من الصعوبة بمكان فصل نزعات العنف عن التعبئة الخاطئة التي روّجت لأفكار متعصبة تـُوهم من يعتنقها بالنجاة من النار والفوز بالبنات الحور في الجنة، وتصف من يخالفها بالضلال والكفر، ثم تربط الانضمام إلى الفرقة الناجية بالسمع والطاعة ونبذ المفارق للجماعة ومجاهدة أهل الرأي والبدع والشرك والضلال!!لا ريب في أن نزوع المتعصب لهذه الأفكار إلى العنف شيء طبيعي ما دامت هذه الأفكار تقوم على يقين مطلق باحتكار الحقيقة ، وتوهم من يؤمنون بها بالحصول على تفويض الهي مطلق أيضاً بحراسة الدين وحماية حقوق الله ومحاربة المخالفين والوساطة بين الله وعباده في الارض !!وحين يندفع المتعصب إلى ناصية العنف لمقاومة أعداء الحقيقة وحراسة الدين في الدنيا ، فهو بالضرورة يتقرب إلى الأفكار التي يتعصب لها، ويجسد من خلالها طاعته المطلقة للجماعة ، وشوقه للجنة التي وعده بها أشباه الأكليروس ، سواء تمّ ذلك من خلال الاغتيالات أو محاولات الاغتيال، أو أعمال العنف التي تستهدف ترويع المخالفين وبث الرعب في قلوبهم !!ولئن أراد المتطرفون الذين تورطوا في ارتكاب بعض الجرائم الإرهابية في العديد من البلدان العربية والإسلامية توصيل رسائل إلى مخالفيهم مكتوبة ً بدماء الضحايا الذين حصدتهم تلك الجرائم الإرهابية ، فقد صاغوا قبل ذلك بأقلامهم وأصواتهم عبر الكتب والمطبوعات والأشرطة الصوتية والمنابر، أفكاراً مهدت لجرائمهم الدموية انطلاقاً من ذات العقلية التي أنتجت ثقافة العنف والتطرف والتعصب، وهي العقلية النقلية الاتباعية التي تعادي العقل ، وتنفر من الجديد وترمي بالكفر أي إبداع خارج عن المألوف ، وتستريب بالمغايرة والمخالفة ، وترفض القبول بالآخر والتعايش معه.تنزع هذه العقلية التقليدية الاتباعية إلى الإقامة الدائمة في الماضي والقياس عليه ، بحيث تبدو حركة التاريخ حلزونية لا تتقدم إلى الأمام ، ولذلك تنطوي هذه العقلية على ثقافة متعصبة للماضي، منغلقة داخل أطر تأويل متحجرة للنصوص الدينية ، لا تنفك أن تتحول إلى تعصب سياسي فئوي أعمى، بعد أن يتم تحويل ذلك التأويل المنغلق إلى ممارسة سياسية دنيوية تدعي حراسة الدين بوسائل الدنيا.يتأسس هذا النزوع على ثقافة قمعية يغذيها خطاب تحريضي يستثير في المتلقي منطقة اللاوعي ، ويستولد منها أفعالاً عنيفة وعصيبة ضد المغايرين والمخالفين . لا يحتاج المرء إلى جهدٍ كبيرٍ كي يكتشف خطورة التغذية العائدة FEED BACK لدى المتلقي المتعصب، حين يصرخ في وجهه داعية تصفوي من منبر المسجد أو عبر شرائط التسجيل بلهجة مشحونة بمفاعيل الإثارة والتهييج، على نحوٍ ما نجده في بعض الأشرطة التي تحمل عناوين مثيرة مثل : "من يبايعنا على الموت"، "وقاتلوهم حتى لا يبقى شبر على وجه الأرض لا يحكمه الإسلام، ولا يبقى إنسان فوق الأرض لا يؤمن بالإسلام، فالمعركة قائمة على هذا الأساس والصراع مستمر لهذا الغرض".. الخ.بيد أنّ خطورة هذه الثقافة لا تكمن في إثارة المشاعر الدينية وتوظيفها لأغراض سياسية وحزبية فقط بل تتجاوز ذلك إلى ما هو أبعد.. فالوسائل التي يتم استخدامها في الترويج للأفكار المتطرفة ونشر ثقافة العنف والتعصب هي الأخرى أكثر خطورة من استخدام الدين لأغراض سياسية وحزبية ودنيوية ضيقة !!!