اليمن والسعودية شريكان في الحرب على الإرهاب (2)
في نهاية الحلقة السابقة من هذا المقال قلت إنه إذا كان من حق القارئ الكريم أن يطالبني بتقديم البرهان على الروابط الوثيقة بين جناحي تنظيم (القاعدة) في السعودية واليمن، والقوى التي تدعم هذا التنظيم وتتبنى برنامجه في اليمن والسعودية أيضا.. فمن واجبي تجاه القارئ الكريم تقديم هذا البرهان من خلال استقراء القواسم المشتركة بين الحملة التي شنتها صحافة حزب (الإصلاح) على فيلم (الرهان الخاسر)، الذي أنتجته المؤسسة العامة للإذاعة والتلفزيون من جهة ، وبين الحملة التي تبنتها صحافة هذا الحزب بهدف الترويج لأفكار تنظيم (القاعدة) في اليمن والسعودية بصورة ملتوية من جهة أخرى ، الأمر الذي يتطلب أولا عرضـا تحليليا لفيلم (الرهان الخاسر) الذي شنت صحافة (اللقاء المشترك) ضده حملة غاضبة ومسعورة ، بقدر ما يتطلب الأمر أيضا قراءة تحليلية لأفكار قائد تنظيم (القاعدة في شبه الجزيرة العربية) الذي حاورته واحتفت به صحافة حزب (الإصلاح) بسعادة تخلو من أي مظهر للغضب والسعار.. لعل أهم ما يميز المقالات الهجومية التي شنتها صحف حزب "الإصلاح" وأخواتها ـــ بما في ذلك بعض المساجد التي يسيطر عليها حزب "الإصلاح" ـــ ضد عرض فيلم ( الرهان الخاسر ) في القناة الفضائية اليمنية هو الانفعال بالغضب والسعار اللذين تميز بهما مضمون تلك الهجمة المنسّقة، حيث لخص الغاضبون (الإسلامويون) سعارهم ضد الفيلم بترديد اسطوانتهم المشروخة التي تعتبر كل عمل مخالف لرؤيتهم المذهبية الأحادية وأهدافهم السياسية الحزبية "حربًا على الإسلام" ، وكأنّهم هم الذين يمثلون الإسلام حصريا ، بعد أن يختزلوه في سياساتهم الماكرة ومصالحهم الضيِّقة، والإسلام منهم براء. ولا يحتاج المحلل الحصيف لتلك الحملة المسعورة على فيلم يحذر من الرهان الخاسر على الإرهاب ، إلى جهد كبير لمعرفة دوافع تلك الحملة التي لخصها الشاعر العربي بقوله : كاد المريب أن يقول خذوني ، على نحو ما سنوضحه بأدوات التحليل النقدي في حلقة قادمة من هذا المقال المطول .أطرف ما جاء في تلك الحملة هو اتهام الحكومة والمؤسسة العامة للإذاعة والتلفزيون التي أنتجت الفيلم بتحويل "يمن الإيمان إلى ساحة للحرب على الإسلام"، فيما لم تخفِ تلك المقالات اتهامها للدولة بالتواطؤ مع "أعداء الإسلام ومحاربة الغيورين على دينهم تحت شعار ما يسمى مكافحة الإرهاب.. بحسب ما جاء في عدة مقالات نـُشرت في ثلاث صحف ( مشتركة ) بأسماء مختلفة مع صور كتابها.ومما له دلالة عميقة حرص كتاب هذه المقالات ـــ والخطاب "الإخواني" عمومًا ـــ على استباق عبارة مكافحة الإرهاب بعبارة " ما يسمى" في إشارة واضحة إلى نزع ونفي صفة "الإرهاب" عن الجرائم التي يتم ارتكابها من قبل الجماعات الإرهابية.