عدن
محمد زكرياظهرت على سطح ثغر اليمن الثقافي والأدبي عدن عدداً من النوادي الثقافي و الأدبية والجمعيات الاجتماعية ، وكان من أسباب ظهورها الرئيسة هي محاولة الوقوف ضد التيارات الثقافية الاجنبية المختلفة التي فتحت لها حكومة عدن البريطانية أبواب مستعمرة عدن على مصراعيها وكانت السياسة البريطانية من وراء ذلك تتعمد غرس التيارات الثقافية الاجنبية في تربة المجتمع اليمني في المستعمرة وتمييع ثقافته العربية العريقة وكانت من أهم التيارات الثقافية الأجنبية هي الثقافة الهندية التي وضعت بصماتها الواضحة وجه المستعمرة في الثقافة , الموسيقى ، اللبس ، والعادات والتقاليد . وكان الغرض من صبغها بالثقافة الاجنبية هو سلخ شخصيتها اليمنية الأصيلة المستمدة من حضاراتها العربية الإسلامية العريقة ــ كما قلنا سابقاً ـــ وجعلها تدور في فلك الإمبراطورية البريطانية التي لا تغيب عنها الشمس من ناحية والقضاء بسهولة على مطالب القوى الوطنية في عدن بعودتها إلى اليمن الأم من ناحية أخرى. والحقيقة أنّ الأندية الثقافية والأدبية والجمعيات الاجتماعية كانت اللبنة الأولى في تأسيس الأحزاب السياسية في المستعمرة . فقد كان ظاهرها الحياة الثقافية ولكن باطنها هي الحياة السياسية .[c1]نادي الأدب العربي[/c] والحقيقة أنّ عدن ولحج والذي أطلق عليها الضباط السياسيون البريطانيون بوابة عدن ارتبطت حياتهما الثقافية والأدبية ارتباطاً عميقاً . في سنة 1925م أسس أول نادي أدبي في لحج وهو نادي الأدب العربي مؤسسه الأمير أحمد فضل المعروف بــ (( القمندان )) والذي يعتبر من أوائل رواد الحياة الأدبية في لحج واليمن ، وكان عدد من أعضائه من مدينة عدن ، وكان مدير النادي محمد علي لقمان ( المحامي ) صاحب ومؤسس صحيفة " فتاة الجزيرة " سنة 1940م الصادرة في مستعمرة عدن . وكان من أهداف النادي هو إحداث يقظة ونهضة على الصعيد الثقافي والأدبي في كل من لحج وعدن واللذين كانا حياتهما الثقافية أفضل بكثير من الإمارات والمشايخ المعروفة بالمحميات .[c1]في الشيخ عثمان[/c]وفي سنة 1929م ، أسس في مدينة التواهي نادي الإصلاح العربي مؤسسه عبده غانم , وفي حي ( كريتر ) عدن أسس أيضاً نادي باسم الإصلاح العربي سنة 1930م , وكان من أبرز مؤسسيه محمد علي لقمان ، وفي نفس السنة أسس في الشيخ عثمان نادي باسم الإصلاح العربي . ويذكر كبار السن من الأدباء أنّ مدينة الشيخ عثمان كانت في فترة الثلاثينات ، والأربعينات تحتل مكانة مرموقة في ميدان الثقافة والأدب والقضايا الاجتماعية . ومن الأندية الهامة التي أنشئت في الشيخ عثمان هو نادي الإصلاح الإسلامي العربي . وتقول الأستاذة شفيقة عبد الله العراسي عن نشاط النادي : " وأهم أعماله أنه شجع أعضاءه للمشاركة في جميع أحداث العالم العربي ، والمساهمة في جمع المال لضحايا الحرب ، والاحتجاج على إستعمار اليهود لفلسطين " . ويلفت نظرنا أنّ نادي الإصلاح الإسلامي العربي كان يمتلك رؤية عربية واسعة وعميقة أو بعبارة أخرى