عندما نتحدث عن ظاهرة الفقر ننسى أن هذه الظاهرة يتبعها نوع من الاستبعاد الاجتماعي الذي له مخاطره العديدة فهذا الاستبعاد يشكل أحد ظواهر المدن الكبيرة التي تؤدى إلى تخلخل البنية الاجتماعية بشكل يؤدي إلى انعزال الطبقة الفقيرة في مجتمع المدينة وتشكيل ثقافة منعزلة لهذه الطبقة غالبا ما تكون صادمة. يتناول عالم الاجتماع (غيدنز) نوعين من الاستبعاد الاجتماعي أحدهما التهميش الذي تعيشه الطبقة الفقيرة التي تشكل قاع المدينة وغالبا ما تسكن وتعيش على أطرافها غير المحسوسة بحيث لا يراها أحد ولا يشعر بمعاناتها أحد، وهو استبعاد “إجباري” تعيشه هذه الفئة نظرا لظروفها الاقتصادية، وهناك الاستبعاد “الإرادي” بحيث تنسحب بعض الجماعات الغنية أو الفكرية من المجتمع وتشكل ثقافتها الخاصة ويطلق عليها جماعات “الصفوة” (يمكن الرجوع إلى كتاب “الاستبعاد الاجتماعي”، سلسلة عالم المعرفة، الكويت (344) اكتوبر 7200).تمثل هذه الظاهرة حالة خاصة في المدينة العربية فكلا نوعا الاستبعاد الاجتماعي موجودان ويمثلان مخاطر متعددة على المجتمع العربي والمدينة العربية المعاصرة ولم تتطور حلول لها قيمة لمعالجة هذه الإشكالات، بل ولا حتى دراسات تحاول أن تقدم لنا هذه الظاهرة بصورة واضحة يمكن استيعابها، ربما لأننا لم نتعود أن نواجه أنفسنا بصراحة ودائما لدينا قائمة طويلة من “المؤجلات”، فلم يحن الوقت لطرح مثل هذه القضايا الكبيرة التي تمس أمننا ومستقبلنا، ولا اعلم متى يمكن أن يأتي اليوم الذي يمكن أن نناقش فيه هذه القضايا المؤجلة التي تتضخم يوما بعد يوم ولا يريد أحد أن يواجهها بصراحة. أتذكر منذ سنوات ظاهرة العشوائيات في مدينة الدار البيضاء المغربية وكيف أن تلك العشوائيات تمثل أحد أهم بؤر الجريمة وصيد سهل لجماعات الإرهاب وسكانها هم من المستبعدين اجتماعيا ويعيشون على هامش المدينة ولم يتغير الوضع حتى الآن ومازالت تلك العشوائيات تحيط بالمدينة وتنهكها اقتصاديا واجتماعيا. كما أنني صدمت بشدة عندما عرفت لأول مرة أن مدينة جدة ومكة المكرمة فيها الكثير من العشوائيات وأنه لا أحد يستطيع فعل شيء لهذه الظاهرة. التعامل مع الفئات الاجتماعية الفقيرة له محاذيره التي تتطلب رؤية شاملة للمشكلة فليست المشكلة فقط في السكن، فهذه الفئة المستبعدة اجتماعيا شكلت ثقافة خاصة بها وتحتاج إلى برنامج تأهيل شامل لا أحد يريد أن يقوم به في المجتمعات العربية رغم أن ظاهرة العشوائيات وما يتبعها من استبعاد اجتماعي تمثل الظاهرة الأكثر خطورة على مستوى المدينة العربية المنهكة اقتصاديا واجتماعيا والمفككة إداريا. خلال الأسبوعين الماضيين قررت أن أشاهد كل الأفلام العربية الجديدة، فالسينما في القاهرة تمثل ظاهرة ثقافية حقيقية وتصبح ظاهرة احتفالية في أيام العيد فإذا لم يعجبك الفيلم سوف تستمتع بمشاهدة الناس وتعليقاتهم الساخرة أحيانا أثناء الفلم. يجب ان أوضح أنني لم أشاهد السينما العربية منذ أكثر من عشر سنوات ولا اعرف النجوم الشباب أبدا فقد توقفت عند أحمد زكي ومحمود عبد العزيز وعادل إمام. كما يجب أن أقول إنني شعرت بسعادة غامرة فمستوى الأفلام التي شاهدتها غير عادية بالمقياس العربي سواء في الأداء أو الإخراج أو حتى في الإنتاج ودور العرض.