لليمن .. لا لعلي عبدالله صالح(48)
انطوى الخطاب السياسي الوحدوي للدولتين الشطريتين على قدر كبير من التبسيط والدوغمائية على نحو ما تجسد في بعض الأطروحات السياسية والنظرية بصدد الوحدة اليمنية وسبل تحقيقها خلال السبعينات والثمانينات.. وقد استند جزء كبير من تلك الأطروحات إلى قاعدة من التصورات النظرية التي تم نقلها من مراجع خارجية وإسقاطها بصورة تعسفية على الواقع اليمني . ولا نبالغ حين نقول إن المجتمع اليمني شهد منذ ظهور الدولتين الشطريتين نوعاً من الاستقطابات الآيديولوجية المحمومة ، ما أدى إلى كبح تطور العملية الثورية المعاصرة التي مرت بمخاض عسير وغير طبيعي، نتجت عنه تشوهات واختلالات في الوعي السياسي لأقسام واسعة من الناس بسبب الاستقطابات الآيديولوجية التي اشتركت - برغم تنافرها - في موضوعة واحدة ترى أن الوحدة اليمنية لا يمكن تحقيقها بين نظامين متمايزين بدون إسقاط أحدهما وتعميم النموذج الآخر !!ألحقت تلك الاستقطابات اضراراً كبيرة بمسار العملية الثورية المعاصرة في اليمن ، حيث انتعشت النزعات المعادية للديمقراطية والحداثة تحت تأثير البنى التقليدية الداخلية والتدخلات الخارجية والاقليمية . فيما شكلت الدعوة الى الأصولية السلفية بيئة مثالية لمعاداة الديمقراطية والحداثة ، ومصادرة الدور النقدي للعقل ، ومحاصرة منابع التنوع الفكري في المجتمع تحت شعار محاربة الأفكار المستوردة . وفي الاتجاه نفسه تم تمزيق أوصال الفكر الاجتماعي الجديد ، وسد المنابع التي تساعد على إثرائه وتنويعه تحت شعار محاربة الأفكار البرجوازية والرجعية ، وصولاً إلى تنميط الوعي الإيديولوجي و تعليب الممارسة السياسية في قوالب جاهزة، ما أدى الى فرض الوصاية على العقل ومصادرة الحرية والادعاء بامتلاك الحقيقة واحتكار ميراث الحركة الوطنية اليمنية المعاصرة، وإلغاء التعدد والتنوع في الحياة السياسية والفكرية . هكذا برزت التصورات الرافضة للمغايرة كشرط للوحدة التي تراوحت مفاهيمها الآيديولوجية بين الدولة ذات التوجه الديني والدولة ذات التوجه الاشتراكي ، فيما كان الواقع الإجتماعي بخصائصه الوطنية والتاريخية غائباً وضائعاً بين هذه المفاهيم التي لم تجد مرجعها المعرفي فيه . نقول ذلك لأن إنغلاق هذه المفاهيم على ذاتها أدى إلى دخولها بشكل دائم وثابت في حالة صدام ليس في ما بينها كما يبدو من ظاهر الأحداث التي شهدتها الساحة اليمنية ، بل إلى دخولها بشكل مشترك في صدام موضوعي مع الواقع من جهة ، ومع الميول الموضوعية لتطور الحياة والعالم من جهة أخرى . ما من شك في أن مفاعيل البنية التقليدية أسهمت بقدر لا يستهان به من آليات الكبح المعيقة للتغيير ، بيد أن أقساماً لا يستهان بها من النخب الجديدة وقعت في مستنقع النزاعات الذاتية التي جعلت من السلطة هدفاً لها ، حيث سعت إلى البحث عن صيغ جاهزة للتنمية الشطرية المنغلقة وغير المتكاملة ، ثم عملت على تحصين تلك الصيغ بسياج كثيف من آليات الدولة التقليدية التي جرى بناؤها وتنميطها عن طريق الاستعانة بخبرات بعض الدول التي تعرضت للتشطير بفعل نتائج الحرب العالمية الثانية وأجواء الحرب الباردة التي تلتها . استغرقت