كانت لديه آفاق واسعة في مسألة القضية الفلسطينية والذي اعتبرها جزء لا يتجزأ من القضايا العربية ويجب الاهتمام بها . وكان النادي له مساهمته الكبيرة إزاء القضية الفلسطينية . فقد جمع المساعدات المالية لإخوانهم الفلسطينيين من جراء الحروب التي كانت تشنها المنظمات الصهيونية المسلحة على المواطنين الفلسطينيين الأبرياء . [c1]عدن والحرب العالمية الثانية[/c]وفي سنة 1938م يؤسس مخيم أبي الطيب المتنبي في كريتر ( عدن ) " وكان عبارة عن منتدى أدبي عُني بالشعر والأدب ، وتميز أعضاءه بالنشاط والعمل لرفع المستوى الثقافي في عدن " . وعندما تجمعت سحب الحرب العالمية الثانية على عدن سادت في المستعمرة أجواء من الإرهاب ، والقمع من قِبل السلطات البريطانية التي كانت تراقب عن كثب تحركات الكتاب , والأدباء أو بالأحرى كانت ترصد القوى الوطنية في المستعمرة من خلال ، زجهم بالسجون ، أو نفيهم خارج مدينتهم مما أوقف نشاط النوادي الثقافية والأدبية في المستعمرة ومنها مخيم أبي الطيب . وفي هذا الصدد ، يقول حسين الأهدل : " أثرت الحرب العالمية الثانية ـــ باندلاعها في الثالث من سبتمبر عام 1939م ــــ على نشاط الأندية ، والجمعيات ، والمنتديات الأدبية في مستعمرة عدن ، فقد عمل قانون الطوارئ على حظر أية نشاطات سياسية أو اجتماعية فيها , وأصبح المثقفون الذين كانت لهم مواقف وطنية عرضة للأعتقال . وزُج ببعضهم في سجن عدن ، وتم نفي بعضهم إلى جزيرة كمران . كما تم وضع الآخرين تحت الإقامة الجبرية في منطقة غير مسقط الرأس بحيث كان المقيم قسراً ( المعتقل ) يسجل أسمه في مركز الشرطة صباحاُ ومساءاً ليثبت وجوده وعدم مغادرته المنطقة المقررة لإقامته " . [c1]مخيم أبي الطيب والحركة الفكرية[/c]وكان من الطبيعي أنّ يتوقف نشاط الأندية الثقافية والأدبية والجمعيات الاجتماعية أو الخيرية في عدن من جراء فرض السلطات البريطانية الحظر عليها. ـــ كما قلنا سابقاً ـــ ولكن مع مرور الوقت عادت بعض الأندية الثقافية والأدبية في مزاولة نشاطها مرة أخرى ومنها مخيم أبي الطيب الذي عاد إلى مزاولة نشاطه في فبراير سنة 1941م . حقيقة لقد كان من أهم أغراض المخيم هو عنايته بالشعر والأدب إلاّ أنه وضع نصب عينيه عدداً من الأنشطة الهامة منها على سبيل المثال اهتمامه بالتعليم والقضاء على محو الأمية بين سكان عدن " . . . وذلك بإرسال البعثات العلمية للشباب . . . إلى الخارج والسعي لدى إدارة المعارف في إقامة صفوف ليلية لتحصيل التعليم العالي . والدعوة للقضاء على الأمية ومحوها في صفوف الكبار ". ووجه المخيم أبي الطيب اهتمامه أيضاً إلى الطبقات الفقيرة من المجتمع ففتح لها أبواب واسعة في ميدان التعليم . فأنشأ جمعية إعانة أبناء الفقراء و " كان الهدف منها تقديم الإعانات المالية لأبناء الفقراء في المدارس الابتدائية والثانوية والطلبة المبعوثين في البلاد العربية وذلك حتى لا يقتصر التعليم على الأقلية من أبناء الأغنياء ، ويظل الجهل في صفوف الأغلبية من