ولعل القارئ يستغرب هذه النقلة من الحديث عن الاستبعاد الاجتماعي إلى السينما والترفيه، وهي نقلة تمثل موضوع المقال، فقد تناول المخرج الشاب خالد يوسف في فيلم “حين ميسرة” ظاهرة الاستبعاد الاجتماعي بشكل جريء أشك أن أحدا قدم هذه الظاهرة بهذا العمق والحرفية في السينما العربية. تحكي قصة الفيلم حالة العشوائيات في مدينة القاهرة وهي حالة مثيرة للاهتمام فقد أكد لي المخرج خالد يوسف (وقد التقيته في مكتبه بالمهندسين بعد مشاهدتي للفلم بيوم) أن ما قدمه في “حين ميسرة” صورة مخففة من الواقع الأليم الذي يعيشه مجتمع العشوائيات. أذكر قبل سنوات أن احد الزملاء قال لي أنه يوجد في القاهرة مناطق عشوائية تنفتح البيوت على بعضها البعض ولا يوجد خصوصية اجتماعية بين سكانها حتى أنه لو سألت بعض أطفال تلك الحارات عن اسم أبيه لا يعرفه، ولم أصدق هذا الكلام لأني لا أتصور ان يصل ببعض المجتمعات الإنسانية مثل هذه الحالة من التدهور لكن عندما شاهدت “حين ميسرة” تخيلت حالة الانعزال التي تعيشها تلك الفئات الاجتماعية داخل المدن الكبيرة القاسية وكيف تنهار كل القيم الاجتماعية تحت وطأة الفقر، رغم أن ما قدمه الفيلم هو “واقع مخفف” ولم يستطع المخرج أن يقدم الظاهرة كما هي لأنه يعتقد أنها ستحدث حالة من الغضب الاجتماعي العام الذي لا تحمد عقباه. تحكي قصة الفيلم حياة أسرة تعيش في القاع أحد أبنائها سافر إلى العراق للعمل والآخر عاطل ويقع في مشاكل عدة أوصلته إلى السجن أكثر من مرة. كما تجمع فكرة الفيلم نوعي الاستبعاد الاجتماعي بحرفية عالية جدا فمن جهة الطبقة الفقيرة المهمشة التي لا تجد أحد ينصفها، بل وحتى الحكومة تنظر لها نظرة ريبة وحذر وتعتقد أن هؤلاء مجرمون ومنحرفون بدلا من أن تراهم ضحية هذا الاستبعاد الاجتماعي غير المنصف الذي يفرضه نظام المدينة القاسي، فليس ذنبهم أنهم ولدوا فقراء وليس من العدل تعميق الهوة الاجتماعية بينهم وبين طبقات المدينة الأخرى وعزلهم في عشوائيات ومساكن الصفيح ومواراتهم عن الأنظار بلوحات إعلانية كبيرة على طرقات المدينة حتى لا يراهم أحد. ومن جهة أخرى يتحدث الفيلم عن “الاستبعاد الإرادي” الذي تقوم به جماعة فكرية متطرفة تتخذ من هذه العشوائيات وكرا لممارسة أعمالها الإرهابية كون الوصول لهذه الأماكن صعبا وخطيرا حتى على رجال الأمن أنفسهم. هذه الجماعة لديها إمكانات مادية كبيرة ويعيش أفرادها بين السكان بحيث يصعب تمييزهم. الجمع بين هاتين الفئتين الاجتماعيتين تم بحرفية عالية في الفيلم وقدمه المخرج برؤية تقرأ الواقع السياسي العربي خصوصا عندما ربط بين مشاهد التفجيرات الإجرامية للإرهابيين وبين الهجوم على بغدام عام 1991و 1998و 2003،كما أن مشهد بغداد وهي تسقط في أيدي الأمريكيين وصورة المهمشين الفقراء يلعبون الطاولة على القهوة وخلفهم شاشة التلفزيون تصور سقوط بغداد تبين الحالة التي وصل لها المجتمع العربي الذي أصبح مشغولا “بأكل عيشه” ولم تعد الأحداث الكبيرة تحرك عواطفه كما في السابق. عندما سألت مخرج الفيلم عن مشاهد الحارة في الفيلم وهل تم تصويرها على الواقع قال: لا بل تم بناء حارة في الاستديو لأنه يصعب التصوير لمدة شهر ونصف في تلك العشوائيات لكن أكد لي أن الحارة التي تم بناؤها حقيقية فقد أمضى حوالي ستة أشهر يدرس العشوائيات ويعيش معهم حتى يستطيع نقل الصورة الواقعية. لقد قام مهندس الديكور ببناء الحارة من الداخل والخارج كي يبين التركيبة العمرانية لمثل هذه الحارات التي تمثل انعكاسا مباشرا للممارسات الاجتماعية اليومية التي يعيشها السكان. والحقيقة ان المشاهد الاجتماعية التي ينقلها الفيلم يندى لها الجبين حتى أن المشاهد الجنسية الأكثر خصوصية يشعر بها سكان الحارة ويتندرون عليها، الأمر الذي جعلني أتذكر تعليق الزميل على الخصوصية في هذه العشوائيات وكيف أن البيوت أصلا مفتوحة على بعضها البعض بحيث لا يمكن لرجال الشرطة ملاحقة أي من أفراد الحارة لأنه يستطيع