قصة قصيرة
محمد حسين بيحانيأنبثقت أول خيوط الصباح .. فأطفأ نور المطبخ .. ركز عينيه على تراقص نار الشاهي والخافتة. كان عبدالصمد يحيا على غذاء خاص أوصى به ووضع منهاج صنعه أعظم علماء العصر في التغذية .. يتألف من مسحوق عجيب يستخدم منه قدر .. ملعقة صغيرة يمزجها مع الشاهي ثم يشربها بعد أن يكون قد حركها جيداً ، فتتقوم بها صحته تقدماً رائعاً ، وقد حذره أطباؤه بالامتناع عن أكل أية أطعمه أخرى لأنها تسبب إختزال عمره كان عبدالصمد واضحاً صريحاً فهو حر بكلامه وبأي أسلوب يشاء ولايهتم كعاشق بل يندفع إلى عناق هذه الجميلة وأثناء العناق تطير به هذه المرأة الى الصحراء وتهب على الاثنين عاصفة من الرمال عبدالصمد كان أسمى واحب يقوم به ينبع من جلاء أحاديثه وعدم وقوعه في أخطاء محتملة أو تأويلات ممكنة أو إجتهادات تقبل التفسير .. يجب أن تدور مواعظه ونصائحه حول القول العظيم " أعط لقيصر ما لقيصر " وإطاعة أولي الامر الذين اصطفاهم الله بحكمته الخالدة لرعاية الارض وما فيها ومن عليها .غرق عبدالصمد في كرسيه جامداً يحدق أمامه حسب أوامر الطبيب التي تقضي بعدم الحركة بعد تناول كل وجبة من هذا المسحوق المخلوط بالشاهي هذه هي أوامر وتعليمات الطبيب حتى في أخطر الظروف التي قد تتعرض لها الحكومة .. والمهم والاهم الحذر ثم الحذر في هذه اللحظات أن يشغل فيها فكرة على الاطلاق لكي يبقى في حالة إغفاء فكري .. وفي هذه الحالة وهو جامد في كرسيه يسقط وعاء كان بجانبه أحدث صوتاً مزعجاً وذلك بفعل سكون بزوغ الفجر الصباحي ، ولكنه لم يلتفت ولم يثر أي إنتباه له وذلك من أجل ألاّ يشغل فكره على الاطلاق ..كان في قعدته الجامدة على الكرسي ، مثل رجل مسحور يحاول إصطياد الفجر بلونه المليء بجمرة خافتة لغروب قديم وبنفسجي مولود لصباح جديد حاملاً إثم الليل وبراءة النهار منضماً الى جوفه الذاكرين لله في مولد منصوب لولي لم يأت بعد .فجأة يسمع أنيناً مكتوماً .. كانت عيناه فقط هي التي تتحرك فوق أكوام من الملفات والاوراق المبعثرة التي كانت تصدر أنينا مكتوماً وكانت ثمة أقدام تدوس فوقها بأحذية غليظة فتنطلق أنه ثم تندفع نافورة من الدم رفع عبدالصمد بصره محاولاً رؤية الاجساد صاحبة الاقدام لم يجد سوى الجدران السائبة لغرفته .. كل جدار يكاد لاينتمي الى الآخر بأي إتصال بل أن جدران الغرفة نفسها مشقوقة بالطول وبالعرض شقوقاً نافذة عبدالصمد لا يؤرقه سوى مشاكل حركة عينيه فهذا يحدث له مباشرة بعد تناوله لوجبة المسحوق الممزوج بالشاهي ..فماذا يفعل والابصار الجيد يخذله ؟ إنها الحادثة التي تتكرر حدوثها كل خمسة عشر دقيقة بعد تناوله لهذه الوجبة ، أخيراً أنتهت المدة الزمنية الربع ساعة وبإنتهائها يستطيع الحراك والتفكير كما يشاء بدون قيد أو شرط الساعة تدق السابعة صباحاً .. يدق الجرس .. فتح الباب .. يدخل عليه بوقار رشيق متحدثاً :أين عساي أن أجلس ياعبدالصمد ؟ أواجه عينيك أم أواجه البحر ؟