الدولتان الشطريتان زمناً ليس هيِّناً في إعادة انتاج مكوناتهما الموروثة عن العهود السابقة لتطور العملية الثورية المعاصرة التي جاءت كنفي تاريخي ومعرفي لتلك العهود وثورة على مخلفاتها .. وبتأثير تراكم ذلك الاستغراق المنغلق على الذات الشطرية برزت هوة سحيقة بين الدولتين كأجهزة ومنظومات من جهة ، وبين المجتمع بوصفه كياناً بشرياً ينمو ويتجدد في سياق انبعاث وطني تاريخي من جهة أخرى ، الأمر الذي أدى إلى عجز كل من الدولتين الشطريتين عن تلبية وتجديد احتياجات المجتمع اليمني . ولئن كانت انجازات علم الاجتماع المعاصر ترى في أن قيام كيان معين لا بد من أن يخلق قوى تتلاءم معه ، ويخلق تبعاً لذلك تأقلماً إيديولوجياً محدوداً بفعل قوة العادة التي تجعل الجيل الناشئ في ظل المناخ الخاص للإيديولوجيا متسماً بروح الانتساب إلى ذلك الكيان الذي نشأ فيه ، ومنضبطاً في توجيه سلوكه اليومي للتعامل مع منظوماته وأجهزته ، فإن تناقض الكيانين الشطرين قبل الوحدة مع اتجاه تطور العملية الثورية المعاصرة للشعب اليمني فرض عليهما السير في اتجاهين : موضعي ومطلق .. الإيمان بضرورة الوحدة من جهة ، وتكريس التشطير بصيغ آيديولوجية من جهة أخرى .. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على مأزق وتخلـف الجهـاز المفـاهيمي للآيديولوجـيـا الـتي استمــد منها كل كيان ـ على حدة ـ شرعية تبرير وجوده ، وإفتعال العوائق لتأجيل الدمج الموضوعي للكيانين الشطريين في دولة وطنية واحدة . لا ريب في أن كلاً من الكيانين الشطريين السابقين برر لنفسه التمسك بعملية الاستغراق في تكريس وتجديد الدولة الشطرية إنطلاقاً من الوهم بموضوعة الكيان النموذج الذي سيفرض نفسه بصورة امتداد أو إلحاق عن طريق افضلياته ، ولذلك وصلت المحصلة النهائية لحالة الاستغراق في تنمية وتطبيع التشطير إلى مأزقها الموضوعي بحكم لا تاريخية ولا موضوعية تلك الحالة ، لأن الدولة الشطرية استنفدت قدرتها على معالجة أوزار ومخلفات الماضي وإرثه الثقيل ، وباتت عاجزة عن مواكبة الميول الجديدة لتطور العالم المعاصر . [c1]مأزق الدولة أم مأزق الفكر السياسي؟![/c]استند الخطاب السياسي الوحدوي للدولتين الشطريتين قبل الوحدة إلى ميراث فكري وطني وقومي كان ينظر إلى التشطير من موقف رافض ، ويقوم بتعريفه على أنه من صنع الإستعمار ومخلفات القرون الوسطى ، لكن هذا الخطاب قام بتكريس التشطير وإنتاج جهاز ضخم من المفاهيم الآيديولوجية التي تبرر بقاءه . وبصرف النظر عما كان يميز بنية ذلك الخطاب من رؤى متباينة لدولة الوحدة ، افترضت وجود وجهتي تطور متمايزتين، احداهما تنادي بالتوجه الإسلامي والأخرى بالتوجه الاشتراكي، فإن ذلك التباين لم يكـن يستند إلى الواقع ، ولم يتجاوز نطاق صراع الإرادات والأوهام الآيديولوجية القابلة للإختبار والتغير في مجتمع يخوض معركة حضارية ضد التخلف والتشطير والبنى التقليدية الموروثة . ثمة مصادر فكرية مشتركة لصراع تلك الإرادات والأوهام وهي أن الخطاب السياسي الوحدوي للدولتين الشطريتين كان ينتسب إلى الفكر القومي العربي الكلاسيكي الذي كان يربط تحقيق الوحدة العربية بعدد من الشروط ، وبضمنها وحدة