ربما تكون صحيفة "الثوري" هي الصحيفة الوحيدة التي ساهمت في الحملة على فيلم "الرهان الخاسر" من باب "رفع العتب بين الأصدقاء" عن واجب المساهمة في هذه الحملة تجسيدًا للروابط "المشتركة" في السراء والضراء . ولا أبالغ حين أقول إن من يقرأ المقال الذي كتبه في "الثوري" مثقف أحترمه وأقدره ـــ ولعله أفضل كُتـَّاب "الثوري" على الإطلاق ـــ لن يجد في ذلك المقال فكرة رصينة ومبررة، ولو من باب "النقد الفني" تستدعي نشره في صحيفة تنطق بلسان حزب رفع رايات الكفاح ضد الإرهاب منذ وقتٍ مبكرٍ قبل الوحدة وبعدها، ولم ينحرف عن منطلقاته المبدئية في الكفاح ضد التطرف والإرهاب إلا بعد تحالفه مع التنظيم السري للإخوان المسلمين في حزب "التجمع اليمني للإصلاح"، وتحديدًا بعد أحداث 11 سبتمبر 2001م، عندما عاد الأمين العام المساعد ـــ سابقـا ـــ جار الله عمر (رحمه الله) من بيروت بعد أنْ شارك إلى جانب الأمناء العامين المساعدين آنذاك لأحزاب "الإصلاح" و"الوحدوي" و"القوى الشعبية" وهم : عبدالوهاب الآنسي وسلطان العيتواني ومحمد عبدالملك المتوكل، بعد مشاركتهم في المؤتمر القومي العربي الإسلامي الذي انعقد أواخر عام 2001م ، و طالب الدول العربية برفض قرار مجلس الأمن الدولي رقم (1373) الصادر في عام 2001م، والذي يلزم جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة بالتعاون الدولي في جميع المجالات السياسية والأمنية والمالية والاستخبارية لملاحقة الإرهاب، ومعاقبة مرتكبيه، وعدم تمكينه من الحصول على ملاذٍ آمنٍ، وقطع مصادر تمويله وتجفيف منابع الأفكار المتطرفة التي تولده.وكان مثيرًا للدهشة أنّ وفد "اللقاء المشترك" الذي عاد مبهورًا بقرارات ذلك المؤتمر، أصدر تصريحات شهيرة آنذاك ، طالب فيها الحكومة اليمنية برفض هذا القرار. وقد قوبلت تلك التصريحات باستهجان واسع وانتقادات شديدة من قبل الحزب الحاكم وقوى سياسية أخرى وعدد كبير من السياسيين و المثقفين الذين اتهموا "اللقاء المشترك" بالإفراط في المكايدات السياسية وعدم مراعاة المصالح الوطنية العليا، والسعي المحموم للدفع باليمن إلى مجابهة غير محسوبة وغير محمـــودة العواقــب مع المجتمــع الدولي ـــ عموما ـــ ، ومع الولايات المتــحدة الأمريكية ـــ خصوصًا ـــ التي كانت تتصرف بغضب هائج كالأسد الجريح ، في تلك الظروف العصيبة، التي لم تكن قد جفت فيها دماء ضحايا أحداث 11 سبتمبر 2001م الإرهابية، وسط تعالي الأصوات المتطرفة التي كانت تحرض الادارة الأميركية على توجيه ضربات عسكرية لكل بلد يبدي تعاطفـًا مع الإرهاب، وخروجا عن الإجماع الدولي والقرارات الدولية المناهضة للإرهاب.من نافل القول إن من يتناول فيلم (الرهان الخاسر) بالنقد الفني أو القراءة التحليلية النقدية ،لا يمكن أنْ يكون جادًا ومنصفـًا إذا تجاهل حقيقة أنّ إنجاز الفيلم تمّ على خلفية فقيرة وبائسة لصناعة السينما والإنتاج والتوزيع والعرض بسبب قساوة البُنية الثقافية والاجتماعية التي جرى بناؤها على مدى العقدين الأخيرين من منظور أيديولوجي معادٍ للحداثة والتنوير، وغير منفتح على القيم المدنية والإنسانية المشتركة للحضارة الحديثة والعصر الراهن، وهو منظور يُعبِّر عن أفكار ومفاهيم متخلفة، وملتبسة بالدين، يتمُ من خلالها تحريم الفنون والموسيقى والسينما والمسرح، والتلويح باستخدام العنف ضد الدولة والمجتمع في المناسبات التي يتمُ فيها تنظيم المهرجانات الغنائية والثقافية والموسيقية، والعروض السينمائية على محدوديتها وانحصارها في نخب وأطر ضيِّقة للغاية.