القصة مادة فكرية
كتب: نبيل عودة نشرتُ في الأشهر الأخيرة ما يقارب الثمانين قصة قصيرة، عدا بعض القصص القصيرة جدا، التي نشرتها كنوع من إثبات عقم تحويل هذا اللون، إلى جنس أدبي، وأن القصة القصيرة هي قصة قصيرة بغض النظر عن المساحة التي تحتلها على الورق. ولاحظت أن معظم ما قرأته من قصص قصيرة، مجرد فذلكات بلا حس لغوي أو قصصي. وبالطبع هناك نصوص جميلة ولكنها قليلة جدا. الملاحظات النقدية التي تلقيتها، من مختلف المثقفين، فتحت أمامي آفاقا لرؤية جديدة لمضمون القصة القصيرة، وأجد نفسي مدفوعا لقول ما كنت خلال الأشهر الماضية أتجاهل خوضه مباشرة، ترددا، بسبب تفضيلي التمهل لفهم أفضل لما بدأ يتشكل في ذهني من مفاهيم وتجارب وسعت حدود إدراكي لهذا الجنس الأدبي (القصة القصيرة) التي ظننت في فترة ما أن جهدي في صياغتها يذهب سدى، وأن الساحة باتت ملكا لكتاب الرواية، فكتبت ثلاث روايات ومسرحية، ولكني على قناعة أن قراء أعمالي الروائية من القلة، وهذه ظاهرة في كل نتاجنا الثقافي، رغم بعض الضجيج الكاذب الذي نشهده في ندوات معينة، إلا أنها تكاد تخلو من النقد والقراءة الجادة لما ينشر. وليعذرني زملائي الأدباء على صراحتي الفظة، بأن ما نشر حول أعمال روائية أو أجناس أدبية أخرى، لا يمكن تصنيف إلا أقله كقراءة جادة، وأكاد لا ألمس النقد الثقافي في ما ينشر عن الندوات خاصة، ولكنه موضوع آخر.في هذه الأجواء المأزومة ثقافياً، تختلف المعايير. كانت عودتي لهذا الإنتاج الواسع للقصة القصيرة تعبيراً عن رؤية فلسفية جديدة لهذا الفن القصصي، بدأت تتشكل مع عودتي بشكل واسع للقراءات الفلسفية والفكرية، مبتعداً بعض الشيء عن الكتابة السياسية، فأمسكتني فكرة غريبة أن أدمج بين الفلسفة والفكر والقصة القصيرة، بأن أحاول التعبير عن مناهج فلسفية، بقصص تدمج بين الفكر الجاد واللعبة الإيهامية التي تميز فن القص.محاولاتي الأولى كانت نصوصاً فجة لم أنشرها. ولكن فيما بعد تدفقت معي النصوص، ووجدت نفسي أبحث عن طرائف تتماثل مع الفكرة القصصية المطروحة فلسفياً، لأعبر بها عن رؤيتي القصصية والفكرية. بل واستعملت بعض الطرائف في مقالات فكرية وسياسية أيضاً، ووجدت أن الطرفة تعطي خلفية لفهم جوهر الموضوع المطروح، وأحيانا أفضل من آلاف الكلمات.كنت على قناعة أن مثل هذا النهج الجدي، بالنسبة لي على الأقل، قادر على تشيكل اتجاه ثقافي فلسفي أرقى من مجرد حكايات مسلية هادفة أو غير هادفة. بعض قراء أعمالي الجديدة، ومنهم كتاب قصة من العالم العربي، لاحظوا أن قصصي الفلسفية، وهو اللون الذي طورته في الأشهر الأخيرة، تدمج بين المقال الفكري وفن القصة، وبعضهم بالغ بالقول أن الكاتب يبرز كفيلسوف أكثر من قصصي. وبعضهم تحمس بشكل مبالغ للجانب القصصي الفلسفي. لم أشأ أن أطلب تفسيرهم لفن السرد ومدى قدرة الكاتب (أنا في هذه الحالة) على جعل السرد مشوقاً كما في أي نص قصصي ناجح، والتساؤل، هل طرح قضايا الإنسان الفكرية والفلسفية الجوهرية، الأمر الذي يقتضي أن يكون ذهن القارئ مفتوحاً وأن يكون ذا يقظة فكرية كاملة، ما لا يتوفر لدى قارئ نصف نائم، كما تعودنا على قراءة القصص الممتعة المسلية، أو مشاهدة التمثيليات الممتعة، يخرج النص من صفته القصصية، إلى جنس ثقافي آخر، مقال مثلا؟ أو “قصة - مقال”؟!