لماذا تنجح ثقافات وأمم وشعوب عديدة في تطوير وتحديث تراثها، بل وتقديم دينها لإنسان ومجتمعات القرن الحادي والعشرين، بينما نحن نعاني كل هذه المعاناة مع ديننا وتراثنا وثقافتنا في العالم العربي والإسلامي، ونتقاتل على صفحات الكتب وأوراق المقالات وشاشات التلفاز ومواقع الإنترنت، بل نقتل ونذبح ونفجر الآخرين وأنفسنا بلا رحمة أو شفقة؟لماذا ينظر علماء الاجتماع والسياسة، إلى القيم الدينية وتفسيراتها، كعنصر دعم وثبات وديمومة وتماسك بين الأفراد والمجتمعات، بينما نراها للأسف تحولت لدينا إلى مادة مثيرة للجدل والفتن، وفي أكثر من منطقة إلى قنبلة موقوتة؟.جماهيرنا تعيش جسدياً في القرن الحادي والعشرين بينما تتبنى أفكاراً وثقافة وقيماً من عصور ما قبل الذرة والكهرباء والبخار وحتى الفحم الحجري.من يصدق، من مفكري ومصلحي القرن الماضي، إنْ بُعث اليوم وشاهدَ المواقع الإرهابية في الإنترنت، ورسائل زعماء وشيوخ القتل والتفجير، وفتاوى العزل والتفكير، أن هذا ما انتهت إليه مجاميع من شباب العالم الإسلامي، ممن دخل الدعوة من باب الوسطية والاعتدال والمجادلة بالتي هي أحسن، ثم انجرف مع أشرطة التشدد والإرهاب وكتبهما، ثم انخرط في تلك “الخلايا النائمة” و”الكتائب الاستشهادية”، وتوجه من ثم... إلى “الجهاد”!؟يُقال إن الإرهاب ليس محصوراً بالمسلمين، ولكن معظم الإرهابيين في الخارج والداخل من المسلمين! ومن الشباب، ومن الخريجين، ومن الأطباء وأهل النعمة أحياناً والثراء.لا يوجد مثلاً “بن لادن” مسيحي، ولا يوجد “زرقاوي” يهودي، ولا يوجد “مقدسي” بوذي، ولا يوجد “أبوقعقاع” زرادشتي، ولا يوجد “شاكر عبسي” بهائي!كما أن بلدان آسيا وأفريقيا وأميركا الوسطى والجنوبية غارقة أحياناً في الفقر والجوع والظلم والبطالة والاستغلال والقمع وكل معطيات البؤس والشقاء. ولكن كل هذه القارات والأقطار لم تخرج حتى الآن عشر معشار ما أخرجت الدول العربية وباكستان وإندونيسيا من الإرهابيين والتفجيريين والتفخيخيين وقطاعي الرؤوس والاختطافيين، ولم تهيمن جماعة كـ”القاعدة” على مصير الكاثوليك في العالم، ولا أمسكت حشود من خريجي المدارس الدينية البوذية بمصير كوريا الجنوبية أو تايوان، ولا تسللت مجموعات مقاتلة مجاهدة استشهادية مثل “فتح الإسلام” إلى بعض الدول الصغيرة مثل لبنان في أي مكان!لا توجد أي ثقافة في البلدان المتقدمة أو العالم الثالث، تهيمن عليها قيم القرون الخوالي، وتتحكم بمفكريها مخاوف القتل والاغتيال والقمع، ولا يجرؤ أحد حتى على أن يفهم دينه وتعاليم شريعته بمرونة أكبر مثل بلداننا! لا يوجد في أي بلاد تراث، من يتكلم عنه يُهدد في رزقه! ومن يجرؤ على معارضته يُعزل ويُكفر ويُسجن ويفقد حياته! جماهيرنا تعيش جسدياً في القرن الحادي والعشرين بينما تتبنى أفكاراً وثقافة وقيماً من عصور ما قبل الذرة والكهرباء والبخار وحتى الفحم الحجري.