محمد زكريامؤرخ تفنن في رسم ملامح وجه عدن الجميل المضيء ، كتابته عنها أقرب إلى شعر الغزل الذي ينساب عذوبة ورقة إلى التاريخ المجرد الجامد . تغزل في مناقبها ومآثرها ، غاص في أعماقها أسرارها ، فاستخرج من قيعانها الحقائق التاريخية . أعاد الحياة والحيوية والحركة والنشاط إلى الأماكن ، والمواقع التي دفنتها رمال النسيان ، قلب مئات الصفحات المختلفة والمتنوعة في تاريخ عدن منذ تاريخها القديم ومرورا بتاريخها الإسلامي ( الوسيط ) ، وانتهاء بالعصر الحديث . وضع الروايات التاريخية المتباينة عن تاريخها تحت مجهر البحث التاريخي ، فحلل وفسر ، وشرح كل مفصل من مفاصل تاريخها ، لم يترك قضية تاريخية ( ما ) من تاريخها إلاّ وقلبها ذات اليمين وذات اليسار ، وهب حياته كلها وجلها في سبيل خدمة تاريخها وغربل الكثير من الشوائب التي علقت في ثوبها بفعل زحف رمال الأيام والشهور والسنيين الطويلة التي تراكمت عليها.[c1]كتبه القيمة[/c]أنه الأستاذ والمؤرخ الكبير النابغة عبد الله أحمد محيرز عاشق تاريخ ثغر عدن ، صاحب المؤلفات العديدة والقيمة في تاريخها ، وهي العقبة ، صهاريج عدن ، صيرة ، و رحلات الصينيين الكبرى إلى البحر العربي ، وحقق مخطوطة بعنوان (( الآداب المحققة في معتبرات البندقة )) . وتعتبر كتبه تلك مراجع أساسية ورئيسة في تاريخ ثغر عدن للباحثين الحاليين المختصين والمهتمين بصفة خاصة والقراء بصفة عامة . والحقيقة أنّ كتبه تلك التي ذكرناها تفتح آفاق واسعة للباحثين الحاليين على الإطلاع ومعرفة كل جانب من جوانب تاريخ عدن سواء السياسي أو الاجتماعي . [c1]باب عدن وأصالة المدينة[/c]والحقيقة أنّ كتبه المتنوعة الذي كتبها في تاريخ عدن تعكس لنا عن صفات مؤرخ نابغة فذ حقيقي سعى إلى الوصول ـــ قدر المستطاع ـــ إلى أقرب نقطة من قلب الحقيقة ، تحلى بالصبر ، والجلد والمثابرة، وأخترق حواجز الصعوبات تغلب على العراقيل المتمثلة في شحة وضآلة المصادر وندرتها . ومن يطلع ويقرأ بإمعان كتابه الرائع (( العقبة )) الذي حفل بكثير من المعلومات التاريخية المثيرة والجديدة والهامة . سيلفت نظره أنه أمام مؤرخ نابغة بكل معنى لهذه الكلمة فهو لم يدرس العقبة أو باب عدن في إطار العمارة الصماء الجامدة أو بالأحرى درس الحوادث التاريخية التي صنعها باب عدن أو التي دارت حوله ، فقد سطر في هذا الكتاب آفاق واسعة في تاريخ مدينة عدن العتيقة حيث ربط بين باب عدن واليمن ربطاً ذكياً . فقد أشار عبد الله محيرز بأن ( باب العقبة ) كان مثابة الجسر بين عدن واليمن ، أو النافذة التي تطل عليها عدن على اليمن أو كانت همزة وصل بين عدن واليمن عبر البر والعكس صحيح . وفي هذا الصدد ، يقول : " عقبة شق في ثناياها طريق ، ربطها بأمها اليمن ، وجعل من فصلها وتغريبها وانسلاخها ـــ رغم المحاولات عبر القرون ـــ أمراً مستحيلاً " . ويمضي عبد الله محيرز في حديثه ، قائلاً : " والعقبة أكثر من تلال وشعاب ، وحصون وقلاع هي رمز لعزم هذه المدينة تصميمها عبر العصور لتأكد ارتباطها العرقي ، والثقافة باليمن . . وطن أكبر وأشمل : أهلها أهله ولغتها لغته ، وتاريخها تاريخه . . وطن هو جزء من عالم عربي أوسع ، أثرت فيه ، وتأثرت به ، ولعبت دورها كاملاً في تاريخه وثقافته. وبقيت العقبة الضمان الوحيد للحفاظ على أصالة المدينة