أداة الثورة العربية ، وضرورة قيام قوة ثورية إقليمية تتكون من قطر عربي أو أكثر ، وتضطلع بدور مركز الاشعاع والجذب ، وتلعب دور ((القاعدة)) التي ينطلق منها التغيير الوحدوي الريادي ، وهو ما أوضحه المفكر القومي العربي نديم البيطار في كتابه الشهير (من التجزئة إلى الوحدة )، وفي هذا الكتاب يمكن مراجعة بعض النصوص التي تؤكد هذا المفهوم استناداً إلى مراجع أصلية من أدبيات ووثائق حزب البعث العربي الاشتراكي وحركة القوميين العرب . وقد تم تحوير المفاهيم المكتسبة من الخطاب القومي العربي الكلاسيكي بعد إكسابها صياغات آيديولوجية جديدة ، وبعد تنميطها في نطاق محلي قطري بل وشطري ، الأمر الذي أدى إلى حدوث تعديل في مضمون الخطاب السياسي الوحدوي بعد ظهور الدولتين الشطريتين في اليمن أواخر الستينات .. وكانت نتيجة ذلك التحوير وصول عملية الإستقطابات الآيديولوجية الصارمة إلى مأزقها، وتفاقم تناقضات الخطاب السياسي الوحدوي للدولتين الشطريتين، وتكريس التشطير على المستوى الوطني، وهو المأزق نفسه الذي وصل إليه الخطاب القومي الكلاسيكي. وهنا يتطلب الأمر نقد الوعي الآيديولوجي الذي ساد في حقبة التشطير ، وكرّس طائفة من المفاهيم التي خلطت بين عملية التوحيد الوطني كضرورة في سياق مشروع التغيير الذي دشنته الثورة اليمنية ( 26 سبتمبر - 14 أكتوبر)، وبين فرضيات الإنتقال بهذه العملية إلى الوجهة الإشتراكية أو الوجهة الرأسمالية او تحويلها إلى “ قاعدة “ لاستعادة دولة الخلافة الاسلامية وفق تصورات نظرية مبسطة لا تمتلك مرجعاً معرفياً لها في الواقع اليمني والسياق التاريخي العالمي.تميزت السنوات الأولى للوضع الناشئ والقائم على أساس دولتين شطريتين في اليمن أواخر الستينيات ، بحرص كل منهما على تجميع آليات الأمن الذاتي ، وما رافق ذلك من ميول لتكوين وعي سياسي تبريري يكرس التشطير من جهة ، ويرفع خطاباً وحدوياً ضده من جهة أخرى . ولم تخل تلك الفترة من الصدامات المباشرة وغير المباشرة على مستوى الشطرين ، بالإضافة إلى الصدامات الداخلية داخل كل شطر في مجرى الصراع الداخلي على السلطة.وعندما استقرت الأوضاع للدولتين الشطريتين، اتجه كل منهما لإنجاز مهمات التنمية الاقتصادية والإجتماعية محكوماً بدور وظيفي للدولة ذي تقاليد ضاربة الجذور في أعماق التاريخ، على النحو الذي أكسب الدولة الشطرية سمات رعوية شرقية. وبوسع التحليل الموضوعي لمسار التنمية في كل من الشطرين تسليط الضوء على تناقضات التنمية الشطرية وبالتالي اكتشاف حقيقة أن تناقضات الخطاب السياسي الوحدوي في حقبة التشطير يعود مرجعها إلى ذلك الكم من الأعمال النظرية المشوّهة التي تظاهرت بتصوير تلك التناقضات وكأنها انعكاس لاتجاهين متوازيين على صعيد مفاهيم التطور الاقتصادي والاجتماعي . وكان طبيعياً أن يترتب على كل ذلك بروز ظاهرة التخندق خلف متاريس تلك المفاهيم عند بحث إشكاليات ومصاعب تحقيق الوحدة اليمنية آنذاك ، وذلك من خلال تبرير التشطير آيديولوجياً، ويدخل في هذا الإتجاه اعتراض التيار الأخواني والتيار السلفي الوهابي في الشطر الشمالي من اليمن على اتفاق 30 نوفمبر 1989 م ، ومشروع دستور دولة الوحدة وكان