مستلزمات التحرك إلى الأمام والنهضة لا تشغل أي بال ولا تأتي في مقدمة أية أولويات. تبدو الناس محافظة ومتدينة ومتعصبة ومتمسكة ظاهرياً. لكن لا أحد يناقش من يراه كل يوم حول ماهية الدين، وعلاقة الدين بواقعنا ومستقبلنا، ولماذا دخل العرب والمسلمون هذه الأنفاق المظلمة والمتاهات، ولماذا الدول العربية والإسلامية الفقيرة معوقة، والدول العربية والإسلامية الثرية مأزومة!لماذا لا تكون المغرب والجزائر مثل إسبانيا واليونان، ولماذا لا تلحق مصر وسوريا والعراق بكوريا الجنوبية، ولماذا يتسابق شباب دول الخليج للالتحاق بالجماعات الإرهابية في لبنان والعراق وأفغانستان وأوروبا بدلاً من الالتحاق بأرقى الجامعات؟كثيراً ما نتكلم عن “الإسلام الحضاري” و”الإسلام الإنساني” و”الإسلام العصري” و”الإسلام المعتدل” و”الإسلام الديمقراطي».ولكننا، وفي عشرين دولة عربية وخمسين دولة إسلامية، لم نجتمع حتى الآن تحت راية أي جماعة إسلامية تتبنى هذه القيم، جماعة تحترم حقاً الحضارة والإنسانية وروح العصر والاعتدال والديمقراطية! حتى الأحزاب الإسلامية التي تجاهر بالاعتدال والانفتاح لا تزال مجرد أحزاب “إسلامية”، “سنية”، “شيعية”، رجالية في قيادتها، سرية في إدارتها، تبطن غير ما تظهر، ولا تملك رؤية مستقبلية واقعية للمجتمع والدنيا!إنه الإسلام الإنطوائي، والتدين الحزبي السري الذي كثيراً ما يؤدي إلى الانغلاق أو الإرهاب. فالشباب الذين تبتدئ ثقافتهم الدينية بكتب وأشرطة أحزاب وجماعات الإسلام السياسي، ولا يعرفون من الدين سوى “آية السيف” و”جئتكم بالذبح” و” جواز التمترس بالنساء والأطفال”، لا يمكن أن يصلحوا لبناء الإسلام الحضاري أو الإسلام الإنساني أو الإسلام الديمقراطي!إن جماعات العنف تتلمذت على يد سيد قطب وأبوالأعلى المودودي في مصر وباكستان. ولكن مؤلفات قطب والمودودي، لا تزال كذلك عظيمة الشأن في صفوف جماعات “الوسطية والاعتدال”، و”كوادر “الإخوان”. وقد أفنى أحدهم حياته، كالراحل “سالم البهنساوي”، مدافعاً عن قطب، وهو ما لم يفعله أحد حتى من جماعات “الجهاد” أو “التكفير والهجرة»!وتدافع كتب “المعتدلين” عن حرية العقيدة مثلاً، فيرى د. مصطفى السباعي، مؤسس حركة “الإخوان” في سوريا، أن الدولة الإسلامية تقر بحرية العقيدة الدينية، “فكل جو لا تكفل فيه حرية العقيدة يعتبر عدواناً على الحرية الأساسية للإنسان. ومن ثم فهو عدوان على الإنسان نفسه وأشد خطراً وأبلغ إيذاء من العدوان على جسمه وماله”. (اشتراكية الإسلام، 1962ص 77). وهذه عبارة حكيمة وموقف شجاع، ولكن هل يلتزم به “الإخوان” في أي مكان؟جانب آخر لا يكترث به عامة العرب والمسلمين وهو تجارب الأمم واعترافات الإسلاميين ودروس التاريخ.فكم من مرة هيمنت الأحزاب والثورات والعقائد والنار والبارود على مصير الشعوب، وكم من مرة رفعت بعض الجماعات أجمل الشعارات وأطلقت أروع الوعود. وكم وضعت في أيدي الناس الشمس والقمر، فإنساقت الناس خلفها مؤمنة مصدقة، قبل أن تنكشف الحقائق المرة.ومن المحزن حقاً، أن الجماهير البائسة والشرائح الاجتماعية الفقيرة تدفع الثمن أضعافاً في كل الثورات تقريباً، فهي تقدم أبرز التضحيات في سبيلها، وتنال أقل القليل بعد قيامها. وإذا استمرت القلاقل والمشاكل السياسية والاقتصادية عمّ الفساد، وأثرت الأقلية من قادة الدولة والحزب، وتضاعفت معاناة البسطاء. ولا يلتفت الجمهور كذلك إلى أن الخدع والحيل وألاعيب السياسة في الجماعات الإسلامية.