في الثانية التاسعة من الدقيقة التاسعة من الساعة التاسعة من اليوم التاسع من الشهر التاسع من العام التاسع في الألفية الجديدة، أغلقت أبواب القطار الذي بدا كآلة الزمن التي كنا نشاهدها في الأفلام ونقرأ عنها في القصص. إلا أن آلة الزمن هذه مختلفة عن سابقاتها، فهي تأخذك إلى المستقبل ولا شأن لها بالماضي. انطلق مترو دبي على سكة حديدية تدلّى منها أربعة آلاف عمود كأنّها عناقيد عنب تدلّت من كروم يانعة.عندما انطلق المترو يسبر أغوار سكّة حديد تعد الأطول في العالم، كان الجميع ينظر إلى الخارج، وكأنّهم يتساءلون في أنفسهم: «هل نحن حقّاً في بلد عربي!». لقد أتت تلك اللحظات الحاسمة في تاريخ دبي لتجسّد رؤية متكاملة لمجتمع حضاري، يحمل قيماً عربية إلى عالم مليء بالحروب والاضطرابات، بل إن الغريب في الأمر أن عربات المترو الأولى أقلّت أناساً من معظم تلك الشعوب المتناحرة، التي رمت كل خلافاتها وراء ظهورها لتستقل قطار المستقبل من دبي. لقد جاء مترو دبي كنتيجة طبيعية وإن كانت عملاقة، لدورة الحضارة التي بدأت في مدينتنا قبل ثلاثين عاماً عندما انطلق ميناء جبل علي الذي كان أولى محطات النهضة في دبي. جاء المترو كضرورة ملحّة من ضرورات الاقتصاد الذي لا يشكّل النفط إلا 3% منه، وربّما لو كانت دبي تعوم على بحر من النفط لما وُجِدَ المترو، والحكومة الالكترونية، وبرامج القادة، ومدينة دبي للإعلام، وغير ذلك من المشاريع التي تنأى بنفسها عن نمطية المشاريع العربية. لا تكمن روعة هذا الإنجاز في كمية الإسمنت والحديد أو مدى تقدّم التكنولوجيا المستخدمة فيه، ولكنها تكمن في وصول دبي إلى مصاف المدن العالمية بشكل عملي، لدرجة أنها وصلت إلى حاجة إيجاد شبكة عملاقة للنقل الجماعي التي تعد من أولويّات أي مدينة تريد أن يعرفها الجميع باسمها دون الحاجة إلى الإشارة شرقاً أو غرباً. سألت صديقي الذي يدير مترو سنغافورة عن مترو دبي فقال لي: «دبي تنافسنا في كل شيء، ولكن لم نكن نتصور أن تتفوق علينا في بناء المترو الذي استغرقنا سنيناً طويلة لإنجازه. يا صديقي، لقد آن الأوان لكي نرسل شبابنا السنغافوريين ليتعلموا من دبي، فيبدو أننا لم نتفوق عليكم في كل شيء». لقد بُني مترو دبي بمعدات يابانية، ويدار اليوم بتقنيات غربية، إلا أن سواعد أبناء الإمارات وعقولهم كانت حاضرة في كل تفاصيل المشروع، واليوم، تبلغ نسبة التوطين في هذا المشروع الجديد كلياً على المنطقة 50 % من نسبة العاملين، حيث وعدت هيئة الطرق والمواصلات بدبي بتأهيل المزيد من المواطنين ليديروا المشروع بالكامل في المستقبل. في دبي لا يتحدث الناس في السياسة، ليس لأنهم يخافون الخوض فيها، ولكن لأنهم تحرروا من أسرها خلافاً لكثير من المجتمعات العربية. ادخل أي مجلس أو مكان عمل، وأنصت جيداً وستسمع حديثاً عن دورات إدارية في جامعة ما، أو تكنولوجيا جديدة في مجال التصوير، أو إنجازاً جديداً لدائرة حكومية. وغير ذلك من مواضيع تهم الإنسان «الجديد» الذي لا يريد أن يضيع عمره سدى وهو يتابع الأزمات السياسية في الشرق والغرب، أو يهدر وقته