عبدالقادر خضر في غيابه الثاني
محمد عمر بحاح عبدالقادر خضر، اسم لا يمكن أن يمحى من ذاكرتنا ولا من ذاكرة عدن بسهولة. وان أية مراجعة لتاريخ الصحافة الفنية لهذه المدينة من المؤكد أن اسم عبدالقادر خضر سيحتل مكانة متميزة بين الأسماء القليلة، وكواحد من وجوه الشاشة الفضية الصغيرة الذي طالما أمتعنا من خلالها بسهراته الفنية الغنائية وغنائيات وفناني الزمن الجميل.عامان مرا على غيابه منذ غادرنا إلى العالم الآخر في 11 ديسمبر 2007م، لكنها كشفت لنا الفراغ الكبير الذي تركه في حياتنا وحياة المدينة التي كان حريصاً على صناعة الفرح في كل بيت من بيوتها عبر إطلالته التلفزيونية من تلفزيون عدن مثيراً الدفء، ومفجراً ينابيع السعادة في مشاهديه، مستحضراً روح الإبداع الموسيقي والطربي لكل ما هو أصيل وجميل من فنون الغناء اليمني من خلال مطربيها وفنانينها الكبار ومن مختلف الأجيال في كل حلقة من حلقات برنامجه وسهراته الفنية التي كان ينتظرها المشاهدون بلهفة ويتلقونها باهتمام واشتياق.من وجهة نظري إن أهمية عبدالقادر خضر لا تكمن في كونه صحافياً أخلص للصحافة الفنية والكتابة الصحافية المكرسة لفن الغناء ولا في كونه مقدم برنامج فني تلفزيوني ناجح فحسب بل في كونه كان يعكس الحضور الجمالي لهذه المدينة ذات الأسبقية الحضارية في نشوء التلفزيون (الثالث في الوطن العربي) وذات الأسبقية في صناعة النجوم على مستوى اليمن والجزيرة والخليج، وعبرها لكل الوطن وخصوصاً حضورها الفني الغنائي بنقله إلى المحيط الشاسع عبر وسيلة إعلامية تدخل كل بيت بدون استئذان.ظهر الخضر في زمن الازدهار الاقتصادي والتجاري لعدن الذي صاحبه نهوض ثقافي وفني وانتشار التعليم الحديث وظهور أنماط غير مألوفة من فن الكتابة مع نشوء الصحافة العدنية كالقصة والمقال والرواية والنقد الأدبي والفني، وصفحات فنية في الصحف اليومية وتحديداً في (فتاة الجزيرة) و (الأيام) قبل ظهور مجلات فنية متخصصة كان للمرحوم عبدالقادر خضر دور في تأسيس واحدة منها هي مجلة (أنغام) ومن بعدها (فنون) التي كان صاحب امتيازها ورئيس تحريرها. وعلى امتداد قرابة نصف قرن رأى وعاش تشكل المدينة بكل إرهاصاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ومنها تشكلت ذاكرته، فحفزته الوقائع التاريخية على اختيار المنطقة التي تميل إليها موهبته وفطرته وتأثره واستعداده فأختار الكتابة الفنية في مجال - الطرب والغناء - الذي له تأثير ساحر على الناس من مختلف طبقاتهم وفئاتهم معتمداً في ذلك على مدينة صانعة للفن ومجددة لفن الغناء في اليمن، وصانعة لنجوم الغناء، أخرجت أسراب المطربين والفنانين على الرغم من مساحتها الصغيرة، واستوعبت ارتال القادمين إليها من المحميات والشمال والأرياف الذين تفاعلوا معها فأعطتهم الشهرة والمجد، ونشرت فن الغناء اليمني على مستوى الجزيرة والخليج.وقد أدرك عبدالقادر خضر أن الفن عموماً، وفن الغناء تحديداً ليس مجرد عامل للترفيه بل حامل حضاري للوجود المجتمعي، واحد المكونات لوجدانه كما أدرك بعين الإعلامي والوعي النقدي بأن مدينته عدن المفتوحة الفضاءات تتحمل عبء القيام والنهوض بهذه الرسالة، وان الفن بصفة خاصة يعمل على تكوين إجماع وجداني في حين تصبح السياسة والأفكار مدعاة للاختلاف والتنازع والتنافر خاصة في أزمنة الاحتقانات السياسية والقمع والاقصاء، فكان قادراً حتى وسط تلك الأزمات والاحتقانات التي شهدتها عدن في العديد من المراحل، أن يجعل من برنامجه الفني عامل ترابط بين الناس، عبر شدهم إلى مشتركهم الوجداني الطرب والغناء، تلك الجاذبية المؤثرة التي تسهم في تشكيل الوجدان الإنساني.