الثابت أنّ ظهور هذه البيئة الثقافية المنغلقة، ارتبط بتنامي نفوذ حركة "الإخوان المسلمين" في مختلف هياكل الدولة والسلطة والمجتمع السياسي، بدعم ورعاية مباشرة وغير مباشرة من بعض مراكز القوى في الدولة والحزب الحاكم، الذي لا يبدو أنّه جاد في صياغة إستراتيجية وطنية واضحة للإصلاح والتحديث، ومواجهة التطرف والإرهاب .تأسيسًا على ذلك بوسعنا القول إنّ البيئة الثقافية التي تمّ على تربتها إنجاز فيلم "الرهان الخاسر"، بقدر ما تتميز باليبوسة والانغلاق والعدوانية ضد الفنون التي يدخلها الإرهابيون ــــ ومن قبلهم "الإخوان المسلمون" ـــ في دائرة المحرمات والمنكرات التي يجب مقاومتها والنهي عنها دفاعا عن ًالفضيلة المفترى عليها، بقدر ما دفعت القائمين على إنتاج الفيلم والمشاركين فيه إلى التعامل مع الفن السينمائي كسلاحٍ في معركة محددة، تتوحد اتجاهاتها حول قضية معينة وتعظيم محوريتها في العمل الفني دون أنْ يمنع ذلك من استخدام أدوات فنية تنطوي على الجمع بين الواقع المتخيل من جهة ، والعالم الواقعي المتجسد في أطر تاريخية ومفاهيم دينية وأنماط حياة يومية، ومؤثرات موسيقية وألوان وظلال طبيعية من جهة أخرى ، بعيدًا عن الوقوع في إشكاليات السرد التي تشكل معضلة حادة للأعمال السينمائية بصورةٍ عامة.رغم حداثة تجرِبة المشاركين في إنتاج فيلم ( الرهان الخاسر )، يتميَّز العمل الفني الذي أنجزه كُتـَّاب القصة والسيناريو والحوار والممثلون والمصورون والفنيون والمخرجون وعلى رأسهم المخرج د . فضل العلفي بافتقاره إلى ما يسمى في الفن السينمائي سردًا روائيًا. بيد أنّ السرد السينمائي ـــ وهو الذي كان طاغيًا في جميع مراحل الفيلم ـــ اعتمد أسلوب التأثيرات والاستلهامات المتبادلة من خلال تقاطع وتداخل المشاهد المختلفة و( الكادرات ) المصورة والموسيقى التصويرية في سياق بنيوي متكامل ، جعل فكرة الفيلم وأسلوب تناولها وعرضها يلعبان دورًا مهمًا في الوصول إلى نتائج إبداعية، لا يمكن تحقيقها في ظل غياب عنصر السرد الروائي الذي يفتقر إليه الفيلم.كان السرد السينمائي رائعًا ومثيرًا للإعجاب، رغم حداثة ومصاعب التجرِبة ـــ كما أسلفت سابقـًا ـــ حيث تمكن هذا السرد من تعميق وتعظيم الفكرة الرئيسية التي يتمحور حولها جميع مشاهد وأحداث وشخوص الفيلم الذي حاول مقاربة منابع ومدخلات التطرف ومخرجاته الارهابية في سيرورة تحولها الى جرائم دموية معادية للانسانية !تقوم فكرة الفيلم وأسلوب السرد السينمائي لأحداثه وشخوصه على نموذج تعدد الأبطال بدلاً من البطل الواحد، وقد نجح مخرج الفيلم في أنْ يجعل من الزمن السينمائي وعاءً لفنون المونتاج المتوازي وتقاسم المشاهد واللقطات بشكل بنيوي، الأمر الذي منح السرد السينمائي طاقة تعبيرية جعلت جميع الممثلين من دون استثناء أبطالا محوريين في الفيلم الذي يبدأ بحوار إنساني باللغة الإنجليزية في مدينة صنعاء القديمة بين شابة عربية مسلمة من اليمن اسمها شيماء ، وسائحة أوروبية من ألمانيا اسمها ماريا.