لمناسبة ذكرى تأسيس صحيفة "14أكتوبر"
بقلم السياسي والأديب الراحل / عبدالله باذيبمنذ مساء فريد قديم .. ويدي تتلمس سبيلها الى القلم وبين جوانحي حنين عارم الى الكتابة والحديث معك.أكتب اليك، لا لأعلن إيماني بك، فقد أمنت بك من زمن بعيد.. بعيد منذ أن مارست كتابة الحرف ووعيت الكلمة..( وفي البدء كانت الكلمة ) واتحدث إليك، لا لأتعرف عليك، فان كل كلمة كتبتها من قبل هي انعكاس لمشاعرك ومرآة لنفسك الصافية، ورسالة مفتوحة موجهة اليك عبر السور والورق من القلب الى القلب.وفي كل مرة هممت فيها بالكتابة استشعرت الفجاجة والانحباس.وضلت يدي الطريق الى القلم.. ولم يكن هناك سيف مشرع على عنقي يهم بسفك دمي كلما حاولت الالتقاء بك على الصفحات، ولكن نفسي أرادت ان تعيش التجربة بملء جوارحها وعمق أعماقها.ان لها ماارادت.وفجأة وجدت يدي تتسلل الى القلم.. والطريق بين قلبي وقلبك مفتوح حال الأ من سؤال حائر:عم اكتب إليك وأحدثك؟هل احدثك عن المادة التاسعة عشرة من( الاعلان العالمي لحقوق الانسان ).؟ تلك المادة التى تقول لكل فرد الحق في حرية الرأي والتعبير ) وينطوي تحت ذلك حق الفرد في عدم ازعاجه بسبب رأيه )؟أم هل احدثك عن الذين يتخاذلون في أول لقاء بين قوى الرجعية وقوى التطور والتقدم وتطير نفوسهم شعاعاً في أول تجربة كفاحية؟ أولئك الذين تذهلهم المفاجأة ويذهب هول الصدمة بقبضة الشجاعة المتبقية في قلوبهم فتنهار اعصابهم وتخور عزائمهم ولا تقوى أقدامهم المرتجفة على حمل خطواتهم إلى الأمام، ويظلون في أماكنهم يرزحون( ويراوحون ).. والمعركة تدور.. والصراع يعنف ويحتدم.أم هل أحدثك عن الذين يعيشون في رعب قاتل دائم، يقتاتون الخوف ويتنفسون الغناء ويموتون كل يوم ألف ميتة.. أولئك الذين يريدون- لو- استطاعوا أن يزجوا بالأحرار في أعماق الظلام خلف الأسوار والقضبان ولكن الشعب يحكم عليهم مقدماً بالحبس في قصورهم الشامخة التي اعتصرت أحجارها من عرق الكادحين؟أم أحدثك عن حفنة من الناس تدعى الربوبية وتحاول في النصف الثاني من القرن العشرين ان تتقمص شخصية الأباطرة ويصور لها الوهم أنها فرعون جديد يستطيع ان يقرر مصائر الكتاب الاحرار الشرفاء ويخطف نور كلماتهم من قلوب الشعب وعيون الملايين؟أم هل أحدثك عن إخوة لنا من الناس يتنكرون لأخ لهم يكادون ان يتحاشوا المساس به أو الاقتراب منه؟وليس هو بالأجرب حتى يخشوا على انفسهم من العدوى ولايحمل في طيات جسمه جراثيم وباء. وليس هو مجرماً هارباً من العدالة، ولم يختلس مالاً حلالاً، ولم يقتل نفساً بريئة..وليس هو واحداً من أعداء المجتمع الذين يعتبر كل اقتراب منهم شبهة، وكل علاقة بهم فضيحة.. ولكنه إنسان مارس الكتابة الشريفة، وجهر بكلمة يعتقدها وعبر عن رأى يدين به ويخلص له.. أم هل أحدثك عن بعض الصحف التي بعثت بالبرقيات وملأت أنهارها بالكلام دفاعاً عن حرية إنسان، حريثه في أن يعربد ويفسق ويفجر.. ثم تخمد أنفاسها إحجاماً عن الدفاع عن حرية إنسان اخر حريته في أن يكتب ويعبر عن أماني قومه ويطلق كلمة الشعب.أم هل أحدثك عن وطنية المتأنقين والمترفين وأبناء الذوات..؟إنهم لا يفهمون الوطنية كقضية علمية وحاسمة إنسانية أصيلة ومنهم واع لواقع الناس.. ولكن وطنيتهم نزوة عابرة وفرقعات طائشة ونوبة مؤقته كنوبات الحمى.أم هل أحدثك عن الأقلام الحرة القليلة التي ظلت في احرج اللحظات قلعة للمقاومة الشعبية ومركزاً للدفاع عن حرية الرأي؟ لا.. لن أحدثك عن هذا كله.. فلا أظنني سأجيد الحديث عنه اليوم.. وإنما أحب أن اتحدث إليك عن وظيفة الكاتب الحر وعلاقته بالجماهير وعن مكان الرجال الأحرار في قلب الشعب.ان الكاتب الحر صاحب موقف اجتماعي معين لم يتخذه اعتباطا ولم تحدده له الصدف وإنما اتخذه عن وعي كامل وحدده له مفهومه العلمي المتطور لواقع الحياة وحركة التاريخ.والكاتب الحر لا ينتظر حتى تتحرك الجماهير وتزحم الطريق نحو الهدف بل هو الذي يتحرك أولاً ويشعل طاقة النضال في وجدان الجماهير.. ويتقدم ويضحي.. ويواجه النتائج بشجاعة وبسالة.إنه اكثر من كاتب انه معلم وقائد.ذلك أن الكاتب الحر إنسان مسؤول ملتزم مسؤول عن توصيل وعيه الى الجموع وملتزم أمام هذه الجموع بالتعبير عن آمالها والدفاع عن حقوقها الطبيعية. والكاتب الحر يثق بالشعب ولا يتخلى عن أدنى جرأ من هذه الثقة حتى في أشد المحن وأحلك المناسبات.وما أسخى الشعب واكرمه تجاه الكتاب والرجال والأحرار لأن يهب ثقته ويمنح قلبه للرجل الذي يثق به.. وكلفه لا منح ثقته دون قيد أو شرط.. إنه يريد إنسان يعني ما يقول.ويقف عند هذا الذي يقوله وقفة صامدة ثابتة يريد انساناً لا يخشى أن يتسخ ثوبه في المعركة أو يدمى جسمه في الصداع.. إنساناً في الطليعة أبداً ومع الناس دائما لامتأنقاً يهذي بالوطنية فوق تل من الذهب، ولاً بندقية امينة يدعي الرجولة ولا رجولة، ما أشبه البعض هنا” ببنادق الزينة “ وأثاث الغرف الباذخة .إن مثل ذلك الإنسان الصامد الثابت لن يبخل عليه الشعب بثقته ولن ينكص عن أتباعه والتعلق به والشعب هو الذي يصون الفكر الحر والجهد الصادق ويحمى شرف الكلمة .( الجنوب العربي ) 27/ 9/ 1955م.
14أكتوبر أيام زمان