الفقراء " . وتنقل شفيقة العراسي عن الدكتور أحمد علي الهمداني الدور الهام الذي قام به مخيم أبي الطيب في الحركة الثقافية : " أنه يعود لهذا المخيم الفضل في تطوير الحياة الأدبية وخلق حياة فكرية حديثة جعلت عدن تحظى بمكانة أدبية متميزة في بعض الأقطار العربية " . [c1]المخيم وحركة الأحرار اليمنيين [/c]والحقيقة أنّ مخيم أبي الطيب لعب دوراً غاية في الأهمية على مسرح اليمن السياسي ونقصد بذلك أنه وقف وقفة صريحة وقوية مع المعارضة اليمنية ضد حكم الإمام يحيى المستبد المطلق من خلال الندوات التي كان يعقدها حركة الأحرار اليمنيين في المخيم كانوا يوضحون مساوئ الحكم الإمامي وكيف عزل اليمن سياسياً وثقافيا عن باقي البلدان العربية والإسلامية " فقد فتح ـــ مخيم أبي الطيب ـــ لهم ( أي الأحرار اليمنيين ) مجالاً واسعاً بتقديم مساهماتهم الأدبية بالمحاضرات وحلقات النقاش وأدى ذلك :إلى إثراء الحركة الأدبية والثقافية في اليمن من ناحية وإلى بروز هوية رجال الأحرار السياسية من ناحية أخرى من خلال شرح قضيتهم ومبادئهم وأسهم هذا النشاط في الالتفاف حول الحركة والعمل على مناصرتها ودعمها مادياً " . [c1]التنفيس الثقافي والسياسي[/c] وعلى المرء أنّ يتساءل حول الأسباب التي دفعت السلطات البريطانية بالسماح بمخيم أبي الطيب أنّ يعاود نشاطه مرة أخرى ليس فقط في الجانب الأدبي بل تعدى ذلك النشاط والفعاليات في الميدان الاجتماعي المتمثل في تشجيع التعليم وخاصة بين الطبقات الفقيرة من المجتمع والقضاء على محو الأمية بين الكبار في عدن بل أنها غضت الطرف ( أي السلطات البريطانية ) بأنّ يعقد الأحرار اليمنيين المناوئين للإمام يحيى في المخيم ندوة يشرحون فيها قضيتهم ضد أركان نظام حكمه . وأكبر الظن أنّ السلطات البريطانية ارتأت أنه من الحكمة السياسية أنّ تفسح مجالاً للأندية الثقافية والأدبية بمزاولة نشاطها مرة أخرى إبان الحرب العالمية الثانية في مستعمرة عدن وذلك نوع من التنفيس الثقافي و السياسي مما يتيح لها أي السلطات البريطانية التعرف عن كثب على القوى الوطنية المتنوعة في المستعمرة من جهة ويبدو أنّ السلطات البريطانية كانت في ذلك الوقت مصالحها متعارضة مع الإمام مما سمحت للأحرار اليمنيين مهاجمة حكمه ولكنها سرعان ما تنقلب عليهم أي على الأحرار اليمنيين عندما تكون مصالحها متفقة مع الحكم الإمامي " من جهة أخرى . [c1]مصالح متضاربة ومتعارضة[/c]وهذا ما أكده الدكتور سيد مصطفى سالم عندما أشار إلى أنّ مجلة " صوت اليمن " الذي أصدرها الشهيد المناضل محمد محمود الزبيري ، والأستاذ أحمد محمد نعمان في عدن سنة 1946م بغرض نشر مساوئ الحكم الإمامي في اليمن ، وشرح قضية الأحرار اليمنيين ، فقد كانت بين مد وجزر ، فكانت السلطات البريطانية تسمح بنشر المقالات التي تهاجم الإمام عندما تكون مصالحها متعارضة معه وعندما كانت المصالحة مرتبطة فيما بينهما و متفقة فإنها تحظر كل ما يسيء للحكم الإمامي ، وكان ذلك ينعكس على صفحات المجلة