توطين الإسلام السياسي
في أوج المد القومي العربي في الربع الثالث من القرن الماضي، كانت فكرة الوحدة العربية فكرة تحظى بقبول شعبي عارم، وتشكل حالة ضاغطة على الأنظمة العربية لتتجاوب مع الفكرة بتجاوز المنطق القطري إلى رحابة العمل القومي الوحدوي.الإحساس بوحدة الانتماء والمصير والإدراك بالمخاطر المحدقة بالأمة العربية كانت عوامل تجعل من مطلب الوحدة العربية ضرورة قومية بل حياتية ،ومع ذلك وبالرغم من أن الجماهير الشعبية والنخب والأنظمة كانت تتحدث عن الوحدة وضرورة تحقيقها ،إلا أن الإيمان بالوحدة والسعي الصادق لتحقيقها لم يكونا عاملا مشتركا بين الجميع .وكما يقول المثل (ليس كل ما يلمع ذهباً) فلم يكن كل من يتحدث عن القومية والوحدة العربية قوميا ووحدويا،صحيح، إن الجماهير كانت تؤمن بالوحدة وراغبة فيها لاعتبارات متعددة ولكنها كانت تفتقر لآليات تحقيقها بوسائل شعبية ،وكانت تتطلع للنخبة لتجسد لها تطلعاتها واقعا ،ومن هنا نلاحظ كيف كانت الجماهير تلتف حول كل زعيم أو حزب يرفع رايات الوحدة العربية،تمنحه ثقتها وتتبنى مواقفه وسياساته حتى وإن كانت متعارضة مع سياسات حكامهم ،هذا ما كان مع جمال عبد الناصر و صدام حسين في بعض مراحل حكمه، ومع حركة القوميين العرب وحزب البعث قبل أن تصادر السلطة الفكرة.المشكلة لم تكن في الجماهير ولكن في النخبة التي رفعت رايات الوحدة العربية ونصَّبت نفسها ناطقة باسم الأمة العربية ،بعض النخب القومية كانت منتمية حزبيا وفكريا للفكر القومي الوحدوي ولكن لم يكن لديها استعداد للتضحية في سبيل تحققها،حيث كانت خلفيتها وأصولها الطبقية أو مواقعها الرسمية في الحكم تشدها نحو مصالحها الضيقة على حساب مصلحة الأمة،وكان حالها كحالة الشخص المصاب بالشيزوفرينيا أو ازدواجية شخصية ،ومن هنا كانت خطورتها على المشروع القومي الوحدوي أكبر من خطورة الشعوبيين وأعداء الوحدة العربية . وشريحة أخرى من(القوميين) سايروا الحس الشعبي الجارف برفع الشعارات القومية والوحدوية ولكنهم في العمق كان يعملون كل ما من شانه إفشال كل مسعى وحدوي، بل وضرب القوى الوحدوية والتضييق عليها بطرق غير مباشرة .بين ليلة وضحاها، كان يُعلن عن تشكيل دولة الوحدة ،يجتمع زعيمان أو ثلاثة وفجأة يعلنون عن قيام دولة الوحدة ،وحدة بين جمهوريات ووحدة أنظمة ملكية ووحدة جمهوريات وعروش ،تقوم دولة الوحدة لسنة أو سنتين ثم تفشل أو توأد يوم قيامها،حتى التكتلات ،كاتحاد المغرب العربي واتحاد المشرق العربي ،كلها فشلت أو بقيت في غرف الإنعاش منذ يوم مولدها.لا شك أن الدول الطامعة في خيرات المنطقة وموقعها الاستراتيجي - الغرب الاستعماري وإسرائيل ودول إقليمية - كانت من أهم معوقات الوحدة العربية ،إلا أن غياب الإيمان بالوحدة وغياب وحدة الموقف على الأسس الأيدلوجية والسياسية والاقتصادية التي ستقوم عليها دولة الوحدة كان السبب الأهم في تعثر التجارب الوحدوية ،غالبية التجارب الوحدوية كانت تقوم فقط لمجاراة الجماهير دون إيمان من الأنظمة أو الإعداد