لنص سريع أو بطيء، يساعد على مشاركة العوالم.. استفزاز القارئ لتحريك مخيلته، وإن أردت لـ (فكفكة الاستعمار) العقلي والتقليد المكرر لزاوية الرؤية للأشياء وعلاقاتنا الساكنة أو بطيئة النمو نحوها. ليس مهمة هذه الومضات أو ما تشبه قصائد (الهايكو اليابانية)، إمتاع القارئ وحسب إنها تحمل فكرها ومعرفتها ورؤيتها للمشهد، لا تثرثر أكثر مما يجب، ولا تطيل على القارئ، هدفها الأول أن تقدم صورة المشهد بأبعاده الخاصة العامة المشتركة.»[c1]في حين كتب آخر على جداريته:[/c](انقطع الحب حين انقطعت الإنترنت ليوم واحد لأني نسيت أن أدفع الفاتورة. بعدها وجدت حبي صدفة، عند جاري وصديقي، الذي يدفع فاتورته بانتظام!).كما كتب وبنفس الموضوع ساخرا أيضاً:(كنت أبحث في دليل الهاتف ومحرك البحث غوغل عن مكاتب للحب، لم أجد سوى مكاتب للزواج هل سقط ما أبحث عنه سهوا؟)لكنه في مقام آخر كتب:(عندما ينصهر الظّل على نهديها، ويمنح جسدي جمر انتصاره. حينها ينسى اللحظ قراره).حتى أن من الشعراء الكبار كأنسي الحاج على صفحته في الفيس بوك لديه ومضات أيضا، وجداريته تعتبر من الروائع لما تحمله من صور ومعان شعرية خفيفة الظل رقيقة المعنى قوية الصورة.وهذه مثال ومضة للشاعر اللبناني أنسي الحاج يقول: (حين في صدري المنهار، يشرق وجهك الباسم كأحضان الملاذ، كدموع الخلاص، أعرف أني أحبك. لن أحبك الحب، الحب الذي ينتشلني والذي يملأك و يغمرنا معا بسماء تتوسع فينا، إلا بارتمائي واحتضانك لارتمائي).بيد أن القارئ يستفيد من هذه الجرعة الأدبية، فتكون قد أحيت فيه إشراقة يوم جديد، يقرأها من خلال هاتفه النقال الذكي، أو لمحة البصر من جهاز حاسوبه أثناء العمل، لتعطيه نشاطاً ولربما حافزا ليرد على هذه الومضة بومضة أخرى، وليس من الضروري أن يكون ذلك القارئ كاتباً أو شاعراً، لكنه تمرس من خلال القراءة وأصبح لديه من الشجاعة أن يكتب ومضة أدبية مماثلة، إن سرعة الوقت والعجلة اليومية أنتجت أدباً سريعا وبكل الأحوال غالباً ما يكون جيداً وراقياً.وقبل أن ينتقل أدب الكتابة على جداريات مواقع التواصل الاجتماعي، كان وما زال، على أرض الواقع، فكثيراً من مدن العالم المكتظة سكانيا تعاني من هذه الظاهرة، وبعض الدول المتقدمة وصل بها الضيق إلى سنّ قوانين تجرّم الكتابة على جدران الشوراع العامة، وفي داخل محطات القطارات، أو على الحافلات، وعلى أسوار الحدائق. وفي أميركا مثلاً يسمى هذا النوع من الكتابة على الجدران ,Graffitiوحتى أنها في مرحلة ما، وقبل الثورة الرقمية وانطلاق الإنترنت، كانت تمثل رأي شريحة من الشباب الذين يودون تمرير رسائل إلى حكوماتهم تعبر عن معاناتهم ومشاكلهم، ومنهم من أراد أن يكتب لحبيبته، ومنهم من تسلق الجبال ليكتب على قممها كلمات الحب، ومنهم من انتحر بعدما كتب آخر جملة لمعاناة ما، كانت تواجهه في حياته.وفي المقابل الآخر وفي هذه الدول تحديداً، وفي نطاق ضيق، أجازت بعض القوانين الكتابة على الجدران من قبل أطفال المدارس، وأحياناً على أرضية الأرصفة، حتى يعبر الأطفال عن تطلعاتهم وآمالهم المستقبلية. هذا الفن وهذا الأدب انتقل تماما، كأي فنون أخرى إلى المواقع الالكترونية، وكما أسلفنا سابقا. فهل النص الوامض حوار يستحق المجاملة؟