د. يحيى قاسم سهلمَن مِن أهل القانون لم يسمع بالسنهوري أو يقرأ له ولو جزءاً يسير من المكتبة القانونية التي تركها والتي تبدأ بأول كتاباً كتبه في عام 1925م بعد نيل الدكتوراه من فرنسا وآخر كتاب أو بحث كتبه في أواخر 1969م عندما توقفت يده عن الكتابة بسبب مرضه الذي أدى إلى وفاته عام 1971م.إن عبقرية السنهوري التي أنارت الطريق أمام الباحثين الذين يغوضون كل يوم في محيطه، تتحلى بوضوح في مكانته التي لن تمحى من ذاكرة الأمة بوصفه مشرع تقنياتنا المدنية العربية.ويكشف كتاب " السنهوري من خلال أوراقه الشخصية " الذي قدمته للقراء ابنته الوحيدة د. نادية السنهوري وزوجها د. توفيق الشاوي ( شخصية هذا الرجل الفذ العملاق، كما يكشف جوانب من تفكيره وخلقه وخواطره لم يتيح لغيره أن يطلع عليها أو أن يعرفها، بوصفها " مذكرات شخصية " أي أنه كتبها لنفسه لا للناس، بمعنى أنها حديث مع نفسه هو لا مع الناس لذلك فهي تمتاز بأنها أقرب إلى الصدق، لأن المرء لا يكذب على نفسه عادة ).لذلك ترددت أسرته - كما يرد في المقدمة - في نشر هذه المذكرات، لذلك جاء نشرها مؤرخاً حيث نشرت أول مرة عام 1988م عن دار الزهراء العربي ثم نشرتها دار الشروق في طبعة ثانية عام 2005م.وقد أعطى الطابع الشخصي لمذكرات السنهوري قيمة أكبر في التعريف بشخصيته ورسم أبعاد تفكيره وطموحه. وهذا الطابع الشخصي هو الذي حدد نوعية الآراء والأفكار التي سجلها، فهو لا يستعرض ما يراه من وقائع وأحداث، ولا ما يعاصره من تطورات بقصد تسجيلها أو التعليق عليها أو إبراز دوره فيها - وإنما يكتفي بما يشغل قلبه وفكره من آمال وتأملات وآراء - وهذه الخواطر والآراء ليست أشتاتاً متفرقة، بل إنها منذ بداية المذكرات إلى نهايتها تدور حول نقاط ثابتة راسخة واضحة هي تعلقه بانتمائه الإسلامي وتعظيمه للعمل الوطني ورغبته في العمل الجدي للنهوض بالفرد والمجتمع في مصر وتوحيد العالم الإسلامي والعربي. إضافة إلى تأملات فلسفية وأدبية ( خواطر في اللغة والشعر والأدب والأخلاق والفلسفة والمجتمع والتربية ) وقد شهد بأهمية كتاب الأوراق الشخصية للسنهوري كثير من الباحثين نذكر منهم المرحوم الدكتور زكي عبد البر والأستاذ الدكتور محمد عمارة والدكتور عثمان حسين عبدالله، الذين ألفوا كتباً عن السنهوري رائد الوطنية والفقه المقارن.كثيرون يعرفون ما قام به " السنهوري " في حياته العملية بعد عودته إلى مصر، ويعرفون أنه تقلب في وظائف التدريس في الجامعة والقضاء بالمحاكم المختلطة وقام بجهود جبارة في سبيل تعديل القوانين وتقنينها وإنشاء معهد الدراسات العربية العالية، ليكون إطاراً للدراسات المقارنة بين الشريعة والقوانين العصرية من أجل النهوض بفقه الشريعة وجعلها مصدر التشريعات الوضعية، فضلاً عما قام به في وزارة العدل وما قام به في وزارة المعارف عندما تولى أمرها عدة مرات وكيلاً دائماً ثم وزيراً لها، ومساهمته في نهضة اللغة العربية عضواً في مجتمع اللغة العربية.وميزة هذه المذكرات أنها تقدم للقارئ الفقرات التي كتبها في مذكراته وهو طالب في فرنسا والتي تدل على أنه رسم لنفسه بكل دقة ووضوح خطة العمل في جميع هذه المجالات قبل أن يبدأ حياته العملية.