الحقيقي للوحدة ،كانت الأنظمة تعلن عن قيام دول الوحدة وهي تعرف بأنها ستفشل ولكنها كانت تريد أن تقول للجماهير لقد سعينا من اجل الوحدة ولكن الطرف الآخر هو السبب في فشلها ، كان كل نظام يُحَمل شريكه في التجربة مسؤولية الفشل متهما إياه بالتبعية للخارج أو خضوعه لمحاور خارجية أو تغليبه مصلحة النظام أو الحزب الحاكم على المصلحة القومية ،وكانت النتيجة أن يئست الجماهير من فكرة الوحدة وابتذلت كلمة الوحدة العربية حتى لم يعد أحد اليوم يتحدث عن الوحدة العربية. لم يكن الخلل بطبيعة الحال في الوحدة فكرة وهدفا، فهي فكرة نبيلة ،ولكن الخلل كان في أدواتها من أحزاب وأنظمة ،لأن الوحدة القومية تعني البحث عن/ والاتفاق على القواسم المشتركة التي تحقق المصلحة القومية للأمة ،والقواسم المشتركة تعني تنازلات متبادلة من الأنظمة ،أي تغليب المصلحة القومية على حساب مصلحة النخب الحاكمة.كان الفشل أمرا حتميا لعدم الاتفاق على الثوابت والمواقف قبل تحقيق الوحدة ،والنتيجة، لا الوحدة العربية تحققت ولا المصلحة القطرية والتي نعتوها بالمصلحة الوطنية تحققت ،النخب الحاكمة بما فيها النخب القومية ،كانت المستفيد الوحيد ،واليوم تدفع الأمة العربية ثمن فشل التجارب الوحدوية وتراجع الفكر القومي ،والثمن الأبهظ هو أن الوحدة الوطنية أصبحت مهددة،بمعنى أن المسار الوحدوي أصبح يسير بشكل معكوس،فمن وحدة المجزأ إلى تجزئة المجزأ .لقد ضخم البعض من حالة التعارض بين المصلحة القطرية (الوطنية) والمصلحة القومية العربية ، وإن كان أعداء الوحدة العربية هم أكثر المروجين لوجود هذا التناقض والمغذين له فكريا وماديا من خلال خلق نخبة رأسمالية محلية مرتبطة مباشرة بالمركز الرأسمالي بدلا من ارتباطها بسوق عربية ومجالات استثمارية داخل الوطن العربي،ومن خلال خلق نخبة فكرية ثقافية تدافع عن ثقافات فرعية ومضادة في مواجهة الثقافة القومية العربية ... ،إلا أن أنظمة وحركات كانت ترفع رايات الفكر القومي الوحدوي ،ساهمت - عن قصد أو دون قصد-في تعزيز التوجه القُطري الانفصالي وبالتالي خلق حالة موهومة من التعارض بين التوجه القومي الوحدوي والعمل القُطري (الوطني).نعم ، لقد ساهمت أنظمة ترفع رايات القومية ومن يسندها من حركات سياسية ،في ترسيخ المنطق القطري الإقليمي_ ولا نقول الوطني - على حساب التوجه القومي،فأنظمة دكتاتورية استبدادية تقمع الجماهير وتحد من الحريات لا يمكنها إلا أن تؤسس لنظام طائفي أو فئوي يتعارض مع تطلعات الغالبية الشعبية ،حتى وإن رفعت هذه الأنظمة شعارات قومية ووحدوية وثورية.