ساعات يخيل إليّ أننا لسنا في الألفية الميلادية الثالثة، وأننا ما برحنا نراوح في عصر الجاهلية والعياذ بالله!مع أن حجاج بيت الله الحرام عادوا لتوهم من الأراضي المقدسة، وقبلها صاموا شهر رمضان، وبلاد المسلمين عامرة بالمساجد، والمساجد مزدحمة بالمسلمين!أقول ذلك لأن العديد من المشايخ الوعاظ والدعاة الذين يطلون على عبادالله المسلمين، ويخاطبون المشاهدين وكأنهم في سنة أولى إسلام! وبعضهم يخاطب المتلقين المسلمين كما لو أنهم يعيشون في عصر الجاهلية الثانية! فتجد أن الفتاوى تنهال علينا بمناسبة ومن دونها! وصرنا نلاحظ أن كل فعل وحركة وممارسة يقوم بها الإنسان باتت تحتاج إلى فتوى ورخصة شرعية، وتصريح فقهي لكي يتمكن المرء المسلم من ممارسة حياته اليومية، بمنأى عن غواية الشيطان وما يتمخض عنها من خطأ وخطيئة! أقول ذلك كله ثانية بمناسبة الفتوى التي أدلى بها فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي، التي أجاز فيها تهنئة أخواننا المسيحيين بعيدي الميلاد ورأس السنة الميلادية! فهل بعد أن عرفنا ونحن تلاميذ في المدرسة، أن رسولنا صلى الله عليه وسلم وقف حين مرت عليه جنازة يهودي، واعترض أحد الصحابة على المسلك الحضاري الإسلامي على ما قام به الرسول لتوه، ولم يأبه لمعارضته، بل ألجمه برد دال على سماحة الإسلام، واحتفائه بالإنسان. ومع ذلك مازلنا نطالب بفتوى تجيز لنا مصافحة أتباع الديانات السماوية، وتهنئتهم بأعيادهم. في العادة يبرر المفتون فتاواهم، التي تدس أنفها في كل صغيرة وكبيرة، بدعوى أنها رد على تساؤلات عامة المسلمين! ولا أذكر مرة واحدة أجاب بها المفتي السائل برد سؤاله لعدم الاختصاص، كما يفعل بعض القضاة تجاه بعض القضايا! والحق أن الفتاوى صار لها سوق، وتحولت هي بدورها إلى «بزنس» وتجارة رابحة لن تبور! فثمة فقهاء ووعاظ ودعاة يتاجرون في سوق الفتاوى عبر التلفون النقال «الموبايل» مطوعين تقنية الاتصال الحديثة «لبزنس» الفتاوى التي يبيعونها للسائلين. وهذه الخدمة الافتائية مستمرة على مدار الـ 24 ساعة. وقد رأيت اعلانات «بزنس» الفتاوى بأم عيني منشورة ببعض الصحف اليومية المصرية، يروَّج لها مثل أي سلعة تجارية! وصار لكل قناة فضائية مفتي خاص يبث فتاواه «حصرياً» في هذه القناة من دون غيرها! وبات دعاة التلفزيون ينافسون الفنانين والرياضيين في نجوميتهم وشهرتهم وثرواتهم.. اللهم زد وبارك! والبلية أن أصحاب هذه الفتاوى يتناسون أن الأصل في الأشياء هو الحلال... بمعنى أن الحلال هو القاعدة، والحرام هو الاستثناء، لكن سوق الفتاوى المربحة قلبت القاعدة الفقهية رأسا على عقب؛ لاشغال عامة المسلمين في السؤال عن صواغر الأمور الهامشية التي تتواتر ليلاً ونهاراً طوال العام ولا داعي لذكرها لأنها معروفة!والبلية أن مهمة الافتاء لم تعد محصورة ومقصورة على المشايخ الفقهاء المؤهلين لأداء هذه المهمة، بل إنها أصبحت مشرّعة لكل من اعتمر عمامة أو كوفيه، وارتدى زي المشايخ حيناً، وزي «الأفندية» المتبدى في البذلة والبنطلون حينا آخر، بحيث يكون لكل مقام وفضاء وجمهور الزي الملائم لتسويق الفتوى وترويجها بين الزبائن الشباب العصري الذي يروق له رؤية المفتي بـ «نيولوك» يدغدغ مشاعر الشباب، ويُرغّبهم في الطلعة البهية لحضرة المفتي النجم كما يفعل الشيخ خالد الجندي الذي يخلع «الجبة والقفطان والعمامة» في برنامج حواري بمحطة تلفزيون فضائية عربية، حيث يتولى مهمة الرد على أسئلة المشاهدين.