وعلاقتها بيمنها . . . " . وكما قلنا سابقاً أنّ مؤرخنا الكبير عبد الله محيرز لم ينظر إلى تاريخ العقبة نظرة ضيقة جافة أو بالأحرى لم ينظر إليها من رؤية معمارية بحتة بل نظر إليها برؤية تاريخية واجتماعية واسعتين وعميقتين تدل على قدرته العميقة في تحليل الأحداث التي مرت بها ( العقبة ) أو التي ارتبطت بها من قريب أو بعيد . وهذا إنّ دل على شيء فإنما يدل على أنه يملك أحساسا مرهفاً وذوقاً رفيعاً , وأنه كان يعيش في قلب الأحداث أو كأنه كان معاصراً لها فصبغ على المواقع والأماكن الصماء ثوب الحياة الحيوية والحركة فنطقت بما حدث لها في تلك الفترة التاريخية كأننا نرى أحداثها رأي العين . [c1]صانع أحداث التاريخ [/c]والحقيقة أنّ المرء عندما يقرأ الكتاب بتمعن يشعر أنّ ذلك الباب الضخم المغروس في ثنايا الجبل هو صانع ومسطر أحداث تاريخ عدن أو بالأحرى هو القطب الكبير التي دارت حوله الأحداث التاريخية . و يعدد عبد الله محيرز الأسماء العديدة التي أطلقت على أسم العقبة ، فيقول : " فهو : باب عدن ، وباب العقبة ، وباب البر ، والباب البري ، وباب اليمن ، وباب السقائين ( السقاءين ) ، وباب المعلا " . ويضيف ، قائلاً : " وسماه الإنجليز بعد الاحتلال الممر الرئيسي تمييزاً له عن الممر الصغير : عقبة أخرى تبعد عنه قرابة كيلومترين ، وتسمى أحياناُ بعقبة حجيف " . وتذكر المصادر التراثية أنّ تسمية باب السقاءين يعود إلى أنّ القوافل ، كانت تحمل المياه إلى داخل عدن بعد ملئه من صهريج ضخم تحت باب عدن شيد في عهد حكم السلطان عامر بن عبد الوهاب ألطاهري .[c1]باب عدن والأيوبيون[/c] ويشرح عبد الله محيرز إلى جانب أنّ باب عدن كان همزة الوصل بين المدينة واليمن كان أيضاً بمثابة الدرع الواقي الذي يحمي المدينة من كل غزو محتمل ، وأنّ اختراقه أو حتى الاقتراب منه من المهاجمين يوقع بينهم خسائر فادحة في صفوفهم . ولا يتم اختراقه أو الاستيلاء عليه إلاّ بالخيانة والغدر من قبل الحراس المشرفين على حراسته ، وذلك مثلما حدث مع توران شاه ، قائد الحملة الأيوبية على اليمن الذي دخل عدن في يوم الجمعة 20 ذي العقدة سنة 569 هـ / 1173م ـــ على حسب قول الدكتور محمد كريم الشمري ـــ . وهذا ما أكده الأستاذ حسن صالح شهاب بأن خيوط المؤامرة والخيانة لعبت دورها الخطيرة في نسج سقوط المدينة الذي كان يحكمها بني زريع عبر بوابة عدن بيد الأيوبيين ، قائلاً : " ففتح عدن من جهة البر أمر صعب ، ولم يكن يتم إلاّ بتواطؤ حاميتها ، المرتبة على الجبال المحيطة بها من جهة البرزخ " . ونستخلص من ذلك أنه من المحتمل الذي شق الجبل , كان يريد تحقيق هدفين , الأول هو هدف تجاري يكسب منه أرباح طائلة من جراء الضرائب التي تدفعها القوافل التجارية القادمة من اليمن أو الجزيرة العربية التي تدخل المدينة من خلاله. فقد " روى عمارة أن المكرم الصليحي ( زوج السيدة بنت أحمد ) كافأ ولدي زريع : العباس ، والمسعود ـــ ليد سلفت من أبيهم في نصرة الدولة المسستنصرية ( الدولة الفاطمية ) أيام أبيه علي أبن الصليحي ــــ فولاهما عدناُ : وجعل مقر العباس تعكر عدن ، وهو يحوز الباب ، وما يصل من البر ، وجعل لمسعود حصن الخضراء ( صيرة حالياُ ) ، وهو يحوز الساحل والمراكب ، ويحكم على المدينة " . وكان العباس يدفعاً خمسين ألف قطعة ذهب إلى