الصحفي أحمد الشيخ
حول حوار الاستشراق يطرح الصحفي الأستاذ احمد الشيخ تساؤلات تصب إجاباتها في أكثر من رؤية منها يهدف إلى معرفة التاريخ كأسباب وعوامل مساعدة في تحرير الجهد العلمي من الحكم السياسي ومنها ما يدفع إلى قراءة الحدث في إطار زمنه المنجز الذي تكونت فيه المعرفة بين الشرق والغرب. وكتابات احمد الشيخ الصحفية في هذا الجانب جعلت الحوار اسلوباً قائماً على معرفة الآخر عن طريق المباشرة في الحديث بعيداً عن نقل النصوص كحالة استشهاد مرجعية تدعم وجهة نظر العقل الغربي عندما يخاطب الشرق وسعت إلى النظر في الزوايا الخلفية لعقليات غربية حيناً تضع علاقات الشرق بالغرب على حدود الصدام وحيناً ترى بأن الحوار هو الأستاذية التي علينا أن نستند إليها في التعامل مع ما يختلف عن الغير. لان حدود المعرفة تتسع كلما عرفنا أن الثقافة هي الهوية والانتماء ، أما درجات التصادم بين الأفكار فقد عززت من الرغبة في قمع طرف على حساب صعود الآخر وذلك ما اوجد حالة رفض في الرؤية عند كليهما. يعبر احمد الشيخ - عبر أعماله - عن إصرار واضح من اجل الاستقلال بعيداً عن تيارات التغريب والحداثة بالرغم من طول إقامته في فرنسا مع مواكبتة لتطورات الحياة الثقافية في عواصم الغرب الكبرى التي ما زالت حتى اليوم ساحات للإنتاج المعرفي ومرتكزاً لحوار الحضارات والشعوب وفي زمن عولمة هذا الصدام تطرح الكلمة كرهان على قيمة المعرفة في حياة الأمم وعدم نبذ مفردات الأخر، بل تسعى إلى جعل قيادة العقل المعرفي السبيل الأفضل للخروج من نفق الانفراد بالرأي وصنع الرؤية قبل التعرف على من يقف أمامك وهو من خلال حواره النقدي يهدف إلى وضع بعض الأسس في هذه الصلة بعيداً عن هيمنة السياسي الذي ينطلق من موقع المحارب قبل أن يتحرك بصفة الباحث عن الحقيقة. في كتابة “ حوار الاستشراق” الذي يناقش فيه مجموعة من أهل الفكر الفرنسي ، يحاور الدكتور فرانسوا بورجا صاحب مؤلف(الإسلام السياسي) وكتاب ( الحركة الإسلامية وجهاً لوجه) ويقدم لنا الكاتب احمد الشيخ رؤية غربية لنوعية العلاقة بين الشرق والغرب ولكنها رؤية لا تخرج عن مشروع تسعى العقلية الغربية لطرحه من منطلق أن المصالح مهما تقاربت تظل هناك مسافات وحدود يجب الوقوف عندها، لان الغرب هو من يمتلك مستوى أعلى من الإنتاج المعرفي. يقول الدكتور فرانسوا بورجا: ( اعتقد أن احد المصادر الرئيسية لهذا ( العمى) الغربي عن إدراك أبعاد الفعالية السياسية في العالم العربي اليوم يكمن في أن القوى السياسية الفاعلة في هذا العالم العربي غير موجودة - بالنسبة إلينا - إلا بمقدار قدرتها على أن تقول لنا ما نريد أن نسمعه والنتيجة المنطقية لهذه الحالة أنه لا يمكننا التواصل إلا مع شريحة صغيرة هامشية من المجتمع السياسي والثقافي العربي. تلك الشريحة التي تريحنا وتسمعنا ما نريد سماعه وتعمق أكثر فأكثر صعوبات إدراكنا للواقع العربي والإسلامي في جوانبه المختلفة. تلك هي بعض أسباب التغييب وعوامل التقاطع فالقوى التي يقع عليها الحضور- فكرياً وثقافياً وحضارياً - عند الأخر منزوية بل وغارقة في الأزمات الداخلية وربما أبعدت عمداً عن صور المواجهة مع الغرب، حتى تظل الساحة مفرغة من نظرة الطرف المخالف ولا يبقى من صوت غير ما يحب أن يسمعه الغرب من الشرق. تبقى حالة محدودة من الاتصال مع الغرب وهي تلك الشريحة الصغيرة من المجتمع العربي الذي يحاول عبرها خلق لغة تحاور مع العالم الغربي. ولكن تخاطبها مع الغرب لا يكون إلا من خلال إعادة إنتاج أساليبه وافكاره وتصوراته تجاه الشرق ، وبذلك نكون قد أعدنا إنتاج الاستشراق من خلال التخيل الذي يدفعنا إلى الاعتقاد بأن لنا رؤية مطابقة لرؤية الغرب. وفي هذا نصل إلى مستوى من الفكر والثقافة يجعلنا في مصاف حضارة الغرب.!!