تتقاطع مشاهد الأحداث في مفتتح الفيلم عبر زمن سينمائي حرص المخرج من خلاله على أنْ تتولى الكاميرا عملية سرد فني دراماتيكي يتضمَّن حوارًا بين والد شيماء المريض وزوجة ابنه الغائب في ساحات مجهولة لجهاد مفترض خارج اليمن ، حيث يسألها عن ابنته شيماء فيعرف منها أنّها خرجت للعمل ، ثمّ يتواصل السرد السينمائي بشكل تصاعدي وتقاطعي مركب ، تظهر فيه نساء يعملن داخل المنزل في صنع بعض المنتجات الشعبــية التي يقبل السياح علــى شرائــهـا ، وأخريات يقمن بتسويقها عليهم في مدينة صنعاء القديمة . ولعل أكثر هذه المشاهد درامية ذلك الذي تظهر فيه شقيقة المرشدة السياحية شيماء وهي ترسم لوحة لزوجها الغائب ناصر والذي يتضح في سياق لاحق من أحداث الفيلم أنّه غادر اليمن ، وانقطعت أخباره، ثمّ عاد( مجاهدًا) بلحية كثة، وثوب قصير، وعينين قاسيتين، ودم وقلب باردين. وقد تمكنت هذه الزوجة الرائعة بعملها الفني الرفيع الذي ينتجه مرسمها المتنقل على الهواء الطلق في ساحات مدينة صنعاء القديمة ،من تقديم صورة رائعة لليمن في عيون السياح الأجانب من جهة، وتوفير بعض الدخل المتواضع بالعملة الصعبة لإعاشة أسرتها، ومعالجة والد زوجها المريض، وهو والد شيماء ـــ أيضًا ـــ التي تقوم بتسويق اللوحات بعد ان ترسمها زوجة شقيقها بأناملها الرقيقة من جهة أخرى .اعتمد المخرج في مشاهد عديدة ومهمة على إشارات إيحائية ومخيالية مزدوجة ، تدعمها سرود سمعية وبصرية متقاطعة بفعل انتقالات الزمان والمكان بأسلوبٍ مركبٍ، ما جعل من هذه الانتقالات سردًا آخر إلى جانب السرود السمعية والبصرية المصحوبة بالموسيقى التصويرية التي انطوت على صور متنوعة عن الحياة الواقعية للإنسان والمجتمع في اليمن، بما في ذلك السرد السينمائي التلقائي لقيمة التعايش والتفاعل بين الأمم والشعوب والحضارات والأديان المختلفة من خلال مشاهد مركبة. نجح الفيلم من خلالها في إبراز القيمة الانسانية والحضارية لتفاعل السياح الأجانب مع عادات الشعب اليمني في الاحتفالات بأفراح الزواج والنجاح، وولادة الأطفال، وتوثيق ذلك الفرح الإنساني المشترك بين السياح والمواطنين بالصور التذكارية وصولاً إلى مشاركة السياح الأجانب مضيفيهم في صنعاء القديمة برقصة (البرع) في مشهد إنساني عامر بالمشاعر الفياضة التي تجسد قيم التعارف و التعايش والتفاعل بين الناس من مختلف الشعوب والأجناس ، بمؤثرات إيحائية تخالف ثقافة التعصب والتطرف التي تحرض على كراهية أتباع الأديان الأخرى استنادٌ إلى موروث ميثولوجي ملتبس بالدين، كان المخرج رائعًا جدًا في تفكيكه وتبرئة الإسلام منه عندما جعل الدين حاضرًا في قلب ذلك الحدث ، وتحديدا ً أثناء رقصة (البرع) بين اليمنيين والسياح الأجانب ، حيث توقفت الرقصة عندما سمع الراقصون اليمنيون والسياح الأجانب أذان صلاة المغرب في مشهد روحاني بالغ الدلالة .. فتسأل إحدى السائحات المشاركات في تلك الرقصة عن السبب ، لتكتشف من الإجابة معاني جديدة ومعبرة عن التعايش والتلازم بين ممارسة المسلمين اليمنيين للفن وممارستهم للعبادات بصورةٍ متناسقة لا نفي فيها للآخر.