الثابت أنّ ثمة متطرفين وحزبيين متعصبين يستخدمون منابر المساجد التي يؤمها مئات وآلاف المصلين لعبادة الله والتقرب إليه ، ثم يحاولون استغلالها للتأثير على الوجدان الجمعي للمسلمين البسطاء من خلال مؤثرات لغوية وتقنيات خطابية تستخدم فيها الإشارات والحركات المثيرة والأصوات العالية وأحياناً التظاهر بالبكاء.. بمعنى أنّهم يستخدمون المسجد للدعاية لا للدعوة.. والدعاية هنا عملية إعلامية بامتياز.يبدو البُعد الإعلامي واضحاً في آليات الخطاب الناظم لثقافة العنف والتعصب.. فإذ يتحول المسجد من دار عبادةٍ إلى واسطة إعلامية ، يصبح بالضرورة وسيلة دعائية متاحة لنشر هذه الثقافة بصورة مبرمجة إلى جانب وسائط أخرى مثل الرسائل البريدية والنشرات وملصقات الدعاية الانتخابية وشرائط التسجيل الصوتية وشرائط الفيديو وشرائط الأناشيد الدينية والسياسية والانتخابية التحريضية التي تصرخ في وجوه المارة عبر محلات التسجيل وفوق سيارات التاكسي وسيارات النقل الجماعي بمختلف أحجامها، وبواسطة مكبرات الصوت في المدارس والحفلات.. ومن ما شك في أنّ مرشدي الجماعات المتطرفة يمتلكون رصيداً لا ينكر في إضفاء طابع تخييلي وتهييجي في آنٍ واحدٍ على الخطاب الدعائي الذي ينتج ثقافة العنف، وذلك بهدف الحصول على استجابة حماسية من اللاوعي تغيب عنها الرؤية، ويسودها الانفعال الذي يتحول إلى عنف يستولد القمع من رحم ثقافة التطرف!في كتابه الموسوم بعنوان " ضد التعصب " وصف الدكتور جابر عصفور الصلة بين خطاب العنف وممارسات العنف بأنّها الصلة بين السبب والنتيجة في عَلاقة فاعلي ثقافة العنف بالمنفعلين بها .. "فالخطاب الذي يجسد عنف ثقافة تختزل كل ما في الوجود اللانهائي للكون في تأويل ضيق ووحدي للدين لا ترى غيره ولا تقبل سواه من غيرها، بل ترفضه وتمارس عليه قمعها، هو الخطاب الذي يتحول إلى دوافع انفعالية تنتهي إلى أفعال عنف ناتجة عن هذه الدوافع مخرجة إرهاباً قاتلاً".ينطبق هذا التحليل على قاتل جار الله عمر وقاتل الأطباء في جبلة ومفجري المدمرة الأمريكية "كول" والناقلة الفرنسية "ليمبرج" وخاطفي السياح في أبين، ومفجري أنابيب العنف في مأرب، وغيرهم من مرتكبي الأعمال الإرهابية التي اكتوت البلاد بنارها !!وبوسعنا القول إنّ استغلال بيوت الله وتحويلها إلى منابر حزبية لعرض وجهات النظر السياسية وبث الدعاية الانتخابية وتكفير الدولة والجماعات والأفراد، سلوك خطير يتنافى مع الدين والدستور والمصالح الوطنية.إنّ مهمة حماية المساجد من خطر الذين يحاولون توظيفها من أجل تحقيق اهداف حزبية او فئوية او سياسية ، وصولا ً الى تمزيق وحدة المجتمع وتكفير وتخوين القوى السياسية والأفراد ، تطرح على بساط البحث والنقاش ضرورة إغلاق كافة المنافذ التي يتسلل منها المتطرفون والمتاجرون بالدين إلى منابر بيوت الله ، وتنزيه رسالة المسجد وتخليصه من العابثين الذين يجعلون من دور العبادة وسائل دعائية لمصالح بعض الناس ، بدلا من ان تكون اماكن للدعوة الى الله والتقرب منه ، وهو الأمر الذي يستلزم إعلاء وظيفة خطبة الجمعة التي يُعد الاستماع إليها بصمت وخشوع واجباً دينياً لا تقوم الصلاة بدونه.. والله من وراء القصد.[c1]* نقلاً عن/ صحيفة "26سبتمبر"[/c]
|
فكر
المساجد للدعوة لا للدعاية
أخبار متعلقة