في متابعة البرامج التلفزيونية التي فُرغت من محتواها الفكري لتمتلئ بجدالات طائفية أو عرقية أو سياسية لا طائل منها إلا توسيع الفجوة بين المسلم وأخيه المسلم أو العربي وأخيه العربي. في دبي على الرغم من تعدد الأديان والمذاهب، إلا أنك لا تجد خلافاً مذهبياً ولا يمكن أن تسمع أحداً يسأل عن دين فلان أو عرقه أو قبيلته، فعمل المرء هو المقياس الأهم وهو «ثيرمومتر» مكانته في المجتمع. إن همّ تطوير الذات الذي يسكن غالبية الشباب من الجنسين في هذه الإمارة الصغيرة مكاناً والكبيرة مكانة لم يأت من فراغ، فقد تشكّل من خلال ثقافة رسّخها مجتمع يتنافس بشدّة مع العالم أجمع ليثبت أن العرب قادرون، حتى وهم يسكنون أكثرة البؤر السياسية توتراً في العالم، أن يقدّموا أنموذجاً يحتذى به. فلم تعد ربطات العنق تبهرنا في دبي، بل أصبحنا نبتكر ونبدع في حقول التكنولوجيا والاقتصاد والإعلام، حتى نقلنا هذه التجارب إلى أشقائنا العرب. نعترف بوجود أخطاء خلال مسيرة التنمية هذه، ولكنها أخطاء لم توقفنا عن سعينا للتغلب على المستحيل، وكما تقول الحكمة، فإن الشخص الذي لا يخطئ هو الشخص الذي لا يفعل شيئاً. لقد أصبحنا في دبي أكثر ثقة بأنفسنا وبقدراتنا، وأصبح الخجل قيمة رثّة لفظناها كما لفظنا قيماً بالية غيرها. في دبي لا تجد من (يهّشّ) على الناس في المراكز التجارية كما يهشّ الراعي على غنمه، بل وضعنا لوحات إرشادية على مداخل المراكز لتوعية الأجانب بالتصرفات غير اللائقة التي لا تتناسب مع ديننا وقيمنا العربية. وكانت المفاجأة، كما يحكي لي أحد مديري المراكز التجارية، أن المراكز تلقّت رسائل شكر من أجانب لم يكونون يعلموا بهذه القيم، بل إن بعض هؤلاء انخرط في دورات تدريبية لمدة ثلاثة أيام ليتعلموا القيم الإسلامية والعربية لكي لا يجرحوا سكّان المدينة بتصرف غير لائق. لم نستخدم السياسة والدين في دبي لفرض حجر «غير صحّي» على العقول والأفكار النيّرة، ولم نجيرهما لترهيب الناس بتهمة خيانة الوطن وبجهنم وعذاب الآخرة، كلّما فعلوا فعلاً يخالف رأينا الذي نعتقد بأنّه هو فقط الصواب. بل إن للدين مكانة مقدّسة عندنا، ولكتاب الله العزيز المكانة الأرفع حيث نحتفي به في كل رمضان بجائزة هي الأكبر في العالم، أما السياسة فإنها لدى بعضنا ثقافة عامة، ولدى بعضنا الآخر عِلْم لا يضرّ ولا ينفع. في شرق المترو تستخدم السياسة لخدمة مصالح فئات معيّنة تصطنع أعداء لها في المنطقة والعالم لكي تبقي المجتمع في خوف دائم من صواريخ العدو المجهول، الذي أصبح أكثر سخافة من فزّاعة الحقول. وفي غرب المترو يستخدم الدين لفرض طوق أمني وإحكام قبضة جهات بعينها على المجتمع الذي يروّع كل ساعة بدخول النار إن هو تجرأ وفكّر بالخروج عن ذلك الطوق، حتى وإن كان خروجه من باب الفضول وليس من باب التمرّد. أمّا في دبي فإن عربات المترو ستفتح أبوابها كل يوم مع إشراقة الشمس، لتستقبل كل من يؤمن بأن الدين والسياسة وُجدا لمصلحة الإنسان وليس العكس. عن/ صحيفة «البيان» الإماراتية
|
اتجاهات
مترو دبي بين الدين والسياسة
أخبار متعلقة