وفي سياق معاكس يتداخل ذلك المشهد الدرامي بمشهد آخر ميلودرامي يظهر فيه جانب من العلاقة المشوهة بين العلم والتدين الشكلي، حيث تبدو جماعة متطرفة وهي تستخدم أجهزة الكمبيوتر الملقاة على الأرض لإعداد بعض المواد الناسفة وتصميم خطط لأعمال تفجير ارهابية، مقابل مشهد آخر يبدو فيها رجال ونساء في وحدة مكافحة الإرهاب التابعة للأمن المركزي وهي تستخدم أجهزة الكمبيوتر بصورةٍ حضارية على طاولات أنيقة تحتويها صالة مفعمة بالنشاط والحيوية والنظام.صحيح أنّ الفيلم مهجوس بالميلودراما في أحداثه وشخوصه، لكن عدم وجود بطل محوري ومثالي في الفيلم أسهم في تحويل هذا الهاجس إلى حافز لتعظيم قدرات السرد السينمائي والسرود السمعية والبصرية على التعاطي مع مزيد من المقاربات الفنية والموضوعية بين الفكرة المحورية للفيلم، وبين الواقع بشقيه الملموس والمتخيل ، على نحو ما تقدمه لنا المشاهد التي أبرزت العَلاقة العمودية بين أمراء الجهاد وجماعاتهم ، وبين عملية استقطاب الشباب العاطلين ذوي العقول الخاوية ، ومعاداة الشباب الذين يرفضون الانخراط في تلك الجماعة، بسبب امتلاء عقولهم بأفكار وأحلام تدفعهم إلى حب الحياة ، والسعي الدؤوب لتطوير قدراتهم ومهاراتهم من أجل تحقيق تنمية مستدامة لحياة أفضل ومستقبل أجمل .يقينا أن المخرج برع في إبراز صور موحية بالتصادم بين لقطات تعرض أسلحة الإرهاب، ولقطات أخرى تعرض أدوات الفن والعمل والدراسة في إطار من المقاربات الحذرة لخطاب ديني مشوَّه بالتلبيس وتدين فطري منزه عن التدليس. بالإضافة إلى ذلك نجح فيلم (الرهان الخاسر) ــ على الرغم من حداثة التجربة ــ في تنويع أشكال وأدوات عرض الأحداث بين أطر قابلة للتصاعد والتنامي من جهة ، وتقنيات قادرة على التخييل والإيحاء ولقطات حركية جسدت قدرة الكاميرا على تفسير السرد السينمائي من جهة أخرى، وهو ما يمكن الاستدلال عليه من خلال الواقعة التي تصور مشهد أحد المتطرفين، عندما حاول منع أحد الشباب من مصافحة سائح أجنبي في صنعاء القديمة، ثم نهره وزجره، وسحب يده بقسوة وعنف ، بحجة أن أئمة السلف أجمعوا على أنّ ديننا ينهانا عن مصافحة اليهود والنصارى، أو محادثتهم أو تحيتهم في طريق واحد نسير فيه معهم، بل إنّه يأمرنا بضرورة اجتنابهم، حتى إلى طريق ضيق وخطير،فهذا أفضل للمسلم من مقابلة الكافر، وجها لوجه، تجنبا لمحذور إلقاء التحية عليه ، لأنها مكروهة إن لم تكن محرمة شرعا ، بحسب ما جاء على لسان ذلك المتطرف !!.وفي سياق تكثيف المشاهد واللقطات المركبة التي اعتمدها المخرج لتنمية الأحداث بصورة تصاعدية، يواصل الفيلم ربط الجريمة الإرهابية بمنطلقاتها الفكرية على نحوٍ ما ورد في واقعة النهي عن مصافحة السياح من أتباع الأديان الأخرى، حيث يبدي أحد "المجاهدين" تبرمًا من الجلوس مع أصدقائه القدامى بعد عودته من سوح ( الجهاد المفترض ) في الخارج ، وإغداقه عليهم بالولائم والهدايا، فيعلن لهم بوضوح أنّه عن عدم استطاعته الجلوس معهم بوجود الصور الفوتوغرافية من خلفه، لأنّها محرمة شرعًا فيقومون على الفور بتمزيقها ، ثم تتصاعد الميلودراما بعد ذلك في مشهد يولد من بطن المشهد السابق، حيث يقوم ذلك ( المجاهد ) العائد بضرب زوجته وتطليقها، لأنّه عندما دخل إلى المنزل وجدها تشدو بأغنية لأيوب طارش، بواسطة جهاز (راديو) لم يسلم من التحطيم في تلك اللحظة التي قام فيها ذلك المجاهد بتطهير نفسه من رجس الموسيقى المحرمة التي دخلت بيته من خلال زوجته !