الهروب من خلال المنازل المفتوحة. وهو نفس السبب الذي جعل من الجماعة الإرهابية تختار هذه الحارات كي تمارس نشاطاتها الإجرامية دون أن تقع في أيدي رجال الأمن وهو ما حدث في آخر مشاهد الفيلم فعلا عندما قامت الجماعة الإرهابية بنصب كمين لرجال الأمن وعندما قررت الحكومة إزالة الحي قاموا بتفجير الحي والخروج منه كمواطنين عاديين دون أن يتعرف عليهم أحد. إحدى المفارقات المضحكة المبكية أن أحد أفراد الحارة كان يريد الزواج من جارته الشابة وهو متزوج فقام باتهام أخيها بأن اختلى بزوجته وأنه وجدهما في الفراش معا. يقول هذا على القهوة علنا وهو ماسك بخناق الأخ ويقول له إنه قرر أن يطلق زوجته ليتزوجها الأخ وهو سوف يتزوج أخته وعلى هذا تم الاتفاق. الصورة المقدمة هنا صدمة اجتماعية وغير مقبولة في كل المجتمعات الإنسانية وسألت عنها المخرج خالد يوسف الذي أكد لي أن أصل هذه الحكاية هو أنه كان في قسم الشرطة (وأخوه ضابط شرطة) وأتى رجلان يسكنان أحد العشوائيات في حالة عراك أحدهما يقول للآخر أن الولد الذي في بطن زوجته ليس ابنه بل ابني فرد عليه الآخر طالما انه ابنك فرد لي الثلاثمائة جنيه (ويقصد المهر الذي قدمه للزوجة). الصورة الاجتماعية الفاقعة المثيرة للجدل التي تشعرنا بالنفور والتقزز وانهيار القيم المجتمعية في تلك الحارات هي حالة واقعية تعيشها مجتمعات بيننا بشكل يومي قد لا نشعر بوجودها لكنها جزء من المجتمع الذي نعيشه. البعد الأهم الذي يقدمه فيلم “حين ميسرة” هو بعد التنمية ومشاكل الإسكان في المدينة العربية فعندما يصل سكان القاهرة إلى 25مليون نسمة يعيش أكثر من نصفهم في عشوائيات لا نتوقع أبدا أن يكون هناك تنمية ولا يمكن أن نتصور أن تنفع أي خطط للإسكان ولا يمكن أن تكون المدينة قابلة للحياة أو يمكن اعتبارها مدينة فعلا بالمقاييس الإنسانية. المدينة العربية تعيش تحت الضغوط وتعاني بشدة من حالات الاستبعاد الاجتماعي غير العادل حتى المدن الخليجية الثرية تعاني من هذه الظاهرة وإن كانت بشكل أقل، لكنها ظاهرة قد تتفاقم في السنوات القادمة في هذه المدن إذا لم تلاحق الحكومات نفسها وتضع خططا واضحة للإسكان وتحد من الهجرة لتلك المدن فالتنمية المتوازنة هي تنمية الكل لا تنمية الجزء على حساب الكل. الحراك الاجتماعي داخل المدينة يحتاج إلى مراقبة دائمة لأنه قد يفرز ظواهر مجتمعية ذات خصوصية ثقافية خطيرة على المجتمع ككل وهو الأمر الذي اعتقد لم نستطع حتى الآن أن نفهمه بجدية كافية فما زال يبهر بعضنا مشهد المدينة الكبيرة ومازال البعض يفرح بزيادة سكان المدينة بينما هذا سيؤدي إلى شيخوخة المدينة وهرمها وموتها بعد ذلك. الجرأة المجتمعية التي صورها فيلم “حين ميسرة” رغم تأكيدات المخرج الدائمة (حتى في بداية عرض الفيلم) أنه لم ينقل من الواقع إلا اليسير يبين لنا الدور الكبير الذي يمكن أن تلعبه السينما في حياتنا خصوصا بعد التراجع الحاد لمؤسسات البحث الاجتماعي وعدم جدية المؤسسات الأكاديمية في تناول الموضوعات الحساسة التي تمس الأمن المجتمعي العربي، فارتباط الفقر بالإرهاب ليس ارتباطا عشوائيا، فالفقراء وبيئتهم السكنية مجال خصب لتفريخ الإرهاب، كما أنه مجال خصب كي تتخفى الجماعات الإرهابية داخلها، ولعل أحداث الدار البيضاء والنهر البارد في لبنان تؤكد لنا هذا الارتباط الوثيق الذي يحتاج جرأة بحجم جرأة فيلم “حين ميسرة” ليطرح قضايا الاستبعاد الاجتماعي وما ينتج عنه للجمهور العربي الذي يجب أن يكون واعيا بالمخاطر التي تتهدده.[c1]* عن / جريدة “الرياض” السعودية[/c]
(حين ميسرة) وظاهرة الفقر
أخبار متعلقة