السيدة الحرة الصليحية إلى جانب أخيه الذي كان يدفع هو أيضاً مثله . وهذا دليل واضح بأن باب عدن ، كان يدر أموالا طائلة إزاء الضرائب التي كانت تفرض على القوافل التجارية المحملة بالبضائع والسلع القادمة من اليمن لبيعها في أسواق عدن المزدهرة . ، والهدف الأخر هو عسكري بحت حيث يصد باب عدن الغزاة أو الطامعين والطامحين بالمدينة ــ كما أسلفنا سابقاً ـــ . [c1]المنفذ الوحيد للمدينة[/c]ويفيض أستاذنا الكبير عبد الله محيرز في الحديث عن باب عدن ، قائلاً : " وقد ظل ـــ باب عدن ـــ لزمن طويل المنفذ الوحيد للمدينة ، والصلة التي ربطت عدن ببقية أجزاء اليمن " . ويذكر عبد الله محيرز بأن أقدم المؤرخين الذين ذكروا باب عدن هو الهمداني ، حيث زار باب العقبة ووصفه بما يلي بأنه : " شصر مقطوع في جبل كان محيطاً بموضع عدن من الساحل ، فلم يكن لها طريق إلا للرجل لمن ركب ظهر الجبل . . فقطع في الجبل باب مبلغ عرض الجبل ، حتى سلكه الدواب ، والجبال ، والمحافل ، والمحفات " . وعن طريقة بناء باب العقبة ، يقول عبد الله محيرز نقلاًَ عن الهمداني : " ويصف طريقة بنائه عند كلامه عن المدن التهامية : " وهي ساحل يحيط به جبل لم يكن فيه طريق ، فقطع في الجبل باب ، بزبر الحديد ، وصار لها طريقاً إلى البر ، ودرباً " . ويعقب عبد الله محيرز على كلام ، قائلاً : " وهو وصف للباب لا يكاد يختلف كثيراً عنه اليوم ، سوى أنه لم يعد المنفذ الوحيد للمدينة " .[c1]منذ زمن بعيد[/c]والحقيقة أنّ باب عدن ، كان مشهوراً منذ زمن طويل ، وأنه في تلك الفترة التاريخية ، كان يعد أعجوبة معمارية أو بالأحرى كان من أشهر أبواب اليمن وإن لم يكن أشهرها على الإطلاق . وفي هذا الصدد ، يقول محيرز : " اشتهر الباب منذ زمن طويل . وعدّه بعضهم أعجوبة معمارية أكثر منه ممراً عادياً للدواب ، والناس. فقد قامت عليه حراسة ، وركبت عليه بوابات تنظم حركة المرور عبره " . ويمضي في حديثه ، قائلاً : " أكد ذلك المقدسي ــ جغرافي معاصر للهمداني ــ بقوله : " وقد شق فيه طريق في الصخر عجيب ، وجعل عليه باب حديد . كما وصفه الهمداني نفسه ضمن الأبواب المشهورة في اليمن التي يطلب الأذن في دخولها ، بل وعده من عجائب اليمن التي لا مثيل لها في الدنيا " . ويفهم من ذلك أنّ باب العقبة يعود إلى زمن قديم أي قبل بناء البغدة أو ( النفق ) الذي سنتحدث عنه بالتفصيل بعد قليل . [c1]واختلطت الآراء[/c]اختلطت الآراء حول باب عدن والبغدة ( النفق فالبعض يذكر أن البغدة هي باب عدن ، والبعض الآخر يقول أنّ هناك فرقاً واضحاً وبوناً وشاسعاً بين باب عدن والبغدة . وفي هذا الصدد ، يقول مؤرخنا الكبير عبد الله محيرز : " اشتهر النفق ــ الذي يصل مدينة عدن بالتلاج ـــ بالبغدة ـــ ، واختلف الناس في أمرها ، فمنهم من رأى أنها أقدم من باب عدن نفسه ، وأنها كانت لزمن طويل باب عدن الرئيسي الوحيد. ومنهم من رأى أنّ كافة ما ذكره المرخون عن شيء اسمه ( باب عدن ) ، سيان : طريقة شقه ، أو الاستحكامات الدفاعية المتعلقة به ، فإنما قصد به ( البغدة ) . وأنّ هذا الممر الواقع في ثنايا العقبة المعروف بباب عدن حالياً ، ما هو إلا تشكيل جيولوجي استفادت المدينة منه كممر للدواب والناس " . وقد أكد أحد الباحثين الأجانب ــ في دراسة له أسماها ( عدن في التاريخ ) في 1965م ـــ مرجحاً هذا الرأي " ولا يبدو أنّ للممر الرئيسي ( باب عدن ) أي دور في الاستحكامات الدفاعية لعدن قديماً ، ولكنه اكتسب أهمية في القرون الوسطى المتأخرة . ويوحي هذا بأنه صدع طبيعي ، وسع ، وعمق ، وليس بالقديم جداً " .