اثناء زيارته لمحافظة حضرموت أواخر شهر مايو المنصرم شدد فخامة الرئيس علي عبدالله صالح رئيس الجمهورية على ضرورة امتلاك ناصية المعرفة العلمية كشرط لتجاوز فجوة التخلف و مواجهة تحديات الحقبة الراهنة من عصرنا الذي يموج بمنجزات ثورة تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات.والحال ان ما جاء على لسان فخامته اثناء زيارته لبعض جامعات محافظة حضرموت لم يكن مفاجئا، ولم يصدرعن فراغ، كما انه لم يكن كلاما للاستهلاك بحسب تعليقات بعض صحف المعارضة ومواقعها الأليكترونية، إذ دشنت حكومة المؤتمر الشعبي العام برئاسة الأستاذ عبد القادر باجمال ـ قبل عامين تقريبا ـً المرحلة الأولى من مشروع طموح تبناه ووضع خطوطه الرئيسية فخامة الرئيس علي عبدالله صالح رئيس الجمهورية يهدف إلى تعميم استخدام الحاسوب الآلي، وتيسير اقتنائه من خلال إعفائه من الرسوم الجمركية، وبيعه على أقساط سهلة الدفع، وتوفير خدمات الانترنت مجاناً للطلاب والشباب، وسائر الفئات والشرائح الاجتماعية الأخرى، وصولاً إلى تهيئة المجتمع المدني للدخول إلى فضاء المعلومات والاندماج في العالم الجديد.ربما يكون هذا المشروع قد تأخر قليلاً، قياساً ببعض البلدان العربية لأسباب موضوعية لكن البدء بتنفيذه وظهور نتائجه الايجابية على نحو ما لمسناه طوال العامين الماضيين يجسد إدراك القيادة السياسية لأهمية وضرورة التفاعل مع معطيات عصر المعلومات والاندماج فيه بأسرع وقتٍ ممكن.الثابت أنّ تكنولوجيا المعلومات تفاعلت على نحوٍ مثير للدهشة مع غيرها من المعطيات المادية والمعرفية التي أفرزتها تكنولوجيا الصناعة والزراعة والطب والدواء والنقل والمواصلات والفنون والتعليم والإعلام، ثمّ فتحت بعد ذلك أفقاً واسعاً لولادة شبكة معقدة من العَلاقات البنيوية بين مختلف الفئات الاجتماعية والمهنية والمنظومات السياسية والاقتصادية، وتوليد قدرات معرفية جديدة تساعد على إعادة اكتشاف عالم الواقع، وتعميق معرفتنا بهذا العالم وبذاتنا وبغيرنا، وتنمية قدراتنا الذهنية، وتسريع عملية اكتساب الخبرات وكسر احتكار النخب الثقافية والسياسية القديمة للمعرفة.لا ريب في أنّ التعامل مع هذه المعطيات يقتضي تخليص النخب الثقافية والسياسية القديمة من عزلتها الرهيبة عن متغيرات العصر المتسارعة وحقائقه الجديدة غير المسبوقة، وإعادة بناء الجهاز المفاهيمي لمختلف التيارات الفكرية والسياسية بما يؤهلها لتجديد طريقة فهمها للعالم وتصويب مواقفها السياسية من أحداثه ووقائعه ومتغيراته.لا يجوز إنكار ما أحدثته تكنولوجيا الاتصال والمعلومات من تحولاتٍ جذرية في مفهوم الثقافة وبُنيتها ووظائفها، بما في ذلك انعكاس هذه التحولات على المثقف نفسه. ومما له دلالة عميقة أن يتزامن ظهور معطيات ثورة تكنولوجيا المعلومات والاتصال في نهاية العقد الاخير من القرن العشرين المنصرم مع سقوط الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية الدولية بمختلف أطيافها، جنبا ً الى جنب مع فشل المشاريع القومية، وانتكاسة المشروع الراديكالي المشترك للحركات الإسلامية المتطرفة والمعتدلة في آن واحد نتيجة فشلها في قراءة التاريخ ومعرفة إشكاليات عَلاقتها بالواقع المحلي والبيئة العالمية، بالاضافة إلى انعدام المبادرة والقدرة على الفعل من لدن كافة التيارات السياسية والفكرية التي رفعت خلال النصف الثاني من القرن العشرين شعارات الاشتراكية والوحدة العربية والتنمية المستقلة والدولة الإسلامية.