هذا الاعتراض محكوماًً بتصور ايديولوجي يرى أن الوحدة بين دولة الاسلام ودولة الكفر غير جائزة ، بحسب ما جاء على لسان الشيخ عبدالمجيد الزنداني في اشرطته ومحاضراته التي عارض بها اتفاق 30 نوفمبر الوحدوي 1989م ، ومشروع دستور دولة الوحدة ، دون أن يكون الوعي الآيديولوجي السائد في الشطرين قد أستقر على مفاهيم معرفية ناضجة ، ناهيك عن كون المرجعية الخارجية لذلك الوعي - بصرف النظر عن تناقض مفاهيمه بين شطر وآخر - لم تكن قد وصلت الى إستنتاجات وتعميمات حاسمة ، على نحو ما حدث في النصف الثاني من الثمانينات حين بدأ الجهاز المفاهيمي لكل من علم الاجتماع وعلم الاقتصاد السياسي يتأزم ويتحلل بسبب تصادمه مع الميول الموضوعية لتطور التاريخ العالمي سواء على مستوى الفكر الاشتراكي أو الفكر الليبرالي المعاصرين.والثابت أن الدولتين الشطريتين اتجهتا نحو التنمية لتخفيف ضغط التجزئة على أمنهما الذاتي ، وقد ساعدتهما في ذلك حاجة موضوعية هي جزء من الوظائف الشطرية لتلك الدولتين في إطار مفاعيل مشروع التغيير الذي دشنته الثورة اليمنية ، بصرف النظر عن نوع الإرادة السياسية والتصورات الآيديولوجية التي حاول كل من الدولتين الشطريتن توجيه التنمية على ضوئها . كان البحث عن رؤى وأنماط متباينة للتنمية بهدف تبرير التشطير وتأسيسه على وجهتين متمايزتين لكل من الدولتين الشطريتين ، يبدو في بادئ الأمر وكأنه امر سهل ، بيد أنه كان ينطوي على تعسف لمبادئ علم الاقتصاد السياسي للتنمية في البلدان المتخلفة ، وقد تم ذلك التعسف بوضوح عن طريق الإستعانة بنظريات جاهزة ـ لم تكتمل بعد ـ عن التنمية والتطور الانتقالي . بالنسبة للشطر الشمالي انحصر التوجـه نحو التنـميـة في أوائـل السبعينات ـــ وبدوافع سياسية بحتة ـــ في أُطر آليات السوق وتسخير جزء من وظائف الدولة لإعادة إنتاج البنى التقليدية لما قبل الدولة ، الى جانب تنمية القطاع الخاص وتقديم مختلف أشكال الدعم والحماية له .. وفيما بعد تبلورت الحاجة إلى تنويع أشكال الملكية وأنماط الاقتصاد، وتوجيه التدخل الحكومي لضبط أسعار المواد الأولية ودعم أسعار المواد الغذائية وإطلاق ميكانزمات التعاون الأهلي . وكان كل ذلك يتم إنطلاقاً من فرضيات ترى بأن التنمية ممكنة إذا توافر لها قدر معين من الطاقة الاستثمارية والعمـالة والإدارة والمشاركة في شئون الحكم ، مع تجاهل تام لأهمية تقويم حجم السوق الداخلية ، ومعايير الفواعل الاقتصادية الخارجية في منطقة تشكو من تبعية طرفية مطلقة، بالإضافة إلى إغفال معايير توافر الموارد الطبيعية للاقتصاد الوطني والموارد الذاتية لتكوينه الرأسمالي .. وجميع هذه العوامل قادت التنمية في الدولة الشطرية بشمال الوطن إلى مأزق حاد ، ووصلت ذروتها بعد تراجع تحويلات المغتربين على اثر انخفاض اسعار النفط في منتصف الثمانينات . أما على صعيد الشطر الجنوبي فقد سارت التنمية انطلاقاً من منظور ساذج للصراع الطبقي ، جرى بموجبه استبعاد قوى سياسية واجتماعية انطلاقاً من الأوهام التي تؤكد ضرورة (التقليص التدريجي للعوامل المولدة للعلاقات الرأسمالية على طريق تصفيتها نهائياً ) حيث تضمن برنامج الحزب الاشتراكي اليمني