عبدالعزيز ثابتجاء في كتاب العهد بين خالد بن الوليد عند فتحه العراق، وبين زعماء الحيرة الذين رغبوا في البقاء على دينهم، “فإن فتح الله علينا فهم على دينهم، لهم بذلك عهد الله وميثاقه أشدُّ ما أُخذ على نبي من عهدٍ أو ميثاق، وعليهم مثل ذلك لا نخالفه، وجعلتُ أيّما شيخ ضعُفَ عن العمل أو اصابته آفةٌ من الآفات، وكان غنياً فافتقر، وصار أهل دينه يتصدقون عليه، طرحتُ جزيته، وعيلَ من بيت مال المسلمين بالنفقة على عيالهم”.ذلك هو موقف الإسلام المفعم بالنزعة الإنسانية والأخلاقية العميقة، والمفعم بروح المسؤولية اتجاه كل الناس واتجاه كل مواطن أياً كان دينه، أو جنسه أو لونه، فالناس جميعاً أخوةٌ سواء؛ لهم نفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات وبمعنى آخر؛ فإنّ لغير المسلمين ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، وقد تجسَّد ذلك بوضوح شديد – على سبيل المثال – من خلال عهد الإمام علي كرّم الله وجهه إلى الأشتر النخعي حين ولاّه على مصرَ بقوله : “فأشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم واللطف بهم، ولا تكونن سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم؛ فإنّهم صنفان إما أخٌ لك في الدين، وإما نظيرٌ لك في الخلق”.لنقارن ذلك الموقف الذي يمثل جوهر الإسلام بمواقف الجماعات الإرهابية المدعية بالإسلام لدينا، من الأقلية اليهودية، إنّه مثالٌ واحدٌ فقط من أمثلة عدة تُبيِّن زيف مواقف ومسالك الجماعات الإرهابية والتي ترقى إلى مستوى الجريمة التي تمس الإسلام، وتمس المسلمين؛ ديناً وحضارة وسماحة خلق، ونبل سلوك وتعاملاً مع النفس ومع الآخر.نحن لا نستغرب مثل تلك المواقف لجماعات الإرهاب والتطرف التي لا يجمعها جامع بالدين، والأخلاق والسلوك الحضاري .. فالإسلام يتعرض اليوم للتشويه والتشهير المزدوجين من قبل الدوائر اليمينية المتطرفة الحاكمة في الغرب، من جهة، ومن قبل الجماعات المتطرفة والإرهابية المتلفعة بالإسلام لدينا.. إنّهما وجهان لعملةٍ واحدةٍ في نهاية المطاف.فالدوائر اليمينية المتطرفة الحاكمة في الغرب ومنظروها تحاول جاهدة تحويل الإسلام وأهله إلى “فزاعة” لتخويف الرأي العام، وإثارة الريبة والتوجس في أوساطهم، تحت مزاعم أنّ الإسلام يشكل خطراً على الغرب، مجتمعاً، وقيماً ديمقراطية وليبرالية!وهي محاولات محمومة، يائسة وبائسة لتلك الدوائر لاختلاق “عدو” موهوم، يكون وسيلة بأيديها لتأجيج مشاعر الغضب والكراهية لدى المجتمعات الغربية ضد الشعوب العربية والإسلامية، ووسيلة لصرف أنظارها عن القضايا الأساسية التي تهم تلك المجتمعات والمرتبطة بالسياسات الداخلية والحاجات والمصالح الحيوية على صعيد الاقتصاد والتعليم والصحة والبيئة وسواها.وبالمقابل يتعرض الإسلام – وذلك هو الأدهى والأمر – لمحاولات من التشويه، والتشهير بوعي أو من دون وعي مباشر أو بصورة غير مباشرة، من قبل الجماعات الإرهابية المتطرفة المنساقة بنزقٍ وراء أوهامها، وأهوائها وجهالتها ومصالحها الأنانية الضيقة “وإذا قيل لهم آمنوا كما آمنَ الناس قالوا أنؤمنُ كما آمنَ السفهاء ألا إنّهم هُمُ السفهاء ولكن لا يعلمون”.