لا يخلو الفيلم من جرأة الاعتماد على الصورة وحدها من دون حوار ، بهدف توفير عنصر التأثير الدرامي . فقد احتوى الفيلم على لقطات مكثفة ومركبة لأحد المجاهدين، وهو يوزع بعض الكتب الفقهية المتشددة ، ويلقن الشباب الضال بعض الأفكار والمفاهيم المتطرفة. وبلغت عملية التكثيف ذروتها بتركيز الكاميرا على حركات صامتة يظهر فيها فم المجاهد وهو يتكلم، وعيناه القاسيتان وهما توزعان نظرات موحية بالرعب يمينًا ويسارًا، تتبعها مباشرة نظرات قاسية من عيون أحد الشباب الضال بعد الانتهاء من قراءة أحد الكتب الفقهية القديمة والتأثر بمحتوياته.. ثمّ تعود اللقطات الصامتة والموحية إلى الحوار الناطق حيث يقدم المجاهد وعدًا للشباب الضال بالزواج حتى يكتمل دينهم، لكن هذا الوعد يصل ذروته التراجيدية بعد أيام من قيام الشباب الذين تمّ استقطابهم بتقديم الولاء بالسمع والطاعة لأمير الجماعة الذي يفاجئهم بعد بضعة أسابيع بأنّه رأى في المنام بعضهم وهم في الجنة متزوجون ببنات الحور.. ثمّ يأمرهم بعد ذلك بتنفيذ عملية جهادية انتحارية ناسفة ضد الكفرة المعتدين ، طالت عند تنفيذها بعض السياح الأجانب والمرشدين اليمنيين، بعد عملية سابقة تمّ فيها اختطاف طفل أحد المجاهدين الذين عادوا إلى أسرهم واندمجوا في حياتهم الأسرية الاعتيادية ، بهدف الضغط عليه ، وإعادته إلى حظيرة جماعة ( الجهاد ) والوفاء بالبيعة التي أداها لأمير تلك الجماعة بالسمع والطاعة !!لقد أدهشتني مهارة المخرج والممثلين والمصورين في استخدام مختلف أدوات التجريب الفني الذي يجمع بين محتوى الصورة وأبعادها المعرفية ، من أجل مقاربة أفضل للفكر الذي يولد الإرهاب واستشراف أعمق لمخاطره على الحياة والإنسان والمجتمع والدولة ، بعد أنْ تتحول الأفكار إلى ماكنة لصناعة الجريمة الإرهابية ويتحول الإنسان الذي يعتنقها إلى مجرم يعتقد أنّ ما يقوم به تقرب لله . وحين يعود الوعي الى بعض الضالين تأخذ الحقيقة بعدًا تراجيديًا آخر تتضاعف فيه الخسارة لتصبح خسرانـًا مبينًا وهو ما حذرنا الله منه في القرآن الكريم.ولئن كان ثمة فرقٌ بين اشكالية الخسارة ومأساوية الخسران المبين، فإنّ المبدعين في فيلم "الرهان الخاسر" نجحوا في مقاربة هذه الإشكالية من خلال مجموعة من المشاهد واللقطات التي جمعت بين الإيحاء الرمزي والاستشراف المعرفي بواسطة السرد السينمائي.. وفي هذه اللقطات والمشاهد تبدي شيماء وهي مرشدة سياحية إعجابها بأسورة السائحة ماريا وتتأملها، فيما تظهر زوجة الإرهابي ناصر بعد أنْ تعرضت للضرب والطلاق ، وهي مصممة على أنْ تعود إلى مرسمها الذي كان زوجها المجاهد يعتبره