لمرحـــلة الثورة الوطنية الديمقراطية ،هذا المفهوم في مؤتمره الأول عام 1978 ، كما أكدت ( ورقة العمل ) التي تقدم بها الرئيس الأسبق علي ناصر محمد الى المؤتمر العام الثالث للحزب الاشتراكي الذي انعقد في اكتوبر عام 1958م على ضرورة التمسك بهذا النهج ، وقد أقر ذلك المؤتمر ورقة العمل التي قدمها علي ناصر محمد باسمه في اكتوبر عام 1985 م .. ولا يحتاج المرء إلى جهد كي يكتشف إن مرجعية ذلك المنظور الساذج تعود إلى الأوهام الآيديولوجية التي كانت تزعم (( بحتمية انتقال المجتمعات المتخلفة إلى الاشتراكية مباشرة بواسطة الدعم الخارجي للبروليتاريا الظافرة ، ودون الحاجة للمرور بمرحلة الرأسمالية)).. مع الأخذ بعين الاعتبار ان لينين وليس ماركس هو الذي صاغ هذا المفهوم في ظروف تاريخية محددة ، وذات صلة بخصائص جمهورية منغوليا وجمهوريات آسيا الوسطى التي كانت خاضعة للسيطرة الاستعمارية الروسية قبل الثورة البلشفية 1917م ، حيث افترض لينين نظرياً وصول البروليتاريا الروسية إلى السلطة . وكان هذا المفهوم قد تعرض للتسطيح لاحقا ً على يد الستالينية التي أعادت صياغته ، وقدمت من خلال إعادة الصياغة تصوراً مبسطاً للانتقال إلى الاشتراكية ، على الصعيد العالمي بعد الحرب العالمية الثانية ، اتضحت هشاشته ولا معرفيته في أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية الدولية مطلع التسعينات . ويمكن القول إن المصدر الأبرز للمأزق الذي أصاب الدولة الشطرية في الجنوب أواخر الثمانينات ، يتمثل في تعريف التخلف بصورة غير واقعية انطلاقاً من ذلك المنظور .. وكان ذلك التعريف يقدم نفسه من خلال برنامج الحزب الاشتراكي كمشروع وطني للتغيير شمالاً وجنوباًَ ، متجاهلاً بعض السمات الجوهرية للتخلف في بلادنا . فالصناعة لم تكن موجودة تقريباً،فيما كانت بنيتها متشابهة في الشطرين بإستثناء صناعة تكرير النفط في الجنوب وصناعة الأسمنت في الشمال .. أما الطبقة العاملة في الشطرين فقد توزعت بين صناعات الملح وكبس القطن والورش ومحطات الكهرباء والمياه والطواحين ومدابغ الجلود والحرف اليدوية وخدمات النقل والبناء بالإضافة إلى صناعة إحلال الوارد ، فيما كانت معايير العلاقة بين العمل ورأس المال تعكس الحجم البسيط والمتخلف للعمليات التي تديرها هذه العلاقة . وكما هو معروف فقد رُفعت بعد استقلال الشطر الجنوبي شعارات غير واقعية طالبت بحسم العلاقة بين العمل ورأس المال من خلال التأميمات والمصادرات والانتفاضات الفلاحية، بالإضافة إلى إتخاذ سياسات استهدفت استبعاد أصحاب رؤوس الأموال وملاك الأراضي والفئات الاجتماعية الوسطى من النشاط الاقتصادي .. كما اتخذت أيضاً إجراءات استهدفت تصفية الشرائح التجارية التي نشطت في مجال الاستيراد . وقد اتضح فيما بعد أن تلك الإجراءات لم تمس سوى شكل النشاط الاستيرادي ، أما محتواه ( الكمبرادوري ) فقد بقي ثابتاً، بل إنه توسع على يد قطاع الدولة الذي احتكر لمؤسساته التجارية والتسويقية ذلك النشاط الذي أزدادت رقعته وعملياته ، بالتزامن الوثيق مع تدهور العديد من الفعاليات الاقتصادية المحلية ، نتيجة لتعطيل واستبعاد قوى اجتماعية واسعة كانت تسهم