إستسلم عبدالصمد حينها ..ظل يحدث نفسه مع حركة إيمائية على طريقة المونودراما .. من أين أبدأ معه الحوار ؟ من الأمس القريب ؟ أم من الحاضر البعيد يا للغرابة جاءني في السابعة صباحاً !! هل هذا وقته التيه جاء بعد ألف عام . . هل أصرح له دون تردد أو أتحفظ عن عيوبه وآماله أم أتردد وأتحفظ ؟ ومن دون أن يفوت عبدالصمد سحر الحديث أختصر حقه في النزيف وقال :" أعد قهوة .. أو شاياً ؟وبنبرة حزينة قال ناجي :عبدالصمد لماذا لم تخبرني ؟أخبرك بماذا ؟بأنك تتألم بشكل حاد .شعر عبدالصمد برغبة في البكاء ، ولم ينبس ببنت شفة أشعل سيجارة أراد أن يفكر بما كان يحدث .. دخن سيجارته بمتعة شديدة ، وفكر لعدة لحظات ، حيث كان الصمت ثقيلاً بينهما ثم سأل :أي يوم نحن فيه ؟الاثنين .ماذا ؟ أقصد أي إثنين ؟ماذا تعني بأي إثنين ياعبدالصمد ؟لو أني أعرف لقلت لك ياصديقي الناجي .رمق عبدالصمد صديقه الناجي بنظرة غاضبة وفي لمح البصر التفت نحوه وإضاءه بإبتسامة عذبة وبعينيه التي ضاقت عند زاويتها اليسرى قال بهمس " ولايهمك يا صديقي الناجي " الساعة تشير الى الثامنة كان الصمت ثقيلاً بينهما فجأة حدث صراخ يقطع هذا الصمت من عبدالصمد :رباه ماهذا..؟ ماذا هناك ؟ إنني .. إنني أرتعش ؟وفجأة أرتعشت أطراف عبدالصمد بشدة .ومن أجل هذا جئت إليك منذ الصباح الباكر ياعبدالصمد ."بدهشة وإستغراب " ماذا تقصد بكلامك ؟وبتوسل راكعاً بركبتيه على الارض ممسكاً بقبضة يدي عبدالصمد من الرعشة التي اصابته فجأة .عبدالصمد أرجوك إسمعني جيداً ، إنني من الجيل الذي تفتحت عيني عليك في هذه الساحة الجيل الذي لا يعطي الفرصة لمن يريد أن يركب الموجه :"وهنا يخرج صحيفة من معطفه" ها ، خذ إقرأ من أجل أن تتأكد من ذلك ..تناول عبدالصمد الجريدة وقرأ وصاح بإنفعال :ماذا في هذا ..؟ أنا لا أفهم .. أين .. أين ؟صاح الناجي بإنفعال مقاطعاً :واصل القراءة ياعبدالصمد تابع الخبر .واستمر عبدالصمد يقرأ ثم صرخ قائلاً :ولكن هذا غير معقول أبداً هذا مستحيل .كان الناجي يقف الى جانبه وهو علي وشك النواح ..وبدت صرخة باكية من عبدالصمد .ماذا ..؟ هل هذا معقول ؟ثم واصل عبدالصمد القراءة مذهولاً :لقد أثبتت هذه المادة المشكلة من المسحوق قدرتها على التذمير في مأساة وفاة عبدالصمد وأن هناك عراقيل وأيادي وعقول خفية نجمت ووقفت أمام هذا البحث العلمي الانساني حيث تم إكتشاف وجود إشعاعات تم إرسالها بشكل سري في مدار حول مادة المسحوق لتصبح هذه المادة بقدرتها على التدمير السريع للإنسان .إنها المأساة الكبرى بل والكارثة العظمى وهي وفاة عبدالصمد ..!! هبط صمت وجاء صوت الناجي يسأل :والآن ما العمل ؟ ماذا نعمل ياعبدالصمد ؟لم يحفل عبدالصمد به ولا بسؤاله وخطى مسرعاً نحو جهاز الهاتف وانطلق يتكلم :ألو .. مكتب الشرطة .. دائرة الاختراعات .. ألو دائرة المختبرات .. فجأة توقف القلب .. وتجمد الجسد .. إنه من الصعب عبدالصمد .. إن لم يكن من المستحل عدن في 14فبراير 1992م