[c1]بين باب عدن والبغدة ( النفق )[/c]ويسوق عبد الله محيرز الدلائل والبراهين التاريخية التي تؤكد أنّ باب عدن أو باب العقبة ليس البغدة ـــ كما يتوهم البعض ـــ ، فيقول " : ولا يشير الرحالات الذين زاروا عدن ــ حتى منتصف القرن التاسع عشر ـــ إلى وجود نفق تحت الجبل الأخضر . وعندما زار (( ولستد )) عدنا ــ بضع سنوات قبل احتلال الإنجليز لها ـــ وصف باب العقبة بأنه الطريق الوحيد إلى المدينة من البر ، ووصفه عند خروجه منه بأوصاف لا يمكن أن تنطبق على نفق طوله 350 ياردة ينتهي إلى وديان وشعاب شبيهة ( بالتلاج ) : ـــ وبعد ذلك يقابلنا منظر رائع لخليج عدن الخلفي ( بحر التواهي ، والمعلا ) ، والذي شبه بحيرة واسعة تتناثر عليها جزر ، صخرية قاتمة " ويعلق عبد الله محيرز على وصف ولستد على باب العقبة ، قائلاً : " فأي ممر ـــ عدا باب عدن الحالي ـــ يفضي من المدينة إلى بحر التواهي والمعلا ، وتقابله فجأة تلك الجزر المتناثرة على سطحه ؟ " . ويضيف محيرز معلومات أخرى تؤكد ما ذهب إليه بأنّ من يظن أنّ باب عدن هو البغدة ، فهو يجانب الحقيقة ، فيقول : " وفي 1848م ، يصف ضابط في الجيش البريطاني طريقه من التواهي قادماً إلى عدن " وبعد قطع أربعة أميال ( من التواهي ) في طريق موحش ، يقابل المرء أول ما يقابله باب اليمن أو الممر الرئيسي الذي يمكن دخول المدينة عبره " " . ويزيد عبد الله محيرز في توضيح الصورة بأنه لا توجد أية دليل أو برهان يقودنا أو يثبت أن البغدة هي باب عدن ، فيقول : " ولا تبدو على أية خريطة لعدن ابتداءاً من خارطة هينز التي قدمها مع تقريره قبل احتلاله لها ، أية إشارة إلى نفق تحت الجبل الأخضر ، ولكن تظهر في الخرائط المتأخرة إشارة لمشروع نفق في هذا الموقع المخطط ـــ لإنجازه في وقت لا حق " . وهذا يؤكد ما ذهب إليه محيرز بأنه " في مطلع القرن التاسع عشر هو وجود ممر واحد من المدينة إلى البر : باب العقبة ، أو الممر الرئيسي " . ونستخلص ما قاله عبد الله محيرز ، بأن باب عدن ظهر في الوجود قبل البغدة ( النفق ) بزمن بعيد ، وهذا ـــ ما أسلفناه ـــ .[c1]ما أسباب بناء النفق ؟[/c]والحقيقة أنّ السلطات البريطانية كان شغلها الشاغل بعد احتلال عدن هو توفير المياه لقواتها المرابضة في المعسكرات والثكنات . وفي هذا الصدد ، يقول محيرز : " يبدو أن من أهم الأسباب التي دعت لبناء النفق الذي يصل المدينة بالبرزخ هو توفير الماء من المدينة إلى البرزخ . ففي السنين الأولى للاحتلال وتحت الضغط المستمر ، وهجمات المقاومة ، كان البرزخ في حالة استعداد حربي دائم ، وأصبح ضرورياً لسلطة الاحتلال أنّ تؤمن هذه المادة الضرورية " . ومما فرض على السلطات البريطانية حفر النفق هو أنّ سلطان لحج هدد قواتها بقطع الماء عنها حتى تعود بريطانيا إلى رشدها . وفي هذا الصدد ، يقول محيرز : " فقد لقي الإنجليز متاعب من السلطان علي العبدلي ، إذ بدأ يفرض إتاوة مفرطة على بئر الشيخ عثمان الذي يمون ( يمول ) عدن بالماء . وفي يناير 1858م ، كتب السلطان العبدلي إلى