أضواء
رغم الانتقادات الموجهة لكتاب الرأي في الصحافة إلا أنها، في كثير من الأحيان، تعكس فهما متعمقا لجوانب كثيرة من القضايا والتحديات التي تواجه بلادنا. وفي نظري أن الكثير من كتاب الرأي يستشعرون مسؤولية وتبعات كتاباتهم لقناعتهم بأنهم لا يخاطبون فئة واحدة بل فئات عديدة تختلف في فهمها واستيعابها وإدراكها لما يكتب. وبعيدا عن الأسباب التي تدفع الكتاب لما يكتبون (فلكل واحد منهم أهدافه الخاصة التي تعنيه هو بالدرجة الأولى) فإننا نستطيع القول بأننا أمام زخم هائل وكبير من المعلومات التي قلما يستفاد منها من قبل المسؤولين في بلادنا. من بين هذا الكم الهائل من المقالات الصحفية أزعم أننا قادرون على فرز الصالح والرصين والجاد من الطالح وتصنيفها وتبويبها لإنتاج معلومات جديدة تفيدنا في عملية مساندة اتخاذ القرارات في بلادنا. عملية صنع القرارات نقوم بها جميعا، لكن نوع وثقل القرارات التي نقوم بها كأفراد يختلف عن تلك التي تقوم بها الحكومات والدول. لأن للأخيرة تبعات جسيمة تؤثر على مستقبل جميع أفراد المجتمع. الفرق بين القرارات الحكومية اليوم وقراراتها بالأمس الكثافة الشديدة للمعلومات المتوفرة أمام الدولة والتي تتسم أيضا بالتنوع والتناقض والتعقيد والتشابك بشكل يصعب على متخذ القرار استيعابه في ظل ظروف حرجة تستلزم سرعة اتخاذ القرارات. في نظري أن الجهاز البيروقراطي لدينا والذي تمثله كافة مؤسساتناالحكومية مازال يعتمد على الأساليب التقليدية في الحصول على المعلومات الضرورية لعملية صنع القرارات ولهذا تتأخر معظم القرارات وتتجمد في بعض النقاط وفي النهاية غالبا ما تتمخض عن هذه المؤسسات الحكومية القرارات المتشنجة التي لا تخدم توجهات الدولة ولا المجتمع. ما أدعو إليه هو قيام الدولة بإنشاء أذرعة استشارية مساندة لعملية اتخاذ القرار في شكل مراكز لرصد التغيرات المتحركة في مجتمعنا والاستفادة من صفحات الرأي في صحافتنا كأحد المصادر الرئيسة لاستقاء البدائل والحلول للمشاكل التي يعاني منها مجتمعنا، ولاسيما أن كثيراً من التطورات والتغيرات قد أحدثت تشوهات خطيرة في مجتمعنا بدأنا نرى طلائعها ولا نحتاج لوقت أكثر لتلمس هذه الطلائع لنكتشف في النهاية أنها كالحالقة تدمر قيمنا وتعصف بمجتمعنا. المشاكل المزمنة التي يعاني منها المجتمع تقع حلولها للأسف في نطاق اختصاص أكثر من وزارة. ولأن «التنسيق» بين الوزارات والجهات الحكومية هو أحد الإشكالات الرئيسة التي تعاني منها الأجهزة الحكومية فإن رصد البدائل والحلول بواسطة مراكز الرصد والاستطلاع المقترحة سيسهم بشكل فاعل ليس فقط في تقديم التوصيات، بل أيضا في القيام ببعض الدراسات السريعة والمعمقة التي تكشف بعض جوانب التعقيد في المشكلة المراد حلها. كتاب الرأي في صحافتنا ليسوا منجمين أو كاشفين للغيب لكنهم مراقبون دقيقون للتغيرات التي تحدث في مجتمعنا يرصدونها ويحللونها مستحضرين خبرتهم ودراساتهم ليحكموا في النهاية على تأثير هذه التغيرات على مستقبل هذا المجتمع. ونظرة سريعة لصفحات الرأي في الصحف قبل سنوات بسيطة تؤكد حدوث ما ذهب إليه الكثيرون من كتابنا قبل سنوات محذرين من كثير من النتائج التي نعيش اليوم تفاصيلها. إن وجود أذرع استشارية للدولة يقع في اختصاصها استطلاع الرأي لهو أهم ما يحتاجه متخذ القرار بدلا من الاستناد كما أسلفنا إلى بعض الحلول المكررة أو التقليدية. وجامعاتنا ولله الحمد تزخر بمراكز بحوث يمكن الاستعانة بها لتوجيه طاقاتها وطاقات الخبراء لديها في جمع المعلومات المطلوبة واستخلاص النتائج ومن ثم إنتاج المعلومات الجديدة التي يحتاجها متخذ القرار. والجامعات في هذا الإطار أكثر الجهات حيادية وليس من مصلحتها تصفية المعلومات أو توجيهها لمصلحة جهة معينة.لقد انضممنا لمنظمة التجارة العالمية وأصبحنا ندور في فلك العولمة مع بقية الدول وأصبحت المشاكل أكثر تعقيدا من أن يقوم بحلها شخص أو لجنة ومراكز الرصد والاستطلاع المقترحة ستكون جزءاً من الحل وليس الحل كله. إن من ينظر لواقعنا يسهل عليه القول بأن مشكلات جديدة ما زالت في مرحلة الإعداد والسؤال ماذا أعددنا لهذه المشكلات عندما تصعد إلى السطح؟ مشكلات على الصعيد الأمني والفكري بسبب موجة الإرهاب العالمية، مشكلات ذات علاقة بالحرية المتزايدة للفضائيات التي تخترق بيوتنا، مشكلات ذات علاقة بالمخاطر المتأصلة لشبكة الإنترنت، مشكلات العمالة الأجنبية في بلادنا، مشكلات الصحة والغذاء، مشكلات ذات علاقة بالأجيال القادمة من أبنائنا وكيف نؤمن لهم مستقبلا أفضل، مشكلات ذات علاقة بالفساد المستشري الذي لا يتورع عن العمل ليلا ونهاراً وسراً وجهاراً، مشكلات ذات علاقة بالفقر وتآكل الطبقة المتوسطة في مجتمعنا والتي سيكون لانهيارها نتائج وخيمة ليس فقط على المستوى الاجتماعي بل على المستوي الأمني والسياسي. لقد نجحت بلادنا ولله الحمد في ميادين كثيرة لكن التحديات أكبر وهي مثل الموجة الهائلة التي لن ترحم أحدا والمزيد من انتظار الحلول البيروقراطية لن يرفعنا إلى مستوى الأمم الراقية، بل سيدفعنا إلى مزيد من الانحدار. صفحات الرأي في صحفنا هي في نظري خلاصة فكر أبرز مفكري هذه البلاد وتعكس مقالاتهم ما يدور في المجتمع من تغيرات وتطورات وقد ساهمت مساحة الحرية الجيدة في ارتقاء الرأي وحريته بشكل يسهم إيجابا في نجاح الدور المطلوب من مراكز الرصد والاستطلاع المقترحة. [c1]* أكاديمي وكاتب سعودي [/c]