اما في البرامج الدينية التلفزية: فإنه يخلع بذلته الفرنجية ويعود إلى زيه الأزهري! ولا اعتراض لدى على مسألة تذبذبه بين ارتداء الزي المدني وبين عودته لزيه الديني الرسمي، لأن الرزق يحب الابتكار ويستوجب الماكياج والتزويق وكل الممارسات التي تستوجبها الشهرة والنجومية! ولعله يرتدي الجلابية حين يتولى الافتاء عبر التلفون والرسائل النصية! ولا بأس على السائلين من ارتدائه الجلابية أو البيجاما، ما دامت مهمته تتم عبر الموبايل والتليفون الأرضي الثابت، أي من وراء حجاب يستره عن المتلقين السائلين! والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق هو: لمَ هذا الاقبال الشديد على الفتاوى «الديجيتال» التي يطرحها السائلون كل ليلة وكل يوم، بشأن صغائر الأمور غير عابئين بالمال، الذي يسفحونه على فتاوى أغلبها هامشية؟ اعترف بأن الجواب ليس بحوزتي، وليس من شأني، ربما لأنه يحتاج الى ورشة عمل تسبر أغوار الفتاوى، وتحلل مضمونها علّها تعرف أسباب ومبررات هذا التزاحم على الفتاوى والمفتين. أقول ذلك لأننا- نحن الجيل المخضرم- كنا نلجأ إلى مدرس الدين لنسأله عن أمور ديننا، وما يضطرب في وجداننا من علامات الاستفهام والتعجب. وهكذا تعلمنا في المدارس كل ما يهمنا، ويتوجب علينا فهمه من أمور ديننا الحنيف. وكان المعلم يتسم بالسماحة وسعة الصدر، فضلاً عن أنه فقيه في الدين بامتياز مثل الأستاذ «نجىَّ الله الطنطاوي» والشيخ «محمد أحمد فتيح» رحمهما الله، وجعل صبرهما المعجز على شيطنة عيال حي «المرقاب» في ميزان حسناتهما! وبينما يأتينا الشيخ «القرضاوي» بفتوى إباحة تهنئة إخواننا النصارى. كان الشيخ «فتيح» الأزهري النوراني المستنير يطلب منا في درس «الانشاء» والتعبير صياغة خاطرة تعبر عن مشاعرنا بذكرى ميلاد المسيح عليه السلام، وكانت العادة- مطلع الخمسينيات- أن يكون مدرس الدين هو نفسه معلم اللغة العربية، وأذكر أن مولانا فضيلة الشيخ «فتيح» كلف العبدلله صياغة «افتتاحية» لمجلة أسرة طارق في مدرسة صلاح الدين المتوسطة، حول ميلاد المسيح، وتأثيره على العالم. وأذكر أنه زودني بفقرات مشتقة من الإنجيل لتكون محور الخاطرة المقالة. ولا أذكر الآن ما سطرته، لكن ما زال يسكن وجداني تلك العبارة الإنجيلية: (المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وبالناس المسرة)... فإذا كانت هذه الروح السمحة تظلل فضاء كويت الخمسينيات، فكيف يأتي إلينا اليوم الفقيه التلفزيوني إياه، ويفتح الله سبحانه عليه بفتوى تجيز للمسلمين تهنئة أخوانهم في الله، وفي التوحيد وغيرهما، بعيد الميلاد ورأس السنة الميلادية؟! زد على ذلك كله- إن أردت- فقد حرص سيدي الوالد، رحمه الله، على دعوة أطباء وطبيبات المستشفى الأميركي إلى المنزل لتناول فطور عيد الميلاد، أو عشائه، حسب الظروف.وهذه الواقعة أحسبها تجسد مناخ التسامح الذي كان يسكن بيوت وقلوب كويت بيوت الطين! حسبنا أن مفتي الكويت آنذاك هو فضيلة الشيخ المستنير الفقيه «يوسف القناعي»... وباتت أمور الفتوى اليوم موزعة بين القطاعين العام الذي تمثله وزارة الأوقاف، والخاص المشرّع لكل من هب ودب! وهو ما يفسر شيوع «الفوضى الخلاقة» في سوق الفتاوى إياها.على كل حال نشكر الشيخ «القرضاوي» على فتواه، فلا أحد يرغب في دخول النار بسبب تحية أو تهنئة عابرة.[c1]*عن / صحيفة «الجريدة» الكويتية[/c]
تهنئة المسيحيين وفتوى القرضاوي
أخبار متعلقة