وخطورة الجماعات الإرهابية المتطرفة بسلوكها المنحرف والشاذ وبفهمها المعوج الذي تمرق به من الإسلام مروق ا لسهم من الرمّية، تمتد لتهدر طاقات وموارد المجتمع والدولة، وتضر ضرراً فادحاً بأمن البلاد واستقرارها وتنميتها ناهيك عن تحولها لتكون – ويا للمهزلة - أنموذجاً للإسلام لدى الدوائر اليمينية المتطرفة الحاكمة في الغرب والمنظرون لها والتي تجد في ممارسات ومواقف تلك الجماعات المتطرفة ضالتها المنشودة للتشهير بالإسلام وتشويه مثله وقيمه وحضارته، والزعم – زوراً وبهتاناً – بأنّه دين إرهاب وتطرف وانغلاق.. وانّه لا يقيم وزناً لأتباع الديانات الأخرى، ولا يحفل بحقوقهم، ولا يحترم عقائدهم وحرماتهم المقدسة الخ.إنّ تلك المبررات المزعومة إنّما هي جزء لا يتجزأ من منظومة حجج تلك الدوائر التي يستندون إليها في حربهم “المقدسة” ضد ما يسمى “بالإرهاب” ذلك المصطلح الذي غدا بالنسبة إليهم كلمة حق يُراد بها باطل.. والشاهد أنّ الحرب التي تُشن الآن في أكثر من بلدٍ عربي وإسلامي إنما تشن على الإسلام وأهله.. وليس ضد الإرهاب الحقيقي : الفكري والاقتصادي والسياسي والعسكري والعلمي والاستخباراتي الذي يُلقي بظلاله القاتمة على العالم كله والتي تُعدُّ تلك الدوائر مصدراًمن مصادره الخطرة والأساسية والذي يتجلى من خلال المحاولات المهووسة لفرض سياسات القوة في العَلاقات الدولية، وسيادة الهيمنة الأمريكية على مقدرات الشعوب، وشن حروب الغزو والهمجية والوحشية تحت مبررات شتى، والتي أدت وتؤدي إلى إراقة الدماء وإلى الدمار والإبادة وانتهاك حقوق الإنسان، وسيادة الشعوب وحرياتها وحرماتها المقدسة، وإلى إشعال نيران الفتن المهلكة، وتأجيج العصبيات والتوترات وخلق الأجواء الملائمة لازدهار الأفكار والجماعات الإرهابية المتطرفة.كما أنّ تلك الحجج الواهية توظف ليل نهار من قبل الدوائر اليمينية المتطرفة الحاكمة في الغرب وبصورةٍ مضللة وخادعة للحديث حول حماية الأقليات الدينية التي تتعرض بزعمهم في ديار العرب والمسلمين للاضطهاد والحرمان من حقوق المواطنة المتساوية، ومن حقها في حرية الاعتقاد الخ.. وذلك لتبرير تدخلها السافر والفض في الشؤون الداخلية للدول وبخاصة في العالم العربي.ذلك الخداع والتضليل وقلب الحقائق الذي يمارس دون حياءٍ، بل وبتعالٍ وغطرسة باسم “الحرب على الإرهاب” تارةً وباسم حماية الأقليات تارة أخرى.. يمكن أن يلقى التصديق، والقبول لدى قطاعات من الرأي العام، وبخاصة فيما إذا لم تلقَ الجماعات الإرهابية المتطرفة، والمتطفلة على الإسلام وأهله الشجب والاستنكار والإدانة الصريحة، وإذا لم تواجه بمواقف عملية حازمة وشجاعة تضع حداً لعنفها وإرهابها، وتطرفها ووصايتها.. باعتبار ذلك هو واجبنا بالدرجة الأولى اتجاه كل من يسعى أو يحاول تشويهنا والتشهير بنا، وبديننا الإسلامي، وبقيمنا وإرثنا الأخلاقي والحضاري والإنساني.. لأنّ أي تقاعسٍ منّا في هذا المجال معناه الرضا عن تلكم الجماعات وفكرها وتزكيتها لنفسها.. ومن وضع نفسه موضع الشبهات فلا يلومنَّ إلا نفسه.