أعرف أن هذا اللون القصصي، المتمثل بطرح فكرة فلسفية أو رؤية فلسفية، كجوهر للقصة، يخاطب قارئاً من نوع جديد، قارئاً بمستوى ثقافي ومعرفي ما فوق المتوسط على الأقل، يقرأ القصة بذهن يقظ كما يقرأ، إلى حد ما موضوعاً فكرياً، والسؤال الذي يشغلني بدون إجابة كاملة حتى اليوم: هل يختزل ذلك فن القص أم يرقى به إلى مستوى جديد؟هذا أعادني، بدون حساسيات وبدون أفكار مسبقة، من منطلق أن الكاتب هو أفضل ناقد لنصوصه، أعادني إلى مراجعة واسعة للتعقيبات الجادة فقط، التي تحمل لمحات نقدية، وتقييمات أوسع من مجرد التصفيق الحماسي والمديح. وأقول بثقة إني فوجئت من الاستقبال الحماسي لقصصي الفلسفية خاصة من القراء، وإن ما كنت أظنه طروحات فلسفية - من الصعب ربطها بقضايا جوهرية ومصيرية لمجتمعاتنا، استقبلت بفهم كامل وبتعليقات تلمح إلى ما تخاف النفس أن تصرح به علنا.السلبيون في ملاحظاتهم، تركزوا أولا حول طول النص، مبرزين أن مساحة استعدادهم للقراءة الواعية تقترب من الحدود الدنيا. وبشكل غير مباشر عبروا عن واقع القراءة الآخذ بالضيق والاختزال في المجتمعات العربية. وبعضهم اتبع ملاحظته حول الطول بأن القصص هي “شبه مقال شبه قصة!!” وربما استنتج من ذلك أن ما يشد القراء أكثر هي النصوص البسيطة، التي لا تحتاج لجهد عقلي. وأن بعض دوافع القراءة، مع الأسف هي دوافع للترويح عن النفس، للتسلية، في انقطاع كامل عن التفكير واكتساب شيء جديد. والمستهجن أن البعض ذهب نحو استنتاجات دينية، أو أُلصقت عنوةً بالدين، وعبؤوا صفحات لا تقرأ، بمواعظ لا علاقة لها بالنص وما يطرحه من رؤية تنويرية أو نقدية لواقع عربي مترهل ومتخلف في جميع مجالات الحياة. ولا أعرف ما دخل الدين في الدفاع عن التخلف والانغلاق الحضاري؟!أي يمكن القول إن النهج السائد في أغلبية المجتمعات العربية، نهج فرض حظرا متزايدا على مساحة المواضيع المتاحة، وقمع حرية التعبير وحق الرأي ورفض التعددية الثقافية والدينية والإثنية، التي أطلت برأسها، من بعض الطروحات المتشنجة التي أرادت أن ترشدني، دينيا، لما هو مسموح وما هو ممنوع (؟؟!!) بعقلية بدائية، تفتقر لمقومات أولية من الوعي. مثلاً سئلت عن بطل إحدى قصصي: هل هو كافر؟ سألت الأديب المتسائل: “وما علاقة ذلك بجوهر النص وعناصر القصة؟ وهل البطل في القصة مشروط أن يكون نسخة مقرراً فكرها وعقلها في مجلس فتاوى؟ وهل القصة باتت مجرد خطاب وعظي آخر؟ وهل كل الأشخاص الذين نلقاهم في حياتنا اليومية هم نسخة طبق الأصل لما نعتقده أنه الطريق الصحيح والسوي؟ وهل مجتمع من لون واحد وتفكير واحد، هو مجتمع سليم العقل؟”. وأخرى انتقدت خروج أرملة إلى الشاطئ للبحث عن حب جديد، بحجة أنه لم يمض على موت زوجها أربعون يوما. وأن الدين يقول.. الخ.. الخ.. الخ! مع مثل هذه العقول، يبدو أن كل كاتب يحتاج إلى مفتٍ ليرشده في ما يجوز أن يكتبه وما لا يجوز!وبالطبع هناك قراء فاجأوني برؤيتهم المتنورة والأكثر راديكالية مما تجرأت على طرحه. ولكنهم لم يجاهروا برأيهم علنا إنما عبر رسائل خاصة، وهذا مفهوم وله مبرراته في مجتمعات تضيق فيها مساحة التفكير، وتلغي العقل لحساب النقل وتسود فيها الخرافات والغيبيات وفكر المعاجز، الذي لم يقدم غير التخدير العقلي.إن فهمي للقصة تجاوز منذ فترة طويلة مفهوم النص السردي الخفيف المعبر، والكاتب، كما أرى، لم يعد مجرد راو، يروي الحكايات في السهرات والمقاهي، أو في وسائل الإعلام المختلفة، لتسلية الناس.