كفرا وضلالا، لكنها تقارب في مرسمها هذه المرة صورة لزوجها بعد أن طمست وجهه باللون الأسود في تعبير رمزي عميق الدلالة، وفي المقابل يبدو طليقها المجاهد حاملاً مدفعـًا رشاشًا وهو يتحدث إلى زملائه المجاهدين الجدد بأنّ أمير الجماعة اختارهم لعملية جهادية ضد الكفرة المعتدين ، ثم يلقى مصرعه بصورة تراجيدية بالتزامن مع انطلاقة جديدة لزوجته السابقة نحو مزيد من الحياة الأجمل في عالم الفن الرفيع!وتتوالى المشاهد في مقاربات مختلفة يبدو فيها رجل دين معتدل وهو يتحدث بخطابٍ ديني مأخوذ من مذاهب سُنية غير وهابية، حول العلاقة مع الآخر، الى موقوفين من الشباب الضال بحضور ضابط أمن.. ثمّ يظهر في مشهد متقاطع شاب ضال آخر وهو يسمع نشرة الأخبار في التلفزيون اليمني ليصدم بأنّ العملية التي شارك فيها كانت ضد سياح وليس ضد كفرة معتدين، وعندما يعود إلى منزله تصل مأساته قمتها عندما يعلم بأنّ والده الذي يعمل تاجرًا في بيع التحف والمقتنيات السياحية لقي مصرعه على يد ابنه في تلك العملية التي عرض التلفزيون اليمني صورًا مأساوية لضحاياها.في الاتجاه نفسه تذهب شيماء إلى المستشفى لزيارة أحد أقاربها فيلفت نظرها مشهد عربة إسعاف تحمل جريحة مضرجة بدمائها وقد تدلت يدها التي تحمل أسورةً تشبه تلك التي كانت تحملها صديقتها السائحة ماريا ونالت إعجاب شيماء.. وعندما نزعت عنها الغطاء صعقت بأنّ الضحية هي ماريا صديقتها.وفي مشهدٍ آخر عامر لا يخلو من المعاني الرمزية تصحو ماريا السائحة الأجنبية لتجد نفسها جريحة على فراش في مستشفى وإلى جوارها صديقتها اليمنية شيماء ابنة صنعاء القديمة ، فتسأل عما جاء بها الى المستشفى وعن أمها وأبيها.. فيكون الجواب مؤلمًا على لسان شيما التي لم تستطع حبس دموعها.. فأمها جريحة في غرفة مجاورة أما والدها فقد لقي مصرعه في حادثة الاعتداء على السياح.يستمر التصاعد المزدوج للميلودراما والتراجيديا ليكشف مزيدًا من القدرات الرائعة للمبدعين الذين اجترحوا مأثرة إنتاج فيلم رائع على خلفية متواضعة من الخبرات والتجارِب السينمائية في بلدٍ يرتفع فيه صوت المتطرفين الذين يعتبرون الفنون والسينما حرامًا، فيظهر مشهد تراجيدي لأحد الضالين، الذي اكتشف أن أباه كان واحدا من ضحايا عملية إرهابية شارك فيها تحت مسمى الجهاد ضد ( الكفرة المعتدين ) ، الأمر الذي دفعه إلى محاولة قتل أمير الجماعة بعد حوار دراماتيكي طويل معه، وفي اللحظة التي يهم فيها بقتله تقتحم وحدة مكافحة الإرهاب وكر الجماعة المتطرفة لتنقذ أمير الجماعة من موت محتوم على يد ذلك المجاهد الضال الذي سبق له مبايعة أمير الجماعة على السمع والطاعة وليس على القتل ،ويتم إلقاء القبض على الاثنين معًا.. ثمّ تظهر ماريا في مطار صنعاء وهي تودع صديقتها شيماء في مشهدٍ مؤثرٍ تبدو فيه ابنة صنعاء القديمة وهي تسأل ماريا : متى ستعودين؟ .. فتجيبها : لقد كان أبي يحب اليمن ويفكر بتنظيم معرض للصورعن بلدكم في ألمانيا.. وأنا أحب اليمن أيضا.. وسأحقق رغبته.(يتبع في العدد القادم)------------------------------* عن/ صحيفة ( 26 سبتمبر )