يقول د. يوسف القرضاوي في مقال له بمجلة “الأمة” القطرية: “وقد لاحظ المراقبون للحركة الإسلامية الحديثة أنها تبالغ في تقدير قوتها. وتبالغ في بيان ضعف خصومها، والتهوين من شأن العوائق في مسارها، وتهول في المدح إذا مدحت، وفي الذم إذا ذمّت، كما تبالغ في الحب إذا أحبت والكره إذا كرهت”. (العدد 56، مايو 1985). ويقول د. فتحي يكن من لبنان في كتابه “الاستيعاب في حركة الدعوة والداعية” 1983: “لقد ابتلي الإسلام اليوم بدعاة يدعون الناس إلى تنظيماتهم بدل أن يدعوهم إلى الإسلام، ويبينون لهم محاسن تنظيماتهم ومزاياها بدل أن يبينوا محاسن الإسلام ومزاياه” (ص18).ومن أسباب صعود الإرهاب وضياع العرب والمسلمين في بيداء القرن الحادي والعشرين، أنهم لا يعرفون جيداً مشاكل بلدانهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وأن الأشرطة والكتيبات التي يتداولونها تتحدث لهم إما بالتعبئة الدينية أو بالتهجم على “مظاهر الجاهلية” أو غير ذلك. والواحد منا ومنهم مسكين حقاً. فلا التعليم يطور عقولنا، ولا الإعلام يربي فينا التوازن، ولا المواعظ توجهنا إلى ما ينبغي القيام به!لا أحد يهتم أو ينتبه إلى أن متوسط دخل الناس في هذه البلدان من أقل النسب، وأن ثمة كوارث قادمة في مجال الغذاء والماء والعلاج والعمل، وأن فجوة الاستثمار والتحديث والتنمية تتسع باستمرار بين هذه البلدان والبلدان المتقدمة، وأن التعليم العام والجامعات في انحدار، وأن التصحر والفقر والأمية في صعود وارتفاع! لاشيء مما يتعلق بكل هذا يشكل جانباً من ثقافة الأشرطة والكتيبات ومواقع المجاهدين في الإنترنت.هذا الذي نعاني منه إذن كارثة حضارية حقيقية. نحن اليوم، بسبب هذا الشذوذ السياسي والتطرف الفكري والتعصب الديني الحزبي، منبوذون مطاردون، محرومون في كل أقطار العالم. وفي أماكن كثيرة ننطلق ولكن في الاتجاه المضاد. أدوات التقدم والحضارة كالتلفاز والإنترنت والنقال تحولت على أيدينا إلى معدات إرهاب، القطارات والسيارات والدراجات النارية والشاحنات صارت أدوات تفخيخ وتفجير. مستقبل تقدمنا وحل مشاكل التعليم والعلاج والزراعة والصناعة والتصدير بيد البلدان المتقدمة، بينما بذلنا كل ما بيدنا من جهد وحيلة لنصبح ألدّ أعدائها!فمن فعل بنا كل هذا؟ ولماذا لا نزال ساكتين متسامحين؟يُقال بأن وزارات الأوقاف تحارب “التشدد”. يُقال إن عقلاء “الصحوة الدينية” يشجعون الوسطية وينشرون الاعتدال، يُقال إن الكُتاب والمثقفين يقومون “بتعرية” التطرف الديني والتشدد الأصولي في ثقافتنا وحياتنا الفكرية والإعلامية. يُقال الوعاظ، يُقال المساجد، يُقال فلان وفلان. الواقع أننا لا نفعل أي شيء مساويا في الوزن والتأثير لما يهددنا من مخاطر![c1]عن / جريدة “الاتحاد” الإماراتية[/c]
العالم الإسلامي ... التراث ضد مصلحة الأمة!
أخبار متعلقة