وتقول ابنته الوحيدة نادية : ( لم أكن أعلم أن الله قد رزقه بهذا الولد ( كان السنهوري يتمنى أن يكون له ولداً إلى جانب نادية ) إلا بعد أن أطلعت على هذه المذكرات فوجدته قد ذكرني للمرة الثانية، وذكر معنى أن الله رزقه ابناً ليس كغيره من الأبناء).هذا هو ما كتبه شعراً بتاريخ 15 / 11 / 1948م حيث قال :خلفت بنتاً في حياتي[c1] *** [/c]ثم خلفت الولدفالبنت (نادية) أتتنـــي[c1] *** [/c]بعد يأس وكدوإذا سألت عن الوليد[c1] *** [/c]أباه لم يعوزك ردولدي هو "القانون" لم[c1] *** [/c]أرزقه إلا بعد جهدويظهر من هذه المذكرة أن الولد الذي تبناه (بحسب ابنته نادية ) هو القانون المدني المصري الذي اشتغل في مراجعته خلال لجان متعددة منذ عام 1937م وقد أشر إليه في مذكراته بتاريخ 12 من شهر أغسطس عام 1949م ببيتين من الشعر هما :إني ختمت بذلك القانون عهداً[c1] *** [/c]قد مضى وبدأت عهداوأقمت للوطن العزيز[c1] *** [/c]مفاخراً وبنيت مجداًولكن أسرة السنهوري اتسعت كثيراً، لأنه سينضم إلى أولاده بالتبني : القانون المدني العراقي والسوري والكويتي والليبي..ونورد هنا ما ذكره الأستاذ ضياء شيت خطاب الرئيس السابق لمحكمة النقض بالعراق وصديق السنهوري " ولد الفقيد في أغسطس سنة 1895م في الإسكندرية وأدخل مدرسة راتب باشا الابتدائية، ثم مدرسة العباسية الثانوية، فتخرج فيها سنة 1913م وكان ترتيبه الثاني على جميع طلاب القطر المصري. ثم انتقل من الإسكندرية إلى القاهرة ودخل مدرسة الحقوق سنة 1913م وتوظف في مراقبة الحسابات في وزارة المالية. واستمر على دراسة الحقوق، فحصل على شهادة الليسانس في الحقوق سنة 1917م وكان الأول على جميع الطلاب - وكانت الدراسة في ذلك الحين باللغة الانجليزية.وقد عين فور تخرجه وكيلاً للنائب العام في المنصورة سنة 1917م وبقي في منصبه إلى أن نشبت ثورة سنة 1919م فلم تجل وظيفته القضائية دون الاشتراك في الثورة، فقد دعا إلى إضراب الموظفين ونجح فيه، وتزعم الإضراب وانضم إلى الحركة الوفدية برئاسة المرحوم " سعد زغلول " فنقل إلى أسيوط.. ذلك ما خطه قلم صديقه العراقي الأستاذ ضياء شيت خطاب ( صفحة 31 من الكتاب ) ويتضمن كتاب (السنهوري من خلال أوراقه الشخصية ) 455 مذكرة مع تاريخ كتابتها ومكانه وعنوانها، كتبت في حوالي 335 صفحة.وإلى جانب جهود السنهوري العظيمة والجليلة تذكر المذكرات انتدابه إلى العراق لعمادة كلية الحقوق للسنة الدراسية 1935 - 1936م وهو الذي شرع نظام الكلية رقم 8 لسنة 1936م إلى جانب تشريعه لمشروع القانون المدني العراقي إلى جانب أساتذة عراقيين في عام 1943م...الخ. وقد قيلت كلمات تمجيد كثيرة وألفت الكتب والبحوث عن سيرة هذا الرجل الجليل، وحزن لفقده رجال القانون في العالم أجمع. فقد كان قانونياً بارعاً، وفقيهاً مجتهداً، ومشرعاً فذاً، وقاضياً لامعاً. وأستاذاً جامعياً، وكان إلى جانب ذلك، صاحب عقل علمي إذا عالج موضوعاً حقق ودقق، واستقرى واستقصى, ورتب وبّوب ثم ذكر الرأي مشفوعاً بدليله.
|
ثقافة
السنهوري من خلال أوراقه الشخصية
أخبار متعلقة