قد يحظى النظام بشعبية واسعة في سنواته الأولى،حيث تكون الجماهير منتشية بالثورة وشعاراتها ومتشوقة للعمل القومي والوطني الجاد الذي نادى به النظام الجديد ،ولكن مع مرور الوقت و كنتيجة حتمية لميكانزمات عمل الأنظمة الاستبدادية والعسكرية يخلق النظام زبانيته من منتفعين ومتسلقين، ويشكل هؤلاء مراكز نفوذ بل وأصحاب قرار، يحجبوا الحاكم عن الشعب، ويُقرب النظام فئات على حساب أخرى ،تتوسع الهوة ما بين النظام (الثوري القومي الوحدوي) والجماهير ، ،تتبلور شبكة مصالح متعارضة مع مصلحة القطاعات العريضة من الجماهير ومع ما كانت تتوق إليه، تبدأ الاحتجاجات والشكوك المتبادلة ،تصادر الحريات وتتزايد السجون والمعتقلات ،تروج مقولات المؤامرة الخ ، فتخشى النخبة الحاكمة على مصالحها وتبحث عن مؤيدين وأنصار من خارج من منحوها الولاء بداية على أسس إيديولوجية،فيكون هؤلاء الأنصار الجدد من طائفة الحاكم أو الأقلية الإثنية التي ينتمي إليها .ليخفي النظام (في هذه المرحلة لا يعد النظام هم القادة القوميون والثوريون الأوائل بل نخبة مصالح توظف مبادئ الثورة وشعبية الزعيم) المُنزلق الذي آل إليه،فأنه يضفي على شبكة علاقاته الضيقة اسم المصلحة الوطنية ،وفي هذه الحالة يصبح مفهوم المصلحة الوطنية لا يعبر عن مصلحة الوطن ولا يعكس المصالح الحقيقية للمواطنين بل مصلحة الحاكم والنخبة،ويتم خلق مماهاة مزيفة بين مصلحة النظام والنخبة من جانب والمصلحة الوطنية من جانب ثان،وفي هذه المرحلة أيضا تتبلور بإيحاء من الحاكم و حزبه ومثقفيه منظومة الثوابت والمرجعيات (الوطنية) .مع تباعد الوحدة العربية فكرا وممارسة، تتحول القطرية من حالة مؤقتة إلى حالة دائمة تأخذ إسم الوطن والوطنية،وهي حالة وفكرة تجذب إليها بقايا الأنظمة والحركات القومية ،فتدعمها سرا وتقوم بتكييفها حسب مصالحها ، وتلعنها علنا .وحتى يحافظ النظام (القومي) على مصالحه المهددة من جيرانه ومنافسيه ومن معارضيه السياسيين ،وحيث انه لا يستطيع التراجع عن شعاراته القومية والوحدوية ،فأنه يروج بان شروط الوحدة الحقيقية غير ناضجة أو أن الآخرين لا يريدون الوحدة الخ .و عندما تكشف الجماهير الحقيقة فأن النظام يتجه نحو مزيد من الاستبداد والانفصال ليس فقط عن الجماهير العربية التي وعدها بالوحدة بل أيضا عن الجماهير في إطار القطر الذي يحكمه.وهكذا وخلال أربعة عقود انشغل العقل السياسي العربي بالعلاقة بين الوطنية والقومية ،وهل من تناقض بينهما ؟ولماذا فشلت التجارب الوحدوية وتراجع الفكر القومي ؟ومن يملأ فراغ تراجع الفكر القومي الوحدوي وخصوصا مع فشل الدولة القطرية (الوطنية) في الحلول محل دولة الوحدة المنشودة في تحقيق التنمية والتحرير والحياة الكريمة؟.لا غرو بأن القوى المعادية لوحدة الأمة العربية ما زالت قائمة،ونقصد هنا تحديدا الولايات المتحدة وإسرائيل وأنظمة حكم ونخب سياسية عربية تخشى على وجودها ومصالحها إن تحققت الوحدة- بل ازدادت قوة وعدوانية لتوسع وتعمق مصالحها بالمنطقة.إلا أن المشكلة لا تكمن بالمعيقات الخارجية فقط بل بالمعيقات الداخلية أيضا حتى داخل الحركة القومية العربية ذاتها كما أسلفنا ،فهذه الأخيرة كانت منقسمة على ذاتها فمنها من كان في السلطة كالناصرية في مصر وحزب البعث العربي الاشتراكي - في سوريا والعراق- والقوميين في اليمن في بعض المراحل وظاهرة القذافي في ليبيا ،وقوى قومية أخرى كانت خارج السلطة كحركة القوميين العرب ،وكانت فكرة الوحدة