وحتى في ظل اختفاء الكثير من مظاهر الحياة الفنية، وموت وغياب عدد من الفنانين والمطربين والعديد من التعقيدات التي أحاطت بالمدينة والناس فيها خلال السنوات الأخيرة وبأهل الفن والطرب فيها، كان بمقدوره الاستمرار في تقديم برنامج فني ساهر وناجح ينثر الفرح في حياتنا وحياة المدينة وفي أي مكان يشاهد منه، ولا يزال الناس يستعيدونه عبر أشرطة “ الفيديو” بعد أن افتقدوا تقديم سهرات فنية بنفس المستوى والنضج أسلوباً وصنعة ما يؤكد على أهميته النوعية والإبداعية.لم يكن عبدالقادر خضر الإعلامي الوحيد لكنه تميز بالصدى الواسع ووصول برنامجه إلى كل بيت لقربه من النبض الفني للمدينة التي ولد فيها وعاش وعاصر مجمل تحولاتها النوعية من الازدهار إلى التراجع لعوامل معروفة وكان هناك دائماً التأثير الوجداني للفن وللغناء الذي يحمل أحلام الناس في حياة حرة كريمة تتوحد مع الأهداف والطموحات العظيمة، ومن هذا كان يغترف ويعد برنامجه ومادته الإعلامية سواء في الصحافة المكتوبة محدودة الانتشار ولا تحقق نفس الهدف بذات السرعة، لكنه ظل مخلصاً ومشدوداً إلى عشقه ومعشوقته الأولى الصحافة لأنها القادرة على القيام بوظيفة شاسعة وعميقة الأهمية ذات تأثير يمتد من الحاضر إلى المستقبل. لهذا كان حريصاً على الكتابة للصحف وعلى إصدار مجلته الخفيفة رغم إمكانياته المادية المحدودة.كتابات عبدالقادر خضر البسيطة والخالية من التعقيدات والمصطلحات، وكلامه المباشر غير المصطنع في سهراته وحواراته مع أهل الفن والطرب كانت تتوسل لغة إعلامية، أكانت مكتوبة أو مسموعة، لا تترفع على القارئ أو المشاهد بل تصل إليهما بسهولة ويسر، وتحفظ للمدينة والناس فنهما الغنائي.. فكان جزءاً من الذاكرة التاريخية الفنية لهذه المدينة ولسائر الوطن.في هذه اللحظة نفتقد عبدالقادر خضر الإعلامي والصحافي والصديق، بعد أن صار في المكان الذي سنصير إليه جميعاً وسيصير إليه الكون والموجودات، لكننا سنتذكر أن المشهد الذي كان يبثه فينا.. مشهد الفرح وإعطاء الحياة قيمة تفاؤلية ستبقى، وسيبث فينا قوة معنوية لميلاد جديد لهذه المدينة التي أحبها ونحبها بعمق. هذه المدينة المائية لا تموت.. وهذه اللحظة ليست سوى لحظة عابرة.. أنها مدينة أسطورية... فينيقية! وهذا هو سرها يبوح به التاريخ لمن يريد أن يقرأ ويستوعب، ففي كل مرة يعتقدون أنها ماتت تنهض من بين الرماد وتنتفض مثل البراكين، وتعيد عمارتها بعنفوان الأفكار الجديدة والحداثة العصرية. أنها مدينة للإبداع وتفتح القدرات الإبداعية بما تملكه من ثراء مادي ومعنوي، ومن قدرة على صنع الجديد مما لا تملكه أية مدينة يمنية أخرى.. وهذه مسألة لها علاقة بعبقرية المكان المقرون بفاعلية إنسانية إبداعية تتكامل معها لصنع شكل حضاري متقدم على كافة المستويات، ولم يكن عبدالقادر خضر سوى ابن مخلص لها وجزء من ذاكرتها التاريخية الفنية وأحد أبنائها المبدعين الذين قدروا على صنع الفرح في حياتنا لنرمم بها ثغرات الكآبة والحزن في عراء وجودنا حتى لا تتحجر قلوبنا أو يصيبها الكلل.