أحمد درعانلا تفسير لدينا اليوم لما جرى ويجري من أحاديث مختلفة في الفن والأدب وعالم الموسيقى ولبعض المهتمين بمثل هذه المجالات الخصبة النادرة سوى ذلك التفسير الذي يجعلنا في حالة استغراب عن صحوتهم هذه التي جاءت متأخرة وبعد أن شغلوا مساحات واسعة في مجالاتهم وتخصصاتهم وكأنهم بذلك يبحثون عن ميدان جديد للمصارعة أو المبارزة دون إلمام أو تفكير لما يذهبون إليه.. وفي أغلب الأحايين بعواقب هذه الأحداث وما يترتب عليها من اشكالات نحن جميعاً في غنى عنها، ولقد لاقى الفنان اليمني ما لاقى من الارهاصات والعقبات في حياته .. لا لشيء، ولكن من أجل ان يطرب ويسعد الملايين ويصرف عن أبناء مجتمعه قضايا وأشياء لا تروق لهم أو ينسيهم إياها.. أو إياها .. وتلك هي الموهبة الجبارة التي وهبها الله جل شأنه لمبدعينا أينما كانوا ومهما تعددت أو تنوعت نتاجاتهم، فالموسيقار الراحل احمد بن احمد قاسم الذي غنى للوطن ولحب وطنه وقدم للحب أعظم وأجمل الاغنيات ملامساً ومداعباً بها المشاعر .. مشاعر الوشاق (في الليل اغني لك) و(أصحاب القلوب الغليظة) حتى تلين وحتى لا يختفي الحب كان ومازال صوتاً يمنياً فريداً وجد في زمن كان فيه عماد الفن والطرب الأصيل وصاحب مشوار غنائي طويل ارتبط به كارتباطه بالكثير من الشعراء والأدباء والفنانين .. حتى ساعة رحيله عنا وليظهر بعده جيل آخر وربما (ظهر الأخير) في زمن عشوائي فيه نكهة التعصب او التحيز..إذاً ما هو الدرس الذي استفدناه من رحيل هذا المبدع العبقري سوى انه لو سمع أو قرأ نصف ما قيل عنه.. بعد أن صار خبراً هو (الحديث) فكيف حال مبدعينا الأحياء؟ وانه لمن المؤسف والمؤلم أن نعرف الكثير عن حياتهم ولا نعدل في تصنيفهم .. إلا إذا كان حديثاً مؤلماً نسلي به أنفسنا لنكتشف فيما بعد انه كان ناراً في قلوبهم ولا نعترف بذلك حتى يومنا هذا.. والراحل احمد قاسم من المبدعين القلائل الذين أبدعوا في ربط الكلمة بالنغم لكي يكون لدى المستمع أكثر (تقبلاً) أو (قابلية) لها مما يجعله (الأخير) في حالة انفعال طربي، وقد حظي باحترام وتقدير فنانين كبار في الوطن العربي أمثال الراحل فريد الاطرش، رياض السنباطي، السيدة فاطمة عثمان (كوكب الشرق أم كلثوم) وغيرهم من أولئك الذين رحلوا قبل رحيله عنا.. فتعالوا لنسمع شيئاً عن احدى أغنياته العاطفية (يا حمام الشوق) فنجده يضع هذه العبارة (انته فينك والحبايب فين) في مقامين موسيقيين.. حيث وضع (انته فينك) في مقام موسيقي يطلق عليه (راست على الفا) أما العبارة الأخرى.. (والحبايب فين) وضعها في مقام آخر (بيات نوى) ويتلاعب بأنامله قليلاً إلى (مقام الهزام) (اللي شفته في بعادك) الخ.. وهنا تكمن عظمة الفكر الموسيقي الذي امتلكه احمد قاسم إضافة إلى امتلاكه خفة الدم والروح التي سخرها لعالمه الموسيقي الجميل، كما كانت له القدرة على التمثيل وقد حقق نجاحاً في فيلمه الوحيد (حبي في القاهرة) وبدع فيه لما يتمتع به من أخيلة واسعة وحس فني مرهف.. لكن هناك من أتخذ الشائعات وسيلة لاسقاط هذه الإبداعات وروج لها وكالذي يحكم على اشياء لا يعي تفاصيلها أو ربما لم يعشها ولم يقرأ عنها، والذين يسخرون من فن هذا العبقري انما يعزفون نغماً على وتر نشاز يتردد في اذهانهم ليس لهذا الوتر وجود في فكر وفن وخيال احمد بن احمد قاسم رحمه الله وأبناء فرقته الموسيقية التجديدية.. وها هو ابو احمد أو ابو حماده يقدم للشاعر عبدالله عبدالكريم عام 1987م (بلدنا الغالية مبروك) ومن مقام موسيقي شرقي بيات دوكا والاخيرة تعني بيات على الدرجة الثانية للسلم الموسيقي ولكن هي في الأساس الدرجة الأولى To Neka (التونكة) في مقام (البيات الدوكاه) وفي عرف الموسيقي المتلقف يطلق عليها (بيات على الري) كما ان ايقاع هذه الأنشودة كان اختياراً دقيقاً (10/8)سماعي ثقيل ثم ينتقل إلى ايقاع (6/8)ذلك الإيقاع الشرحي السريع، ولكن من مقام حجاز على درجة (الصول) (Sol) ونغمة صول هي الدرجة الرابعة في مقام بيات على الدوكاه، وقد استخدم احمد قاسم في اغانيه العدنية الإيقاعات الخفيفة مثلاً.. أخذ إيقاع (الدوك) في أغنية (الكوكب الساري) مقام حجاز على الدوكاه وجعل إيقاعها بطيئاً ولم يسرع فيها ولوكان سريعاً لخرجت عن مضمونها وأصبحت راقصة (تمشياً مع الكلمة) وهذا دليل على وصفه هذه الكلمات التأملية بايقاع راقص روضه وجعله بطيئاً خلافاً لمحمد عبدالوهاب الذي استخدم هذا الإيقاع سريعاً راقصاً.. و(المسألة إبداعية).وهكذا أجد نفسي أمام بانوراما من حياة مبدع قدم الكثير لوطنه معبراً عن حياتهم وآلامهم ولقد كانت العلاقات والتشكيلات الثنائية بين الشعراء والفنانين العامل الأساسي لابراز الكثير من الروائع الأدبية والإنسانية .. فكان الشاعر لطفي جعفر أمان يتجلى في احدى ملاحمه الشعرية الوطنية (أبريت موكب الثورة) ولاحمد بن احمد قاسم لحن يتغنى على الشفاه بصوته العذب الرقيق (يامزهري الحزين.. من يرعش الحنين.. إلى ملاعب الصبا.. الخ) أول تجربة فنية نادرة وملحمة وطنية رائعة فيها تتعانق القلوب بذبذبات موسيقية منسجمة مع بعضها لتحثنا على فعل أمر ما، ومن مقام موسيقي غربي.. ثم نراه ونسمعه يغني للطفل .. ويلحن له ويلعب معه ومع (الراحل احمد شريف الرفاعي) رحمه الله في (تفاحة) أجمل وأعظم الالحان التعبيرية النابعة من عطفه وحنانه.. ذلك هو الراحل احمد قاسم رحمه الله الذي لا يعرف السؤال ولكن تأتي الإجابة عفوية صادقة منه قبل ان تسأله.وأخيراً وليس بآخر.. ان الراحل احمد قاسم كما أحب الناس وقدم لهم لا يريد اليوم يداً تصفق له ولكن يريد يداً تحنو على أسرته التي تركها في لحظات مؤسفة .. وحتى تأتي لحظات الشدق والوقوف معها.. ومعه.. ومع الذين (هجرهم الحظ) أيضاً.
|
رياضة
الموسيقار أحمد بن أحمد قاسم/ الفكر الموسيقي / الأخيلة الواسعة
أخبار متعلقة