وفي هذا الصدد ، يقول : " أما مجلة " صوت اليمن " فقد صدرت في عدن بعيداً عن سلطة الإمام يحيى وتمتعت بشيء من الحرية ، ولكن سلطة عدن البريطانية كانت لها مصالح متضاربة أو متصالحة مع سلطات الإمام ، وكان هذا ينعكس على ما ينشر بالمجلة " . ولقد سبقتُ وأنّ أشرنا إلى أنّ سلطات السلطات البريطانية في بداية وأثناء الحرب العالمية الثانية التي خيمت سُحبها على مستعمرة عدن منحت نوعاُ من الحريات لسكانها وخاصة المثقفين مما سمحت مرة أخرى ببعض النوادي الثقافية والأدبية والأجتماعية مزاولة فعالياتها ونشاطها مرة أخرى كما أنها وجدت أن تلك النوادي الثقافية والأدبية في استطاعتها أنّ تكون منبراً دعائياً لصالحها ضد دول المحور وعلى رأسهم ألمانيا النازية وما يعزز كلامنا هذا أنّ مخيم أبي الطيب كانت تلقى فيه المحاضرات عن أحداث الحرب العالمية الثانية ودور بريطانيا ودول التحالف في الدفاع عن الحريات والديمقراطية في العالم ضد دول المحور الديكتاتورية . [c1]مطبوعات المخيم[/c]والحقيقة أنّ أعضاء مخيم أبي الطيب استغلوا فرصة موافقة سلطات عدن البريطانية فتح أبواب المخيم من جديد ، فقام " . . . أعضاء المخيم بإلقاء المحاضرات على المواطنين ، وقوات محمية عدن أيضاً ، وتناولت المحاضرات برامج تثقيفية في مختلف مجالات الحياة التربوية والاجتماعية والعلمية والأدبية ". وتحت عنوان (( أقلام مخيم أبو الطيب )) عام 1942م تم طبع عدد من المقالات منها على سبيل المثال : أولاد الكشافة ، الصياد العدني ، تعدد الزوجات ، شاب في عدن ، وأشهر قصائد أبي الطيب المتنبي , ولم يكتف المخيم في ذلك فحسب ، فقد أنشأ " لجنة الترجمة والنشر في عدن ، وأسهم في ذلك في رفع مستوى الوعي الثقافي بالإطلاع على روائع الأدب العالمي والقضايا الدولية السياسية منها الاجتماعية " . [c1]من رواد التنوير الفكري في اليمن [/c]والحقيقة أنّ الأندية الثقافية والأدبية التي استعرضناها في السابق كانت الغرض من إنشائها هو نشر الثقافة بين سكان مستعمرة عدن والعمل على الحفاظ على الهوية اليمنية الأصيلة وصد الهجمات القوية والشرسة والمنظمة من رياح الثقافات الأجنبية التي هبت على المستعمرة . والحقيقة أنه لا يجب أنّ ننسى دور المثقفين والأدباء الكبار في المستعمرة في تأسيس تلك الأندية الثقافية والأدبية أمثال محمد علي لقمان ( المحامي ) صاحب ورئيس تحرير صحيفة " فتاة الجزيرة " الصادرة في ثغر اليمن عدن سنة 1940م والذي يعد من رواد الفكر المستنيرين في عدن بل وفي اليمن فقد لفت الكثير من الأنظار في المستعمرة إلى ضرورة التخلص من مخالب التخلف ، والجهل والأخذ بأسباب التقدم والرقي . فقد كان محمد علي لقمان ( المحامي ) حاضراً بقوة في عدد من الأندية الأدبية والثقافية في عدن ــــ كما أسلفنا ـــ كنادي الأدب العربي مؤسسه الشاعر اللحجي اليمني الأمير أحمد فضل المعروف باسم القومندان في سنة 1925م ، وكان محمد علي لقمان مديره . وفي حي كريتر ( عدن القديمة ) أسس محمد علي