وآليات تحققها تختلف ما بين قوميي السلطة والقوميين خارجها ، بل داخل كل منها كانت خلافات ،فلم يكن الحكم الناصري على توافق دائم مع البعث ،وبعث العراق كان معاديا لبعث سوريا ،بل كان العداء بينهما أشد مما هو بين كل منهما والقوى غير القومية ،وبصورة عامة لم تكن الأدوات التنفيذية لفكرة الوحدة القومية لا موحدة ولا منسجمة ،وبعضها لم يكن صادقا في رفعه لشعارات الوحدة ،حيث ارتد بعضها عن الفكرة في أول مواجهة له مع الواقع .وحيث إن الأوضاع العربية ازدادت تدهورا بحيث باتت أكثر سوءا عما كانت عليه عندما كان الفكر القومي يدغدغ مشاعر الجماهير ،فلا قطر عربي يخلو من مشاكل اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية ،واخطر هذه المشاكل هو تفشي النعرات الطائفية والعرقية التي تهدد وحدة النسيج الاجتماعي والثقافي لكل قطر ،وعودة الاستعمار مجددا للمنطقة سواء أكان استعمارا مباشرا أو غير مباشر وهذا الأخير اخطر من الأول...،لكل ومع ذلك ، تجددت التطلعات الشعبية للملمة شمل الأمة ومواجهة ما تعتبره تهديدا لوجودها وكينونتها،وعادت بعض مفردات الخطاب الوحدوي، ولكن هذه المرة على أساس ديني وليس قومي .إذن مع تراجع الحركة القومية العربية ومع أزمة اليسار المتفاقمة ومع استمرار ألتوق لوحدة الأمة والخروج من الواقع القطري المأزوم ،راهنت الجماهير على خيارين ، أحدهما الخيار الديمقراطي ،والثاني الخيار الإسلامي تحت شعار (الإسلام هو الحل).بالرغم من أن الديمقراطية يمكنها استيعاب كل التيارات والقوى السياسية من وطنية وقومية وعلمانية وإسلامية،إلا أن بعض تيارات الإسلام السياسي تعاملت بحذر من النهج الديمقراطي وخصوصا بعد أن دخلت الولايات المتحدة الأمريكية على الخط وسحبت البساط من تحت أقدام الديمقراطيين الوطنيين الحقيقيين،وعملت على خطف النضالات الديمقراطية الحقيقية لتضعها تحت عباءاتها ،والقوى الإسلامية التي تعاملت مع الديمقراطية الرسمية أي الديمقراطية الموجهة من النظام لم تتخل عن ثوابتها ومرجعيتها الدينية مما جعل مشاركتها في العملية الانتخابية والديمقراطية لا تؤسس على قناعات راسخة بقدر ما هي غائية تهدف لتوظيف مساحة الحريات التي أُجبرت الأنظمة على منحها للجمهور لتشرعن وجودها وتبعد عن نفسها تهمة الإرهاب .ومن هنا نلاحظ أن ما يسمى بالثوابت والمرجعيات الوطنية هي محل خلاف، فالمرجعية الفكرية اليوم لغالبية تيارات الإسلام السياسي هي الفكر الديني (قرآن وسنة واجتهادات السلف الصالح) و الأمة هي الأمة الإسلامية والهوية هي الهوية الإسلامية والدولة هي دولة الخلافة الراشدة ،وأصبحت الثنائية التي تشغل الحقل السياسي العربي والإسلامي اليوم هي الإسلامي والوطني،مع تسطيح وتعويم كبير لمفهومي الإسلامي ( الحركات الإسلامية) والوطني ،بل يمكن القول بأن ما يبدو على السطح من استقطاب بين المنتمين لكلا التيارين لا يستطيع ان يخفي الخلافات داخل كل تيار وهي خلافات قد تكون أوسع مما هي بين التيارين وبعضهما البعض.وجدت قطاعات لا ياستهان بها من الجماهير العربية في الإسلام الإطار الذي يمكن أن يمثل الجدار الأخير في مواجهة (الأعداء) والمرجعية المُوحدة لما هو مشترك بين الجماهير العربية والإسلامية ،إلا أن نفس المشكلة التي واجهت الحركة الوحدوية القومية تواجه اليوم فكرة الوحدة الإسلامية ، فوحدة المرجعية الدينية ـ حتى هذه عليها خلاف ـ لا تعني وحدة المرجعية السياسية للمسلمين أو حتى وجود مرجعية سياسية متفق عليها،حيث إن الإسلام السياسي منقسم على نفسه في البرامج وآليات العمل وفي موقفه من العمل الوطني، فمن إبن لادن وتنظيم القاعدة الذي لا يؤمن بالعمل الوطني أو بالنضال السياسي القطري ،إلى جماعة الإخوان المسلمين التي بلورت أخيرا نوعا من المصالحة ما بين العمل الإسلامي الأممي والعمل الوطني ،وما بينهما حركات إسلامية متعددة الاتجاهات والتصورات.والسؤال الذي يفرض نفسه: هل يمكن تحقيق وحدة الأمة بالإطار الإسلامي حيث فشل تحقيقها بالإطار القومي العربي ؟وهل يمكن تجاوز الخلافات بل التناقضات بين متطلبات واستحقاقات وآليات العمل الوطني من جهة واستحقاقات وآليات العمل السياسي التي تنتهجه الجماعات الإسلامية؟. للإجابة عن هذين التساؤلين لا بأس من استحضار مقومات وموجبات أو مبررات الوحدة في الحالتين ومعيقات تحققهما .لا شك أن مبررات وموجبات الوحدة ما تزال قائمة بل هي اليوم أكثر إلحاحا في ظل العولمة التي لا تعير اهتماما للكيانات الصغيرة،فهناك الإحساس بالانتماء المشترك والمصير المشترك ،وهناك وحدة الثقافة ( موروث ومتخيل ومعاش)،وفشل الدولة القطرية في تحقيق التنمية والحياة الكريمة لمواطنيها هي أيضا دافعا للوحدة، وهناك التهديد الإسرائيلي الذي ما زال قائما،بالإضافة إلى مقولات صدام الحضارات والحرب الصليبية التي بدأت تتصاعد في الولايات المتحدة والغرب عموما.الوحدة اليوم أصبحت مطلبا وضرورة حياتية سواء لاعتبارات أيديولوجية أو اقتصادية،وإن كانت الدوافع القومية الأيديولوجية قد تراجعت فالدوافع الثقافية الأوسع والدوافع الاقتصادية تستحق السعي لتحقيق الوحدة.ولكن القوى و العوامل المُعيقة لتحقيق الوحدة العربية لم تكن ضد الوحدة لأننا أردناها وحدة قومية وبالتالي ستزول هذه العوائق إن أردناها وحدة إسلامية.ولكن أيضا فأن فرص نجاح الوحدة الإسلامية ليست أكثر حضورا مما كانت عليه مع الوحدة القومية العربية،بل التحديات هي أكبر والانتماءات التي عليها تجاوزها أشد رسوخا من أن يزيلها شعار (الإسلام هو الحل) .عديد من القوميين والإسلاميين تناولوا باستفاضة العلاقة بين القومية والإسلام ،وغالبية هؤلاء اتفقوا على عدم وجود تناقض حتمي بين الطرفين،ونعتقد بأن حالات التصادم التي وقعت بين الطرفين كانت تندرج في إطار الصراع على السلطة أكثر مما كانت صراعا بين أيديولوجيات ،فكل من الإيديولوجيتين تنتمي لمنظومة مختلفة ،الإسلام يمكنه أن يوحد الشعوب عقائديا ولكن من الصعب عليه توحيدهم جغرافيا وسياسيا ،ونعتقد بأن شعار الوحدة الإسلامية الذي ترفعه بعض الجماعات الإسلامية هو اقرب لمفهوم الأممية الذي رفعته الأحزاب الشيوعية والاشتراكية ،ليس من حيث المحتوى الإيديولوجي بل من حيث الوظيفة الأيديولوجية وهي توحيد وتقارب الشعوب إيديولوجيا،أما توحيدها سياسيا وجغرافيا فالأمر يحتاج للدخول في مواجهة مباشرة ليس فقط ضد الأنظمة والنخب الحاكمة بل ضد النظام الدولي القائم من قوانين وعلاقات ومنظمات.