نعم هو ومضات (خواطر) تلج الذاكرة وتنسغ مواقف لترتسم في شكل حروف مترابطة متتالية على العناوين الرّقمية والرسائل الإلكترونية في إيصال المعلومة بدقة وسرعة متناهيتين، وبفنية تترجم ما بلغته كل ذهنية بحسب ميولاتها وطبيعة أفكارها، فهناك من يرى أننا (أمة لم ولن تتحرر من قيد الفكر .. إلا عندما ينساب فكرها كحروف متمردة بلا أغلال). وهذه المقولة المقتبسة وردت على أكثر من حائط هكذا يتكون النص ماسحاً حيزا افتراضياً وشكلياً، له خصوصياته ومداره، مختلف من حيث الطبيعة وإن التزم الحرف متميز في حضوره وإن حافظ على أهدافه، فيصب فيه جام الإبداع متى كان الكاتب في حالة من التجلي مربكة. يقول المبدع والدكتور المصري المتغرب محمد مصطفى السالم (وهل الفجر إلا ضحكة من قلب بطعم ركعتين مبللتين بالضراعة). وكما يبثه كل غضبه متى استشاط بهذه الحياة يقول المبدع الشاعر التونسي محمد الصغير أولاد أحمد (قال الزعيم وجدتكم ذرات رمل في الفلاة، صاح المهرج أن أنت مدى الحياة). هكذا يحمل النص الوامض ما يخامر ذهن قائله. فالمغرم يترنم بأسمى ما تجود به قريحته إن كان في زهو مع المحبوب وإن خاصمه أو عاتبه فإن الحائط الإلكتروني تسوده القتامة المدادية ولا تجد متنفساً من الآهات والشكوى، والمناضل يكسوه بكلام الثوار وعبارات النخوة وما يمد في نفس حربه مدا، والسياسي تسود صفحته الخطابات والتمريرات الديبلوماسية، والإعلاميّ تراه يطلق النار على هذا الطرف أو ذاك بغية إيصال فحوى الوعي بالحياة، فتخضب التعاليق صفحته شتما أو إكراما ثمّ يكون التثمين أو الاستهزاء، وهكذا يتحرّك النص الوامض في سرعة أسرع من البرق، وأخف من لمح البصر حيث غدت سرعتهما مقارنة بسرعته في طيّ الكتمان لما اكتسبه من خصوصيات. فهو جنس إن أردنا نثريّ سردي يقوم على المشهد واللقطة والومضة والاختزال والكثافة في كل العناصر: شخصيات وفضاءات ووصف ولغة تطلب تواصلاً أو تقاطعا مع فكر ما، أو طائفة أو منطق، بغية الإرساء للبديل. كما هو حالة وجدانية تعبر عن ذاتها فتذر الصحب والمعلقين يخوضون غمارها في شكل منتدى مفتوح ومن كل حسب رغبته إلى كل حسب طاقته ومراميه فتندلع ردود الأفعال ويتشكل المشهد الحياتي الفايسبوكي أو غيره وينتشر الوعي بالموضوع من متصفّح إلى آخر لتتسع دائرة الحوار حتى تعرج إلى شطر الانفعال أو الهدوء وتستيقظ الهرر النائمة والنوايا الحقيقية لتفرز في النهاية موقفاً مصالحا مع المجتمع الافتراضي أو نقضه. يبقى النص الوامض فسحة موازية ترصد الإحساس والهواجس ليشكل موقفاً يختزل بإزاء الآخر، يتاخمه فيتقاطع معه حينا ويختلف معه أحيانا دون أن يفسد حبل الود ومن ثمة يكون القارئ والكاتب في إطار تشكيل نص ذي حراك معين يمتعنا يستفزناً ولكننا لا نستطيع أن نتجاهل وجوده وإرساءه لتقاليد أدبية حتمها الافتراض. وأن نكتب عن هذا الأدب فلن نعطيه حقه هنا، فهل سيكون لهذا النمط من الأدب مستقبل ورواج، أم سينتهي ويكون كفقاعة صابون أحرقت عيوننا في لحظة قراءته وانتهى؟ نترك الباب مفتوحاً لنقاد الأدب والمهتمين به وسائر القراء.
|
ثقافة
أدب الومضات الجداريةهل سيكون له مستقبل ورواجً أم سينتهي كفقاعة صابون
أخبار متعلقة