لا ريب في ان هذه الأحداث والمتغيرات تشير الى أنّ المجتمعات البشرية لا تتشكل من خلال الآيديولوجيا أو السياسة أو الاقتصاد بمعزلٍ عن مفاعيل الحراك المتبادل بين الأفراد والجماعات والمؤسسات من جهةٍ، وبين الواقع المحلي والبيئة العالمية من جهةٍ أخرى.. وبوسعنا القول إنّ تكنولوجيا المعلومات تنطوي على حوافز هائلة لتعظيم دور هذه المفاعيل بفضل سيولتها ومرونتها وقدرتها السريعة على إحداث عمليات تغيير ذات أبعاد جذرية خلال وقتٍ قصير في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلمية، الأمر الذي يؤثر على بُنية المجتمع الإنساني بصورة مباشرة.ثمّة من يصف القرون الأربعة الماضية منذ انطلاقة الثورة الصناعية الأولى والثانية والثالثة، بعصر الحداثة فيما يتم وصف ثورة تكنولوجيا الاتصال والمعلومات التي تزامنت مع ولادة الألفية الميلادية الثالثة بعصر ما بعد الحداثة.. ولئن كانت تكنولوجيا الصناعة قد أفرزت الدولة القومية والاقتصاد الرأسمالي والاستعمار وأسواق المال وحروب الإبادة الجماعية على امتداد القرون الأربعة الماضية، فمن غير المستبعد أن يتغير شكل ومحتوى المجتمع البشري تحت تأثير تكنولوجيا المعلومات، خصوصاً في البلدان النامية والفقيرة.في هذا السياق خلص التقرير السنوي لليونسكو لعام 2000م إلى التأكيد على أنّ الخيال السياسي والاجتماعي في مجتمعات البلدان النامية والفقيرة يتسم بالخمول والاغتراب عن التحولات العميقة التي تحدث على الصعيد الواقعي في البلدان المتقدمة بتأثير الخيال العلمي، وهو ما يفسر جانباً من أسباب تخلف المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية في مجتمعات البلدان النامية والفقيرة، واغترابها عن المخرجات الثقافية لثورة العلم والتكنولوجيا، التي تتجسد في غياب ـ او تغييب ـ البُعد الثقافي عن مظاهر الحداثة السطحية في حياة هذه المجتمعات، الامر الذي يستوجب ضرورة إعادة صياغة العَلاقة بين الإنسان والمجتمع والعالم، على أساس المعايير الحديثة لثقافة المعلومات، وبما يؤمن التفاعل الحي مع عالم الفضاء المعرفي والاندماج فيه، وامتلاك المبادرة والقدرة على اتخاذ القرارات وبلورة الخيارات.من نافل القول إنّ النخب المثقفة والسياسية القديمة اكتسبت مشروعيتها خلال القرن الماضي من انسلاخها عن بيئة الأمية الأبجدية والثقافية.. وعلى تربة هذا الانسلاخ مارست هذه النخب وظائفها (الدعوية والدعائية) بصرف النظر عن فشل المشاريع والأفكار التي دعت إليها وتولت مهمة حراستها .. بيد أنّ المعايير الخاصة بالأمية الثقافية والسياسية تغيرت اليوم، حيث يتوقف الانتساب إلى ثقافة المعلوماتية - وهي غير نخبوية بطبيعتها - على محو أمية التعامل مع الكمبيوتر ونظم المعلومات، ومحو أمية الشكل والرمز وأمية الثقافة العلمية.. وهو ما يوحي بأفول عصر النخب المثقفة القديمة التي كانت تشتغل على الآيديولوجية والخطابة والتعبئة والتحريض!لم يعد خافياً أنّ النخب المثقفة سواء أكانت دينية أو قومية أو ليبرالية أو يسارية او يمينية، تصدّت على مدى مائة عام لأسئلة النهضة وصدمة الحداثة الأولى ولم تتمكن من بلورة إجابات حاسمة على إشكالياتها وتناقضاتها، ثم بلغت ذروة مأزقها في نهاية القرن العشرين وأوائل القرن الحادي والعشرين لتواجه أسئلة صدمة ما بعد الحداثة الثانية، وتحديات عصر العولمة وثورة المعلومات دون أن تتمكن من الإجابة عن أسئلة الصدمة الأولى.والحال أنّ تحولات عصر العولمة ومعطيات ثورة المعلومات طالتا الثقافة - وبالتالي فاعليها وهم المثقفون - حيث يتشكل عالم جديد بطريقة غير مسبوقة، بالتزامن مع ولادة ثقافة إنسانية جديدة بطريقة مختلفة، فيما تتغير عَلاقة الإنسان بعالم الحقيقة الواقعي انطلاقاً من التغيير الحاصل في معايير الأمية والمعرفة، وما يترتب على ذلك من ضرورة إعادة صياغة العَلاقة بين دور فاعلي الثقافة وسائر الفاعلين الاجتماعيين في المجتمع.