لقمان نادي الأدب العربي في سنة 1930م . ونستدل من ذلك أنّ محمد علي لقمان ( المحامي ) كان نبراساً وإشعاعاً ثقافياً . ولقد وصفه الدكتور أحمد علي الهمداني بأنه رائد حركة التنوير في اليمن وأنه جمع " بين الدعوة إلى الأحياء والإصلاح الشامل وتبنى الفكر الليبرالي في اليمن ، وهو الشيء الذي جعله الرائد الأول للفكر التنويري الذي حاول أنّ يمس بالتجديد كل مفاصل الحياة الرئيسة والثانوية " .[c1]مصابيح ثقافية[/c]والحقيقة لا يجب أنّ ننسى أيضاً دور الكثير والكثير جداً من رواد الفكر في مستعمرة عدن في أحداث نهضة ثقافية عريضة فيها المتمثلة في تأسيس النوادي الثقافية والأدبية والاجتماعية والذين يعتبرون بحق من رواد فكر التنوير في عدن أمثال عبد الرحمن جرجرة صاحب ورئيس تحرير " النهضة " الصادرة في سنة 1950م ، وأيضاً صاحب ورئيس " اليقظة " الصادرة سنة 1956م في عدن . والحقيقة أنّ عدن كانت في تلك الفترة التاريخية تموج بالشخصيات الوطنية والمثقفين والأدباء الذين كان لهم رسالة مقدسة وهي أحداث نهضة ثقافية وأدبية بين سكان عدن والذين هم جزء لا يتجزأ من نسيج اليمن ( الأم ) ومن أمثال هؤلاء الأدباء على سبيل المثال : عبده غانم ، حسن بن حسن أغبري ، محمود أحمد الصومالي ، محمود علي إبراهيم لقمان رئيس تحرير مجلة " الأفكار " الصادرة في عدن سنة 1947م. فهؤلاء وأولئك كانت لهم إسهاماتهم القيمة والهامة في غرس بذور النوادي الثقافية والأدبية وأيضاً الاجتماعية في تربة عدن الثقافية والأجتماعية . فقد كانوا هؤلاء الأدباء نباريس ومصابيح أضاءت سماء عدن الثقافي . [c1]الوعي القومي والقضية الفلسطينية[/c]والحقيقة أنّ هناك مؤثرات أخرى ساهمت مساهمة فعالة ومباشرة في تأسيس النوادي والثقافية والأدبية ، والجمعيات الخيرية إلى جانب المؤثرات المحلية التي استعرضناها قبل قليل وهي أنّ عدن شهدت شخصيات سياسية واجتماعية عربية لها وزنها السياسي والفكري على الساحة العربية أمثال المفكر الكبير التونسي عزيز الثعالبي الذي زار عدن في العشرينيات الذي اقتراح على المثقفين في المستعمرة بتأسيس نادي الأدب العربي والذي أسس في سنة 1925م ـــ كما أسلفنا ـــ . " ولعبت الثورة الفلسطينية عام 1936م ، إلى جانب زيارة عدد من الشخصيات الفلسطينية دوراً هاماً في انتباه اليمنيين في عدن إلى قضايا العروبة والحماس لمؤزراتها مما أدى إلى غرس نواة للشعور السياسي بالانتماء للوطن والقومية العربية " . والحقيقة أنّ الحرب العالمية الثانية أحدثت في الوطن العربي في مصر ، العراق ، والشام غليان وفوران في الحياة السياسية , وكان من الطبيعي أنّ يمتد تأثيره ذلك على المستعمرة التي كانت مرفأ دولي هام تدخل إليه كافة التيارات السياسية مثلما تدخل إليها مختلف التيارات الثقافية فلا نغلو إذا قلنا أنّ الأندية الثقافية والأدبية والجمعيات الاجتماعية من أسباب نشأتها أيضاً تلك التأثيرات السياسية التي حدثت في العديد من الدول العربية بعد أنّ وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها . [c1]الأندية النسائية الاجتماعية[/c]والحقيقة أنّ نشاط الأندية الثقافية والأدبية والاجتماعية لم تقتصر على الرجال في المستعمرة فحسب بل كان للمرأة اليمنية إسهاماتها الواضحة والبارزة في تأسيس عدد من الأندية والجمعيات الأجتماعية. فقد اتجه نشاط المرأة اليمنية إلى القضايا الاجتماعية البحتة المتمثلة بضرورة العناية برقي وتقدم المرأة في عدن . والحقيقة أنّ عدداً من نساء المجتمع اليمني في المستعمرة كن يمثلن رواد حركة التنوير الفكري في عدن أو بالأحرى كن يقفن في وجه التيارات الأجنبية التي طغت على كل مكان في الحياة الأجتماعية التي كانت تشجعها السلطات البريطانية بهدف صبغ مستعمرة التاج البريطاني بالثقافة والعادات والتقاليد الأجنبية ـــ كما قلنا سابقاً ـــ . ويلفت نظرنا أنّ بعض تلك الأندية النسائية الاجتماعية على سبيل المثال ( نادي سيدات عدن)الذي تأسس سنة 1943م تقريباً ، كان يتبوأ رئاسته أجنبيات وعلى وجه الخصوص من أزواج المسئولين البريطانيين الكبار في حكومة عدن . فكان يتم الصراع الشديد بين رائدات الحركة النسائية اليمنية والقيادات النسائية البريطانية في المستعمرة بغرض مواجهة أساليب السلطات البريطانية التي تعمل وتتعمد في تغريب المجتمع اليمني في المستعمرة . وهذا ما أكدته الدكتور أسمهان عقلان العلس ، قائلة : " وجدت المرآة العدنية فرصتها للثورة ضد هذه الأوضاع ، وجعلت من احتكار وهيمنة العناصر الاجنبية على حركة هذا النادي ( نادي سيدات عدن ) سبباً كافياً لديها لانتقاد ومعارضة الأوضاع السائدة فيه " .[c1]الثورة المصرية[/c] ويلفت نظرنا أنّ حوادث سنة 1954م شهدت تغيرات جذرية على خريطة الوطن العربي السياسية منها قيام الثورة المصرية سنة 1952م ومطالبتها بجلاء القوات البريطانية عن أراضيها من ناحية وقيام بعض البلدان العربية بالثورة والتمرد ضد الوجود الأجنبي من ناحية أخرى كل تلك الأوضاع السياسية انعكست على تفكير المرأة في عدن . وهذا ما دفعها إلى أنّ تتجرأ في مطالبتها بضرورة أنّ يكون هناك انتخابات حرة لقيادة نادي سيدات عدن. وكان الغرض الرئيس من تلك المطالب النسائي الوطنية هو كسر حاجز الهيمنة الأجنبية على شؤون النادي " . [c1]جمعية المرأة العربية[/c]وعند الحديث عن الجمعيات الاجتماعية يجب بل ويتوجب أنّ نذكر عدداً من رواد الحركة النسائية اليمنية اللواتي تزعمن مناهضة الهيمنة والسيطرة الاجنبية على الحياة الاجتماعية في عدن والعمل على سلخه عن المجتمع اليمني في ظروف غاية في الصعوبة ، وهن على سبيل المثال : صافيناز خليفة ، صفية لقمان ، وعائشة السقاف ، وليلى جبلي ، ونجوى مكاوي وغيرهن وقبلهن وتحديداً في الأربعينيات فاطمة فكري ، نبيهة حسن على ، رقية محمد ناصر ، رضية إحسان والتي كانت الأخيرة شعلة من الحماس في مواجهة التغريب الأجنبي . وتمخض عن الروح الوطنية التي سادت المرأة اليمنية في مطلع عام 1961م أنّ تم تأسيس جمعية المرأة العربية في