هذا الفن يتحول أكثر وأكثر إلى مادة فكرية فلسفية تربوية سياسية اجتماعية ولغوية ثقافية تشمل كل أبواب الحياة، تميزه روح سردية إدهاشية قصصية ممتعة. وهذا بحد ذاته يطرح إشكالية غير سهلة، تشمل تطوير فن السرد وعلاقة هذا الفن بطرح قضايا فكر وفلسفة ومجتمع من المستوى الأول. ودفع القارئ إلى أجواء جديدة في فن القص، فيها متعة الحكاية، إلى جانب متعة الفكر. ومتعة الفكر أجمل وأرقى من متعة الحكاية أو الطرفة العابرة. حقا هي مشكلة لدى المبدع، ولكنها مشكلة تتعلق أيضا بمستوى الوعي الذي يمتلكه الكاتب والقارئ على حد سواء. مستوى الإعداد الفكري للأجيال الجديدة، مستوى تطوير العقل المفكر، وليس العقل الناقل. في جميع مستويات التعليم.أنا شخصياً ارى أن فن القص هو مسالة مهنية صرفة . أي أن وعي الكاتب هو المقرر، والحديث عن لحظة الإبداع، وشيطان الإبداع، ودخول الكاتب بجو خاص، ومعاناة الخلق، هو ثرثرة فارغة من المضمون، تخيلات عقيمة. لا يوجد شيء من ذلك. لا أعرف من طور هذا الوهم الثقافي. حقا هناك الموهبة، وتطوير أدوات المبدع اللغوية والفكرية والسردية أو الشعرية، وكنت قرأت مجموعة مقالات في الشبكة الإلكترونية لأصحاب ألقاب كبيرة، تتحدث عن فن كتابة القصة وشروطها، وترشد القراء إلى كيفية كتابة قصة. أضحكتني وأشعرتني كم هو مبسط وبدائي، تفكير أولئك الأساتذة ، بمحاولاتهم جعل كتابة القصة عملا يتعلق بمعرفة تركيبة القصة، حسب لوائح وبنود وتوجيهات سامية من الألف إلى الياء. ككاتب ورائي مئات القصص وروايات ومسرح وكتب نقد، لا أعرف حتى اليوم تركيبة قصصية يمكن أن أنهج عليها. ولم تشغل فكري طروحات الأساتذة المبجلين، “الذين يكشفون للقراء أسرار كتابة القصة”، وهم أعجز عن صياغة جملة قصصية واحدة، من منطلق أن لغة القصة السردية تتميز عن أجناس السرد الأخرى.شروحاتهم لقواعد التأليف القصصي وشخصيات القصة، أضحكتني بسبب (علمويتها) أو (أكاديميتها المدعاة). أعتقد أننا أمام جنس أدبي حان الوقت ليتخذ له مكانة أبعد من التسلية فقط، أن ننظر إليه بصفته (علماً قصصياً )، أجل هو علم، يقتضي الموهبة كما في علم الرياضيات مثلا، ولكنه علم يتعلق أكثر بحياة الإنسان بكل تفاصيلها وإسقاطاتها ومؤثراتها، علم يحتاج إلى تجربة حياتية واسعة جدا، والأهم علم يتعلق أيضا بالقدرة على اختراق عقل الإنسان ودفعه للاندماج بالنص، لغة وفكرا. بما يتجاوز مساحة متعة القراءة فقط، لأن متعة الفكر والفلسفة أرقى وأكثر تنوعاً واختراقاً لنفس الإنسان من مجرد نص الحدوثة ومتعتها.واضح أن القصة لن تكون بحثا، إنما طرح معلومات ومواقف بسرد يختلف عن السرد العلمي. وهنا، كما أرى هو المجال الذي لا بد أن يخطو إليه فن السرد القصصي، ليخرج من الحواديث والجو الحكائي البسيط إلى المعاضل الأساسية التي تقف أمام الإنسان العربي أساساً، والإنسان العالمي عموما. هذا الاتجاه بات بارزاً في العديد من الأعمال الروائية والقصصية العربية، ولم يقلل ذلك من روعتها السردية ودراميتها، إنما عمق إلى أبعد الحدود التصاقها بقضايا الإنسان والفكر الإنساني. هذا النهج يجب تعميقه، ليس لتطوير الحكايات المسلية، إنما لجعل فن القص لا يختلف عن إعلان الثورة الاجتماعية من أجل القضاء على الفساد وتعميق نهج التنوير.