الإنجليز رسالة قرر فيها قطع العلاقات ، وأقفال الحدود إلى بلاده حتى : " يعود للحكومة البريطانية ( عقلها ) " . [c1]افتتاح البغدة ( النفق ) [/c]وعن افتتاح البغدة ( النفق ) ، وطوله ، وتكاليفه ، يقول عبد الله محيرز : " أما النفق ، فقد افتتح للجمهور في 21 ديسمبر 1859م ، وبلغ ( 1052 ) قدما طولاً ، وتكاليف حفره ( 197,729 ) رُبية ( عملة هندية ) ، وطلي سقفه بالطلاء الأبيض . . . " . وفي العقد الأخير من القرن التاسع عشر ، يصف هاريس النفق ، قائلاً : " " وبقى منظر واحد يستحق الرؤية في عدن ، نفق يربط المدينة بالبرزخ , ويمر تحت جبال المنصوري . وطول هذا النفق 350 ياردة ، ويضاء بأنوار القناديل ، وهو ذو ارتفاع وسعة كافية لعبور القوافل والعربات . . . " . ويصف مؤرخ يمني معاصراً للنفق وهو الواسعي والذي أدهشه نظام الحركة الدقيقة فيه ، قائلاً : " . . . وفيه مصابيح ( يقصد ممر النفق ) متقدة ليل نهار ، وعلى مدخليه من الطرفين جندي واقف لمراقبة العجلات التي تجرها الخيل أو لمرور الجمال ونحوها ، وكلها تمر شيئاً بعد شيء بنظام محكم لا عيب فيه . وقد وضع تحت يدي هذا الجندي ، جرس يقرعه تنبيهاً لصاحبه الجندي الآخر ، الواقف في الطرف الثاني من هذا النفق ، حتى تقف النقالات إلى أنّ تمر العجلات التي تتجه في الوجهة التي تمضي فيها حتى لا تصدم ، ويقع الضرر بين الذاهب والقادم . وهكذا دواليك " . والجدير ذكره أنّ البغدة ( النفق ) أغلقت نهائياً في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. [c1]قصة قرية ( المباه )[/c]والكتاب ـــ كما قلنا ـــ لا يتناول باب عدن أو الممر الرئيس فحسب بل تناول قرية هامة ارتبط بها ارتباطاً وثيقاً وهي ( المباه ) ، فقد كانت في يوم من الأيام ملء السمع والبصر، فكان يعرفها الداني القريب والقاصي البعيد في طول وعرض اليمن. وكانت محطة للمسافرين الذين كانوا يأتون من اليمن فيتجمعون فيها قبل دخولهم المدينة من بوابة العقبة , والعكس صحيح عندما ، كانت القوافل تخرج من عدن ، كانت جميعها تتجمع فيها لتعود مرة أخرى إلى اليمن . وطفت اسم تلك القرية على سطح الأحداث في عهد الرسوليين والطاهريين. وفي هذا الصدد ، يقول عبد الله محيرز : " قرية كانت لها أهمية خاصة متعلقة بباب عدن ، تردد اسمها ، وتكرر كثيراً مقترناُ به . وقد اختفت نهائياً فلا يعرف حالياً موقع بهذا الاسم " . ويضيف عبد الله محيرز في وصف قرية ( المباه ) ، قائلاً : " ويصفها أبو مخرمه بأنها قرية صغيرة تحت عدن ، بينها وبين عدن ربع فرسخ ، سميت بذلك لأن من خرج من عدن سائراً أقام بها إلى أنّ يتكامل بقية الرفقة ويسيرون جميعاً ، وكذلك القوافل الواصلة إلى عدن ، كانوا يقيمون بها، ويتهيئون للدخول بالغسيل ولبس الثياب ، ونحو ذلك " . وحول أسباب تسميتها بقرية ( المباه ) ، يقول مؤرخنا عبد الله محيرز : " ويعلل أبو مخرمة تسميتها . فلعل ( المباه ) . المباءة بالهمزة والمد من التبوء , ولما كثر استعمال العامة لها خففوها بإزالة الهمزة والمد . هي المنزل" . وينقل لنا عبد الله محيرز وصفاً عن القرية نقلاً وصفاً دقيقاً عن أبي مخرمة ، قائلاً : " . . . وكان بها دكاكين ، ومحلاجه ، وبيوت ، وغالب أهلها صيادون ، ويحرقون النورة ، والحطم . وبها مسجد قديم خرب ، فجدد عمارته السلطان صلاح الدين عامر عبد الوهاب رحمه الله ، ورتب فيه إماماً ، ومؤذناً ، وخطيباً يخطب بالناس يوم الجمعة ، ونصب به منبراً " . ونستخلص من ذلك أنّ قرية ( المباه ) خرجت إلى الوجود بفضل باب عدن أو بالأحرى أنها ولدت من باب عدن ـــ إذا صح هذا التعبير ـــ .