عدن. وقبلها تأسست جمعية المرأة العدنية عام 1956م . [c1]وحدة التراب اليمني[/c]ولقد سبقتُ الإشارة إلى أنّ الحركة النسائية في فترة الخمسينيات وتحديداً بعيد قيام الثورة المصرية سنة 1952م والتي أحدثت تغيرات ثورية جذرية على الصعيد السياسي ، الاقتصادي ، والاجتماعي في مصر ألهبت حماس الكثير والكثير جداً من الشعوب العربية المتعطشة للحرية والانعتاق من الهيمنة الاستعمارية ، فألقت تأثيرها على الحركة النسائية في عدن أو بالأحرى على قيادتها النسائية المحلية الوطنية فأسست جمعية المرأة العربية ـــ كما أسلفنا ــ . واللافت للنظر أنّ تسمية الجمعية بـ ( المرأة العربية ) دليل على أنّ المرأة في عدن كانت تؤمن إيماناً عميقاً بالوحدة العربية والتي تعمقت بقيام الثورة المصرية وبالتالي كانت تؤمن بوحدة التراب اليمني . وكانت الحركة النسائية أيضاً لديها رؤية واسعة وعريضة وعميقة بأنّ الوحدة العربية هي السبيل إلى التقدم وازدهار الوطن العربي . وفي هذا الصدد ، تقول اسمهان العلس : " كانت رياح التغيير والتحرر ، والقومية قد شقت طريقها لتتخذ لها موقعاً مؤثراً في النضال الوطني في عدن ومتواصلاً مع المستجدات العربية التي أحدثتها ثورة 23يولية 1952م في مصر . وتحت تأثير هذه المتغيرات أصبحت الدعوات الوحدوية سمة النضال السياسي لأحزاب الستينيات من القرن العشرين ، سواء الداعية إلى وحدة عدن والجنوب العربي أو توحيد الأرض اليمنية شمالها وجنوبها، لكنها كانت دعوات مرتكزة على أساس محدد هو الإيمان بالوحدة العربية " . [c1]عدن مدينة هندية ![/c]ومن العوامل الرئيسة والجوهرية في ظهور النوادي الثقافية والأدبية والاجتماعية على سطح الحياة الثقافية في مستعمرة عدن تتمثل في وقوف رواد فكر التنوير بحزم وقوة وإرادة صلبة ضد التغريب أو الميوعة الثقافية التي كانت تتعمدها السلطات البريطانية في المستعمرة ـــ كما أسلفنا ـــ . والحقيقة أنّ تلك السياسية البريطانية منذ احتلال عدن سنة 1839م . كانت تعمل على سلخ عدن من اليمن وطمس هويتها العربية . وهذا ما لفت نظر الرحال وعالم الاجتماع الفرنسي آرثر دي غوبينو عندما زار مدينة عدن تقريباً سنة 1855م أي بعد مرور 16عاماً من الإحتلال الإنجليزي لعدن ، والدهشة تطل من وجهه ، قائلاً : " في عدن شاهدنا مدينة هندية فوق أراض ( أرض ) عربية وسط الصخور " . ولو انصف العالم الاجتماعي آرثر دي غوبينو ، وكان أكثر دقة في الوصف ، لقال " عدن مدينة هندية فوق أرض يمنية " . وفي نفس السياق يصف الرحال الفرنسي بول موراند في كتابه (( طريق الهند )) مدينة عدن في سنة 1861م ، قائلاً " فسوقها ( يقصد عدن ) يقدّم للمسافرين القادمين من أوروبا عيّنات ـــ فاتحة للشهية ـــ من عجائب الهند ويسمح للعائدين بشراء ما لم يتمكنوا من شرائه هناك ، فقاعات البيع الكبيرة التي يمتلكها الفارسيون في التواهي تضاهي تماماً الدكاكين الضخمة في بومباي " وهذا ما أكده الأستاذ خالد صوري أنّ الثقافة الهندية سادت الحياة الثقافية