بقسط مهم في التداول السلعي من خلال مساهمتها في الإنتاج المحلي . وبالنسبة للأرياف فقد أدت المصادرات والاجراءات التي عطلت قوانين السوق ، ومنعت المزارعين من تملك الأراضي الزراعية ، إلى إعادة إنتاج البنى المتخلفة للزراعة التقليدية ذات الكلفة العالية في العمل والعائد المحدود للأجر ، مما زاد في إفقار واستغلال الفلاحين ، وأدى في نهاية المطاف إلى إفلاس الشعارات الاشتراكية ، التي كانت تنـسب التخلف والفقــر إلى “ الاستغلال الطبقي “ الذي يمارسه ملاك الأراضي ضد الفلاحين . ربما كان ما تقدم جزءًا بسيطاًَ من الخطوط والظلال المتداخلة في البقاع الرمادية لصورة التشطير .. وربما كانت تلك البقاع الرمادية تدل بوضوح على أن ثمة محركاً مشتركاً للاتجاهين اليميني واليساري في ايديولوجيا التشطير ، وهو الجهل بالواقع اليمني والعجر عن معرفة المحددات الداخلية والخارجية التي تحرك مفاعيله ، فيما كان كل من هذين الاتجاهين يتحرك - ايضاً - نحو هدف واحد هو المجهول .. بمعنى أن الاتجاه اليميني في ايديولوجيا التشطير كان يشترك مع الاتجاه اليساري في الجهل بالواقع ويهرب معه إلى المجهول !! في هذا السياق شهدت السبعينات استقطابات داخلية حادة وصلت ذروتها باندلاع حرب مباشرة عام 1972م ، و حدوث مواجهات مسلحة غير مباشرة عن طريق المعارضات المسلحة . وزاد من حدة تلك الاستقطابات الداخلية تقاطعها مع خط الاستقطابات الدولية والإقليمية خلال الحرب الباردة ، حيث تحول اليمن بشطريه إلى ممر للتطرف ومركز لاستقطاب الجماعات المتطرفة التي استخدمتها القوى الدولية في مرحلة الحرب الباردة لخوض مواجهات بالوكالة ، بدءًا بجماعات الجيش الأحمر الياباني وبادر أند ما ينهوف الألمانية، وجماعات أبي نضال ووديع حداد وكارلوس ، وغيرها من الجماعات المتطرفة التي كانت تنفذ مهمات مسلحة عابرة الحدود بالوكالة عن الاتحاد السوفيتي و تحت رعاية جهاز المخابرات السوفيتية K . G. B ، وانتهاء بجماعات التكفير والهجرة والجهاد الاسلامي والجماعة الاسلامية ، والجماعة السلفية للدعوة والقتال و جماعة أنصار السنة ، بالإضافة إلى قوافل الجهاد الافغاني الضخمة التي أدارتها المخابرات المركزية الأمريكية CIA بالتنسيق مع ما تسمى رابطة العالم الاسلامي، وموّلها صندوق دولي دوّار أنفق على تشغيل تلك الماكنة حوالي45 مليار دولار . (انظر كتاب “ Talban” للبروفيســـور الباكستاني أحمد رشيد ، وكذلك مقالة “ واشنطن تؤذن للجهاد في كابول “ لمحمد حسنين هيكل - مجلة “وجهات نظر” - فبراير 2002 م ). صحيح أن ذاكرتنا الجماعية لا تخلو من بقاع سوداء لفصول دامية، ومأساوية شوهت البيئة السياسية للعمل الوطني الثوري، وأثقلت سيرته بالآلام والأوجاع والأخطاء .. لكن ذلك كان يحدث فقط عندما ينفصل المجال السياسي للعمل الوطني عن العالم الواقعي وينقاد لسطوة الأيديولوجيا واوهامها ، فتكون النتيجة مزيداً من الفصل بين السياسة والأخلاق ، ومزيداً من الاغتراب عن الواقع ، ومزيداً من الابتعاد عن نظام القيم الأخلاقي، والسلطة المعرفية لثقافة الحرية ، وهو ما سنتناوله في الحلقة القادمة بإذن الله .[c1]*عن / صحيفة ( 26 سبتمبر )[/c]