وعليه بوسعنا القول ان دعوة الرئيس في حضرموت قبل اسبوعين الى ضرورة تمكين الشباب من امتلاك ناصية المعارف العلمية والتكنولوجية الحديثة، لا يمكن فصله عن الأبعاد الاستراتيجية للمشروع الذي بادر إليه فخامته قبل سنتين عندما وجه الحكومة لتعميم وتيسير فرص استخدام الكمبيوتر وتوفير خدمات الانترنت بالمجان، ومن واجبنا ـ استنادا الى ذلك ـ أن نطرح عدداً من الأسئلة التي تتعلق بمستقبل النخب المثقفة القديمة التي كانت ومازالت فاعلاً أساسياً في مختلف الأزمات والإخفاقات الناجمة عن فشل وتعثر المشاريع السياسية والفكرية القديمة، وتتحمل الجزء الأكبر من المسؤولية عن المأزق العربي الراهن والذي وصل إلى أخطر مراحله (( حيث تشعر القوى الحية في هذه الأمة العربية بأنّها ولدت لتهزم، وولدت لتخسر، وولدت لتكتشف أنّ حساباتها تنتهي في معظم الأحيان إلى سلسلة من المغامرات القاتلة والمراهنات الخاسرة، ثم تدرك بعدها أنّ الوضع العربي لم يتهيأ لتحديات الحضارة الحديثة، ولم يتهيأ لمواجهة صراع الإرادات والقوى مع دول العالم، ولم يتهيأ بأسباب العلم وإدارة الأزمات)) بحسب ما كتبه المفكر الكويتي شفيق ناظم الغبراء في صحيفة "الحياة" اللندنية قبل اكثر من ثلاث سنوات بتاريح 29 يناير 2003م .يقيناً أنّ النخب المثقفة القديمة في العالم العربي آلت إلى وضعٍ مأساوي من العجز والإفلاس، بموازاة الدور الذي توخت إنجازه من خلال قيادة المجتمع وتبني مشاريع النهضة والتحديث.. واللافت للنظر أنّ هذه النخب استقرت على أفكارٍ قديمة ومشاريع بالية، واكتفت بدور شرطي الحراسة لتلك الأفكار، وتصر في الوقت نفسه على الدوغمائية في التعاطي مع الجهاز المفاهيمي لتلك الأفكار والمشاريع وما ينطوي عليه هذا الدور من خطاب شعاراتي شعبوي و تحريضي و دعوي، متجاهلةً حقيقة أنّ المثقفين لا يصنعون عالم السياسة والاقتصاد في هذه الحقبة من عصرنا الراهن بواسطة الأيديولوجية والنظريات السياسية، بقدر ما يصنعه فاعلون اجتماعيون آخرون مثل العلماء في المختبرات والمعامل ورجال الأعمال في الأسواق، ومهندسو البرمجيات ولاعبو الكرة ونجوم الغناء وحواريو الفضائيات الجادة وقادة المصارف والمؤسسات الإعلامية الخ.لم يُعد بوسع النخب المثقفة تنصيب نفسها لممارسة الوصاية على الثورة والحرية والحقيقة والدين والعقل.. ولا يحتاج المرء إلى جهدٍ كي يقتنع بأنّ هذه النخب فشلت في كل مشاريع التغيير التي بشرت بها وسعت إليها وغرقت في أوهامها، وعزلت نفسها عن العالم بعد أن داهمتها الصدمات والمفاجآت والهزائم!!.قد يكون هذا الاستنتاج قاسيا ً ومؤلما ً، لكن الجهر به يستمد ضرورته واهميته من المأزق الذي وصلت اليه النخب المثقفة القديمة بعد ان تكلست وعجزت عن إنتاج المعرفة بالإنسان والمجتمع والعالم.. وما من شكٍ في أنّ هذا العجز يعود إلى حقيقة أنّ مشكلة هذه النخب المثقفة القديمة لم تكن مع الإنسان أو المجتمع أو العالم، بل مع أفكارها.. فمهمة المثقف تتحدد في الاشتغال على الأفكار واجتراح طرائق جديدة للتفكير، وإنتاج أدوات تحليل معرفية تتيح إنتاج أفكار واقعية وفاعلة وقابلة للتطبيق..!وحين يصل المثقفون إلى مأزق حادٍ، بسبب عجز الأفكار عن إنتاج المعرفة بالواقع، تفشل تبعاً لذلك العجز كافة المشاريع التي تصاغ على أساس تلك الأفكار.. وهي نتيجة طبيعية ما كانت لتحدث لولا انتقال المثقف من وظيفة الاشتغال بالتفكير وإنتاج الأفكار إلى الاشتغال في مهنة الدعاية وحراسة الأوهام و تسويق الشعارات الشعبوية والوعود الجاهزة والمطلقة .* نقلاً عن / صحيفة "26 سبتمبر"
مـأزق النخـب القديمـة
أخبار متعلقة