[c1]وغابت غيبتها الأبدية[/c]ويروي عبد الله محيرز القصة الحزينة والمفجعة لقرية ( المباه ) وكيف غابت غيبتها الأبدية وباتت أثراً بعد عين ، بعد أن كانت ملء السمع والبصر والقلب ـــ كما أشرنا في السابق ـــ ، قائلاً : " وأخيراً يصف ( أبومخرمة ) النهاية الأليمة التي لحقتها . ولما ثارت الفتنة باليمن بوصول الترك إليها ، وضعفت شوكة الدولة وقويت شوكة المفسدين ، وصلوا إلى المباه ، وأحرقوها ، ونهبوها ، وانتقل عنها أهلها عنها فهي اليوم خراباً " . [c1]دكة الكباش [/c]ويحدد عبد الله محيرز موقع قرية المباه بأنها تقع في دكة الكباش وهي بالقرب من مكتب وزارة الطاقة والمعادن . وفي هذا الصدد ، يقول : " فيصفها ابن الديبع بأنها (( قرية صغيرة )) خارج عدن . وفي موضع آخر عند الكلام عن مآثر ( الملك الظافر ) : ومسجد بداخل عدن ، وآخر بالمباه بظاهر باب البر فيها . وهذا لا يدع أي شك بأن موقع القرية هو الموقع الذي بخارج عدن ، وعرف بدكة الكباش " .[c1]الخساف مقر الكابتن هينز[/c]لكل حي في مدينة عدن القديمة قصة ، وكم من الأحياء المشهورة في المدينة نمر عليها مرور الكرام ، ولا نقف عندها ، فنبحث وننقب تراثها وتاريخها . وكيفما كان الأمر ، يعد حي الخساف من الأحياء الأصيلة في تاريخ عدن . ويقال أنه كان قفراً مليئاً بمقابر وأضرحة أولياء الله الصالحين . وكان في بداية الاحتلال الإنجليز مقرا للكابتن هينس ، وكان ذلك المقر في السابق قصراً لأحد سلاطين لحج الذين حكموا عدن قبل مجيء الإنجليز إليها . وفي هذا الشأن ، يقول عبد الله محيرز: " وتنعدم أية إشارة إلى هذا الموضع ( الخساف ) في كتب التراث ، عدا إشارات متفرقة عن بعض الزوايا أو الأضرحة . ويمر الرحالات ( الرحالة ) في كتاباتهم عن عدن مر الكرام عند ذكرالخساف ، دون التعرض له . ويبدو أنه ظل قفراً لبعده عن السكان ، وانعدمت أية معلومات عنه ذات بال . إلا أنه احتل مكانة هامة عندما صار مقراً للكابتن هينز ، قصر السلطان العبدلي هناك والذي مازال موجوداً ضمن مكتب وزارة العمل والخدمة المدنية حالياً " . [c1]جبل الخساف[/c]ويتكئ الخساف على سفح جبل التعكر في عدن والذي تلاشى اسمه بين الناس منذ زمن بعيد وبات يعرف حالياً بجبل الخساف ، وفي هذا الصدد يقول محيرز : " وقد اختفى اسم التعكر نهائياً من عدن على الرغم من بقاء اسم نظيره في ( جبله ) متداولاً إلى اليوم " . ويضيف قائلاً : " وتحت مادة التعكر يضيف القاموس ما يحدد موقعه بدقة بأنه : جبل من جبال عدن ، على يسار من يخرج من الباب إلى البر . وهذا ينطبق على ما يطلق عليه الآن جبل الخساف . ويطلق اسم التعكر على جانبي الجبل : ما كان منه داخل المدينة ( أي ما يطل على الخساف على وادي الخساف ) ، أو خارجها والذي يطل على البحر وميناء المعلا . توحي بذلك رواية عمارة اليمني عن الداعي سبأ الزريعي : وأما الداعي سبأ فدخل مدينة عدن ، ولم يقم بها إلاّ سبعة أشهر . . . ودفن في سفح التعكر من داخل البلد . تميزاً له عن جانبه الآخر المشرف على المعلا " . وفي موضع آخر يقول عبد الله محيرز عن جبل التعكر ما يلي : " واتخذ مؤرخ آخر نفس الاحتراز بعد خمسة قرون . فقد كتب البريهي مؤرخاً للشيخ عبد الله بن عبد اللطيف العراقي : أحد فقهاء ، وصلحاء عدن أنه : توفى سنة أحدى وستين وثمانمئة ( ثمانمائة ) , ودفن تحت حصن التعكر مما يلي البر " . ويضيف عبد الله محيرز قائلاً : " ويوجد الآن ضريح في سفح جبل الخساف يحمل اسم الشيخ المذكور مؤكداً أن جبل الخساف هو الاسم الحالي لجبل التعكر ". [c1]دوره في حماية المدينة[/c] ويصف محيرز دور جبل التعكر أو جبل الخساف في حماية المدينة والدفاع عنها ، قائلاً : " ولهذا الجبل دور بارز في تاريخ المدينة والدفاع عنها يمكن تتبعه في دور العقبة العسكري " . ويزيد في توضيح الصورة عن أهمية الجبل العسكري في الذود عن حياض عدن ، وكيف كان الصخرة الصماء التي تحطمت أطماع البرتغاليين عليها ، قائلاً : " ولعب ـــ جبل التعكر ـــ لذلك دوراً بارزاً ـــ بدروبه وقلاعه ــ في تاريخ المدينة العسكري . . وشهد جزؤه الجنوبي هجمات البرتغال ، والترك ، والإنجليز للمدينة ، فازدحمت عليه وحوله الاستحكامات العسكرية من قلاع ، وحصون ، وخنادق ، ودروب ، ومسالك لازال بعضها قائماً ، وأختفي أغلبها , وبقيت آثاره دالة عليه " . [c1]عدن والأمير الزنجبيلي [/c]عثمان الزنجيلي أو ألزنجبيلي المتوفي سنة ( 583 هـ / 1187م ) وهو أحد القادة العسكريين الذي صاحب توران شاه الأيوبي في حملته على اليمن في سنة 569هـ / 1173م والذي كان من القادة المقربين من توران شاه ، فكسب ثقته بسبب حسن إدارته ، ومهارته في الحروب التي خاضها في اليمن . وولاه توران شاه إمارة عدن ولحج وحضرموت والشحر والتي كانت من أعمال عدن . وعلى أية حال ، بعد رحيل الملك توران شاه من بلاد اليمن سنة ( 571 هـ / 1175م ) وعلى وجه التحديد بعد وفاته سنة ( 576 هـ / 1181م ) . صار الأمير عثمان ألزنجبيلي الحاكم الفعلي والمطلق في إمارة عدن ، فثبت دعائم حكمه في إمارة عدن , وأهتم اهتماماً كبيراً في مينائها الذي ازدهر في عهده ازدهاراً كبيراً حيث نشطت الحركة التجارية فيه ، وركز اهتمامه بالجانب الحربي بهدف تأمين إمارته الجديد من كل غزو أو من تسول نفسه من الطامحين والطامعين في الاستيلاء عليها.[c1]قلاع وحصون عدن[/c]والحقيقة لقد كان الأيوبيون معروفون بعنايتهم الفائقة في تشييد الحصون والقلاع التي نشروها في طول وعرض بلاد الشام وفلسطين ، وبلاد الموصل بالعراق وذلك بسبب الحروب الصليبية القاسية والطويلة التي خاضوها معهم ، فاكتسبوا بذلك خبرة عميقة في تلك العمارة الحربية التي هدفها حماية المدن من الغزو الخارجي . وعندما تولى الأمير ألزنجبيلي إمارة عدن . شيد الكثير من الحصون والقلاع على رؤوس جبال عدن . وهذا ما أكده مؤرخنا عبد الله محيرز ، قائلاً : " ولاقى هذا الجبل ( جبل التعكر ) عناية خاصة من الدول المتغلبة على المدينة . فربط ألزنجبيلي حصن التعكر ، وحصن الخضراء بدرب على رؤوس الجبال ، لنقل الإمدادات العسكرية ، والحركة عبر باب عدن بدون الهبوط إلى المدينة ، ثم أتمه بدرب آخر من حصن الخضراء ( على الجبل الأخضر ) منحدراً إلى سفحه على ساحل صيرة الشمالي ليكمل مع سور صيرة الاستحكام الدفاعي للمدينة " . ويمضي في حديثه ، قائلاً : " ويمكن للمدقق اليوم ( هذا الكلام تقريبا في مطلع سنة1980م عند تأليف الكتاب ) ، أنّ يلاحظ هذه الدروب والمسالك , وقد تداعي بعضها ، وأعيد ترميم بعضها عندما نشط الاحتلال البريطاني لتقوية دفاعاته ضد هجوم المقاومة من البر " . [c1]صهريج عامر بن عبد الوهاب [/c]السلطان عامر بن عبد الوهاب المقتول سنة ( 923 هـ / 517م ) يعد أعظم سلاطين الدولة الطاهرية ( 858 ــ 933 هـ / 1454 ـــ 1527 م ) . وقد حكم اليمن قرابة 29 عاماً . ولقد اهتم اهتماماً بالغاً بميناء عدن ، فتذكر المراجع التاريخية أنّ السلطان ( عامر ) كان يتوجه إلى عدن " في موسم الرياح ليشرف بنفسه على خروج القافلة البحرية إلى الهند " . والجدير بالذكر أنّ آل طاهر كانوا ولاة بني رسول في عدن ولحج . وعندما دبت الشيخوخة في أوصال الدولة الرسولية التي حكمت اليمن أكثر من مائتي عام ، وعصفت بها الريح السياسية من كل مكان . تولى الطاهريون سدة الحكم في اليمن . ومن الأعمال العمرانية القيمة الذي قام بها السلطان ( عامر ) هي عنايته الفائقة في حفر الآبار ، وشق القنوات . وهذا ما حدث في عدن وعلى وجه التحديد تحت باب عدن ( العقبة ) أن شيد صهريج ضخم لمياه الشرب لمد المدينة وأهلها منه ، فيقول مؤرخنا عبد الله محيرز عن ذلك الصهريج الذي اختفى بفعل عوامل الزمان ، وتقلبات الأيام ، وتبدل الأوضاع السياسية : " قضى اختلاف الأيدي على بعض منها ــ معالم عدن التاريخية ـــ ، وأذهبت يد البلى والإهمال جزءاً منها . . وأجهز على ما تبقى منها الاحتلال البريطاني ، عندما نشطت قواته لتصفية ما بقي من آثار على أرضها ، وجبالها لبناء المعسكرات ، والثكنات ، والقلاع " . ويمضي في حديثه ، قائلاً : " واختفى في غضون بضع سنوات ذلك الصهريج الضخم الذي بناه عامر ابن عبد الوهاب ألطاهري في نهاية القرن الخامس عشر الميلادي تحت باب عدن ، والذي رآه عدداً من الرحلات ( الرحالة ) في القرن السادس عشر " . [c1]أستاذ الأجيال[/c]وكيفما كان الأمر ، فإن مؤرخنا الكبير عبد الله محيرز أستاذ الأجيال الذي تتلمذ على يديه الكثير في مجال الآثار والتراث والتاريخ اليمني ، استطاع أنّ يرسم لوحة غاية في الرواء ظلالها الجمال وألوانها الإبداع والدقة عن باب عدن . ظلت وستظل كتبه في تاريخ عدن المرجع الرئيس والهام للمختصين والمهتمين بتاريخها الأصيل الضارب جذورها في أعماق الحضارة الإنسانية. [c1]الهوامش :[/c]عبد الله أحمد محيرز ؛ الأعمال الكاملة * العقبة * صهاريج عدن * صيرة سنة الطبعة 1425هـ / 2004م ، الناشر : الجمهورية اليمنية ـــ وزارة الثقافة والسياحة ـــ صنعاء ـــ .حسن صالح شهاب ؛ عدن فرضة اليمن ، الطبعة الأولى 1410هـ / 1990م ، مركز الدراسات والبحوث اليمني . الدكتور محمد كريم إبراهيم الشمري ؛ عدن دراسة في أحوالها السياسية والاقتصادية ( 476 ـــ 627هـ / 1083ــــ 1229م ) . الطبعة الثانية 2004م ، إصدارات جامعة عدن ـــ الجمهورية اليمنية ــــ عدن ـــ . الدكتور سيد مصطفى سالم ؛ الفتح العثماني الأول لليمن 1538ـــ 1635م . الطبعة الخامسة ــ نوفمبر 1999م ، دار الأمين للطباعة والنشر ـــ والتوزيع القاهرة ـــ جمهورية مصر العربية ـــ .عبد الواسع بن يحيى الواسعي ؛ تاريخ اليمن ، سنة الطبعة 1366هـ / 1947م ، مطبعة حجازي بالقاهرة .
|
تاريخ
باب عدن في التاريخ
أخبار متعلقة