لعلنا في هذا المقام نتذكر قولاً بليغاً ومعبراً للإمام علي كرّم الله وجهه، وهو يواجه مثل هذه الجماعات ومثل هذه الظواهر، حين قال : “الراضي بفعل قومٍ كالداخل فيه معهم، وعلى كل داخل في باطلٍ إثمان؛ إثمُ العمل به.. وإثمُ الرضا عنه”!نحن بالطبع لا نطلب أو قل لا ننتظر من الدوائر اليمينية المتطرفة الحاكمة في الغرب والذين يُنظِّرون لها، شهادة حُسن سيرة وسلوك، لنا أو لديننا الإسلامي.. ولا نطلب كذلك منها أن تنصفنا.. والشعوب الحية في الغرب ونخبها الحية والشريفة تعرف جيداً كيف تفرق بين الحق والباطل.. وتعرف كيف تفرق بين الدين الإسلامي الحق والحضارة العربية الإسلامية العريقة وبين الجماعات الإرهابية المتطرفة التي قد تظهر في هذا المجتمع أو ذاك، وفي هذه المرحلة أو تلك بفعل عوامل وأسباب مختلفة.وتلك الشعوب والنخب قد عانت ربما أكثر منّا من الجماعات المتطرفة التي استطاعت في غفلةٍ من الزمن، وفي غفلةٍ من شعوبها – على سبيل المثال – أن تصل مواقع السلطة والقرار لتشعل نيران حروب داخلية وعالمية مبيدة ومدمرة.والإسلام في كل الأحوال اثبت وسوف يثبت من خلال الحياة وحقائقها الدامغة أنّه دين يدعو الشعوب أن يعرف بعضها بعضاً وليس إلى أن يواجه بعضها البعض باعتبار أنّ المعرفة المتبادلة هي أساس العيش المشترك للإنسان وللشعوب بشكل عام على هذه الأرض.. وهو دين يدعو إلى إقامة مجتمعات حرة لا تعنو فيها الوجوه؛ إلا للخالق وحده مجتمعات تقوم على العدالة والمساواة والأخوة والتسامح والكرامة الإنسانية التي يتساوى فيها كل إنسان بصرف النظر عن أصله وجنسه ودينه ولونه .. وهو الدين الذي جعل الإيمان بالأديان السماوية التي سبقته وبالرسل جميعاً دون استثناء ركناً أساسياً من أركان الإيمان لا يقوم إيمان المسلم؛ إلا به، وهو الدين الذي يرفض بشكل قاطع إكراه أي إنسان على الإيمان به، وعلى ترك معتقده “لا إكراه في الدين قد تبيّنَ الرشدُ من الغي”.وعموماً.. يمكن القول إنّه لا يمكن أن نقبل مطلقاً الوصاية على الدين، والوكالة باسمه، فالإسلام بما هو دين لا يقبل الوساطة في العَلاقة بين الإنسان وبين خالقه، لا يمنح أحداً، فرداً أو جماعةً أو مؤسسة الحق في الوصاية أو الوكالة على الدين وعلى الناس، وعلى الأوطان والشعوب.. ولا يعطي أحداً الحق في فرض قناعاته وفهمه واجتهاده عنوةً على الآخرين.فكيف يكون الحال عندما يتطور الأمر إلى ممارسة ذلك كله بالإرهاب والعنف، والإفساد في الأرض بغير الحق، وباسم الدين.. إنّها المأساة والمهزلة في آن.. “وما جعلناك عليهم حفيظاً وما أنت عليهم بوكيل”.[c1]ياسو سنتهم وقبح غلوهم *** إنّ العقائد بالغلو تضارُ الحق ارفعمله وقضية *** من أن يكون رسوله الأضرارُ [/c]ومن هنا كان واجباً علينا أن نواجه جميعاً وبكل الوسائل إدعاء الوصاية والوكالة البائسة على الإسلام وأهله .. وعلى الدولة والمجتمع.. وأن نقطع دابر الجماعات الإرهابية المتطرفة المتسترة بالدين .. “حتى لا تكون فتنةٌ ويكونٌ الدينُ لله”.“واتقوا فتنةً لا تُصيبنّ الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أنّ الله شديد العقاب”.
|
آراء حرة
لنقطع دابر الفتنة
أخبار متعلقة