في مستعمرة عدن وذلك بسبب تشجيع السلطات البريطانية لها بغرض تميع وتغيب الثقافة اليمنية . فيقول " وكما هو واضح من خلال النشاطات الفنية التي كان الاستعمار يتبناها ويقوم بها نلاحظ أنّ كثرة الفرق الهندية التي كانت تزور عدن ومن بعدها جلب الأفلام الهندية والأجنبية كلها لعبت دوراً كبيراً في تمييع وإذابة الحس القومي بين أبناء المنطقة " . [c1]عدن والبحث عن الذات[/c]والحقيقة أنّ الأسباب الرئيسة في ظهور الأندية الثقافية والأدبية والاجتماعية في عدن هو البحث عن الذات أو بالأحرى عن الهوية العربية التي كان الاستعمار يعمل على إذابتها وصهرها بالثقافة الاجنبية ولم يدر بخلد الساسة البريطانيين بأنّ الثقافة العربية في عدن ضاربة جذورها في أعماق الحضارة اليمنية الإسلامية وأنه من المستحيل طمسها أو تمييعها . ولم يدر بخلد البريطانيين أيضاً أنّ هناك رواد فكر تنويري وطني في المستعمرة وحركة نسائية يمنية في المستعمرة يرفضون رفضاًً قاطعاً سياسة حكومة عدن البريطانية إزاء إحلال الثقافة الاجنبية بدلا من الثقافة اليمنية العربية . وعندما طرحت بريطانيا مشروعها القاضي بضم مستعمرة عدن وزارة المستعمرات البريطانية بدلاً من حكومة الهندي في بومباي في سنة 1932م ، رفض أصحاب النفوذ الهنود في المستعمرة , وأقاموا الدنيا ولم يقعدوها ، وكانت حججهم أنّ عدن هندية لكونها كانت في حوزت الهند قرابة قرن كامل . ويقول الأستاذ عبد الله محيرز متهكماً و ساخراً من ذلك المشروع أو القرار : " ولم يدر بخلد أحداً في ذلك العهد ، أنّ هناك حلاً ثالثاً بدلاً من أنّ تكون عدن مستعمرة لبريطانيا أو مستعمرة لمستعمرة بريطانية ( ويقصد الهند ) : هو أنّ تعود لأهلها ، وتصبح كما يتطلبه المنطق ، والعدل جزءاً من يمنها ، وعالمها العربي الرحيب " .[c1]الهوامش : [/c]شفيقة عبد الله العراسي ؛ السياسة البريطانية في مستعمرة عدن ومحمياتها 1937 ـــ 1945م ، الطبعة الأولى 2004م ، إصدارات جامعة عدن للطباعة والنشر ، الجمهورية اليمنية .الدكتور أحمد علي الهمداني ؛ المجاهد علي لقمان المحامي رائد حركة التنوير في اليمن ، ندوة بعنوان المناضل محمد علي لقمان رائد حركة التنوير في اليمن ، عقدت الندوة من 13 إلى 15 نوفمبر 2006م ، بجامعة عدن . الدكتورة اسمهان عقلان العلس ؛ أوضاع المرأة اليمنية في ظل الإدارة البريطانية لعدن 1937 ـــ 1967م ــ الجزء الأول ـــ ، الطبعة الأولى 2005م ، إصدارات جامعة عدن للطباعة والنشر ـــ الجمهورية اليمنية ـــ عدن ــــ .الدكتور مسعود عمشوش ؛ في كتابات الرحالة الفرنسيين ؛ الطبعة الأولى سنة 2003م ، إصدارات جامعة عدن ، الجمهورية اليمنية ــــ عدن ـــــ .خالد صوري ؛ الفنان الرائد خليل محمد خليل ، سنة الطبعة 2003م ، إصدارات جامعة عدن للطباعة والنشر ـــ الجمهورية اليمنية ـــ عدن ـــ . عبد الله أحمد محيرز ؛ العقبة ، سنة الطبعة 1425هـ / 2004م ، الناشر : الجمهورية اليمنية ـــ وزارة الثقافة والسياحة ـــ صنعاء ـــ .