أما الفكر القومي وحركاته السياسية فيمكنها بل مطلوب منها توحيد أبناء الأمة، سياسيا وجغرافيا في إطار دولة قومية، وهذا هو مبرر وجود الفكر القومي.وقد أنجز الفكر القومي هذه المهمة في أكثر من مكان في العالم إلا العالم العربي لأسباب سبق سردها .المشكلة المطروحة اليوم ليست علاقة القومي بالإسلامي ،فالقومي - حركات ونظم - اضعف من أن يواجه المد الأصولي،وهذا لا يعني نهاية الفكر القومي الوحدوي أو التخلي عن حلم الوحدة العربية ،بل إقرار واقع أن الأنظمة القومية وصلت إلى طريق مسدود والحركة القومية بشكل عام أصابتها حالة من الترهل أو الإحباط ، وكثير من منتسبيها انخرطوا إما بالعمل الوطني الديمقراطي أو تحالفوا مع الإسلام المعتدل .المشكلة اليوم هي علاقة التيار الإسلامي بالقوى الوطنية من علمانية وديمقراطية والتي تشتغل على ثوابت ومرجعيات لا تتفق عليها القوى الإسلامية .لقد تجلى هذا التعارض بل التصادم الدموي أحيانا في الجزائر ،مصر ،تونس ،الأردن ،المغرب، وفي فلسطين ولبنان أخيرا .العمل الوطني يعني وجود تحديات ومهام وثوابت وطنية تحتاج لمعالجات وطنية،بمعنى أن القرار بهذه الأمور يجب أن يكون قرارا وطنيا لا يخضع لأي مرجعية خارجية حتى وإن كانت دينية ،فلا يمكن أن تكون وطنيا وقرارك خارج الوطن،وهذا يتطلب ( توطين) الجماعات الإسلامية سياسيا لا دينيا ،بمعنى أن تصبح الجماعات الإسلامية في كل بلد جزءا من المشروع الوطني لا أن يُلحق المشروع الوطني بأجندة الجماعات الإسلامية وخصوصا الأممية منها كجماعة الإخوان المسلمين وتنظيم القاعدة.وأخيرا فإننا لا نعتقد بوجود تناقض حقيقي ما بين العمل من أجل الوطن - الدولة القُطرية - والعمل من أجل القومية والوحدة العربية والعمل من أجل وحدة وترابط الأمة الإسلامية عقائديا ،والمشكلة هي ترتيب الأولويات وتنسيق المهام حسب خصوصية كل بلد وحسب تحديات كل مرحلة ،فمثلا لا يمكن الحديث عن الوحدة العربية فيما أقطار عربية تعيش صراعات وحروب طائفية وعرقية تهدد وحدة نسيجها الاجتماعي والوطني ،كما لا يمكن الانتقال إلى وحدة الأمة الإسلامية حول مرجعيات سياسية واجتماعية واقتصادية ،فيما لم نتمكن من تحقيق ذلك بين الدول العربية التي تجمعها، بالإضافة إلى المرجعية الدينية، وحدة اللغة والعادات والتقاليد والتاريخ المشترك . لقد حدث التصادم ويمكن ان يحدث ولكن ليس بين انتماءات حقيقية بين هذه الدوائر بل بين نخب توظف هذه الانتماءات من اجل الوصول للسلطة ،وفي هذه الحالة تصبح السلطة هي سبب الصدام وليس الانتماءات بحد ذاتها . [c1]* استاذ العلوم السياسيةبجامعة الأزهر - غزة[/c]