غير أن التعمق في هذا الجانب يكشف عن أزمة في هذا الاتجاه في عقلية الشرق. لان عملية إعادة إنتاج التصور بأسلوب وطرق غربية هو حالة عجز في قلب ثقافة الشرق لمحاولة خلق مساحة من الحضور لها عند الآخر من خلال ادوات إنتاجه المعرفية. وهي وضعية نسعى عبرها إلى الإعلان عن تقدمنا في هذا الخصوص ، غير أن الغرب يدرك أن هذا النوع من الثقافة هو صدى لما افرزه عبر مراحله في إطار شروطه التاريخية وعوامله الذاتية المختلفة عن مسارات الشرق ومما تنتجه هذه الطريقة احتجاب النظرة الصحيحة للشرق عن الغرب وهذا ما يدخلنا في مسببات القصور والرأي المغلوط بل ترفع حدة التصادم والنفي الذي يعارض وجود من يختلف معه. وهذه الرؤية من الباحث الفرنسي بورجا تدل على أن عناصر الاتصال مع الغرب ما زالت خاضعة لمراكز صناعة قراراته الثقافية وكذلك ضعف العالم العربي في تسويق المعرفة عنه في الغرب وانحصار ذلك في دوائر العمل السياسي للدولة أما محاولة تقديم اكبر قدر من المعارف عن مدى إسهام عقلية الشرق في هذا الاتصال الحضاري فلا يوجد لها من حضور وهذا ما يعمق أزمة الصراعات بين من يسيطر ومن يحدد الاتجاه. يطرح الكاتب احمد الشيخ سؤاله على المستشرق الفرنسي جاك بيرك قائلاً: “ أعود إلى السؤال عن أسباب الاهتمام بدراسة الشرق من جانبكم ومن جانب المستشرقين بصورة عامة”.بيرك : “ عندما اسمع بعض العرب من الذين ينتقدون الاستشراق يقولون إن الشرقي فقط هو الذي يملك الحق والإمكانية لدراسة الشرق فأنني اشعر بأسف . هل نقول نحن إن الفرنسي فقط هو الذي ينبغي أن يدرس ديكارت ؟! ثانياً لقد ولدت في بلاد المغرب العربي وعشت فيه عشرين عاماً من عمري واستقرت عائلتي أكثر من 100 سنة بمدينة “ فرندة” الجزائرية وعشت في قرية بالدلتا المصرية وفي “ بكفيا” بلبنان والعالم بأسره كما تعلم ينقسم إلى دوائر حضارية وهكذا نتحدث عن أمريكا اللاتينية و أوروبا الغربية الخ .. ومفاهيم ( الشرق) و( الشرق الأوسط) و( الشرق القريب) هي استخدامات تقليدية . ما الذي يهمنا فيها؟ وما الذي نبحث عنه فيها؟ هو أمر طبيعي في ما يتعلق بالأوروبيين طالما أنها منطقة قريبة جداً ومرتبطة بكثير من المصالح والصراعات بخلاف القراءات الثقافية ودعني اذكر بالآية القرآنية : “ وجعلنا كم شعوباً وقبائل لتعارفوا “ فهل أنت ضد هذا !”؟. ما بين التساؤل والإجابة، يعاد طرح المفاهيم والأفكار. بمعنى أنه لا يمكن حصر المعرفة في ذاتية التاريخ الواحد (الأنا) وهي التي تشكل حالة انطلاق نحو أفق عالمي، فالإنسانية والحضارات تخلق الإبداع الثقافي وهذا لا تتكون مقوماته خارج دائرة المعارف البشرية.ومن هنا يكون الاستشراق مرحلة من أسباب الاتصال مع العرب تاريخياً وفكرياً وحضارياً، أما النتائج التي تفرزها القراءات المتعددة، فهي قادمة من مراكز قوى تضع عقلية الشرق حسب تصورها لهذا الشرق، فهو إما ينتج معرفة تسعى لتجد لها مكاناً في الحاضر، وإما يظل في وضعية التكرار لإرث الماضي، ويأتي باب التصنيف العرقي والعقلي للهوية المنتجة لذلك التاريخ في إطار المشروع السياسي للغرب.إن فتح الطريق نحو الآخر والتعرف على مصادره وهويته ظاهرة كونية في ثقافات العالم، غير أن فترات الصدام بين الشرق والغرب، وسقوط الطرف الأضعف تحت سيطرة الاستعمار، وتحول الثقافة من مشروع معرفي إلى هيمنة على العقل وفرض الاتجاه الواحد في القراءة، أوجد هذا السؤال : (لماذا الاستشراق؟). وهو ردة فعل لما هو مفروض من هيمنة، أكثر من كونه تحاوراً على مستوى موضوعي من التقارب الحضاري. فالشرق قد نظر إلى الاستشراق كفعل قادم مع الزحف الغربي نحو هذا المكان، استعمار الأرض والعقل، وهو ما أخرج مفهوم الاستشراق من مساحة العلوم الإنسانية إلى دائرة القهر المعرفي.فالثقافة الغربية شكلت في عصر الهيمنة السلاح الأقوى في مواجهة شعوب الشرق التي تصدعت بنيتها الفكرية وانقطعت صلتها مع أمجاد ماضيها وسقطت تحت مستوى التاريخ، وعجزت عن إعادة إنتاج المعرفة مقابل الغرب الذي حول التطور الإنساني إلى قوة لا تعرف لها حدود، ومن هنا ظلت نظرة الشرق إلى الاستشراق في أغلب الأحوال محشورة في زاوية الصراع الحضاري القائم بينهما.المستشرق مكسيم رودنسون أيضاً يحاوره أحمد الشيخ وهو من الأعلام المعروفة في العالم في هذا المجال،يقول له أحمد الشيخ في جانب العلاقة مع الآخر : (عندما طرحت تعبير “نظرة الآخر” واصفاً بذلك مضمون العملية الاستشراقية كما أتصورها، لم أضمن هذا التعبير إدانة مسبقة، لكن أردت من استخدم هذا التعبير أن أشير إلى واقع لا خلاف بشأنه، وهو ان العالم منقسم فعلاً إلى حضارات وثقافات مختلفة، تنشأ عن اختلافها بالضرورة خصائص نظرة الآخر بما تحمله من شحنات الصراع ومن ميزات ومساوئ أيضاً. وأعتقد أنك لا تختلف كثيراً مع هذا الطرح).رودنسون : (حسناً، يمكن أن نجد أرضاً للحوار فالدراسات الاستشراقية بالصورة التي ظهرت عليها تمثل نظرة الآخر فعلاً، من وجهة نظر علمية محددة، نظرة الآخر تتميز بما هو مقنع وما هو غير مقنع، بما هو سلبي وبما هو إيجابي. فنظرة إلى جذور الإسلام من شخص غير مسلم لها أهمية كبيرة، بل أن الدراسات التي تمت عن جذور المسيحية واليهودية حققت نجاحاً كبيراً عندما أنفصل الباحثون عن هذه الديانات، أي تحقق وجود نظرة نقدية إزاء موضوع البحث.لكن توجد أيضاً أخطار في “نظرة الآخر” . خطر النظر للآخرين على أنهم جهلاء بينما نحن على صواب.نعم يحدث هذا. وهو من الأمور المرذولة لكنها من الأمور الشائعة. ما أطلبه هو “نظرة نقدية” لنظرة الآخر من كلا الطرفين، أي إزاء رؤية الشرق للغرب أو رؤية الغرب للشرق».إحدى العقليات الغربية في هذا المجال تعترف بأن هناك أزمة في نظرة كل طرف إلى الآخر.ولذلك يكون هناك مراحل وتراكمات من هذا التأزم الحضاري، مادامت الهويتان العقائدية والسياسية مسيطرتين على المشروع الثقافي لا يمكن تجاوز هذا الخط، أو تغليف الهدف بصورة التعارف.وبرغم رفض مكسيم رودنسون هذا النوع من الاتصال بين الشرق والغرب إلا أن إجابته بـ (لا) تقدم الحل. لأنه يظل في دائرة الرؤية الغربية للشرق، وفي هذا الجانب لا يمكن إسقاط الأسباب الدينية والسياسية والتاريخية التي أوجدت الاستشراق، وأي محاولة لتجاوز هذه الأحداث تخرج هذا المشروع عن إطاره الغربي، إنها ثقافة الآخر ومرتكزات عقليته التي صاغت مشروعه الحضاري وحددت نوعية علاقته مع الآخر، وحولته إلى جثة تشرح، بل إلى ساحة تصادم تحارب فيه إنتاج حضارة الغرب من أفكار وسلاح وعقائد لا تقوم إلا على مبدأ التناحر، وهذا أحد الأسباب التي جعلت من الاستشراق عامل تأزم في الشرق كما ينظر إليه وحالات لا تفرز غير محاولات فقدان الهوية.المراجع[c1]*((حوار الاستشراق))، أحمد الشيخ، المركز العربي للدراسات الغربية - القاهرة الطبعة الأولى - 1999م.[/c]