أفكار
مها عبدالفتاححكمة أم مفارقة أم سخرية أقدار؟! عجز الأساطيل وترسانات السلاح(حتى الآن) في تكييف التصرف مع شراذم من فتيان ما بين العشرين والخامسة والعشرين، كعجز الوحش إزاء قرص الناموس، محتار كيف التعامل معه؟ وما نفع القوة والجبروت وبماذا تفيد العضلات أمام هذا الناموس؟!؟ ! في غفلة من زمن صار طريق التجارة الأهم بين شطري العالم بشرقه وغربه رهن نشاط حفنة « مفاعيص» عددهم يقدر ما بين ألف وألفين ربما أكثر أو أقل، لا أحد يعرف بالتمام ... فتيان ما حول العشرين والخامسة والعشرين ويرتع هؤلاء القراصنة الصغار منذ عامين ما بين خليج عدن والساحل الشرقي لأفريقيا حيث مرور شركات الملاحة التجارية الكبرى في العالم بهذه المنطقة ذهابا وإيابا ... ماذا ينتظر ممن يريد أن يطفو علي سطح الحياة ولا يغرق ... بلد مفكك بلا دولة قوية ولا كيان صلب ولا حماية لأحد بداخله وفقدت فيه سبل العيش .. فماذا يفعل فيه شباب ضائع وجائع تعطلت أمامه كل سبل الحياة بدءا من الطعام إلي سائر وسائل العيش ... شباب اجتمعت له منذ أوائل التسعينيات كل الظروف التي لم تتح أمامه مهنة غير القتال تمرس فيها لحساب هذا أو ذاك من نفر متنازع علي السلطة ... ماذا ينتظر العالم من مثل هذا الشباب؟ انتقلوا بحرفتهم من البر إلى البحر يقطعون طريق التجارة وبعدما ذاقوا طعم الأموال السهلة استمرءوا السبيل وتحولوا بالقرصنة الخفيفة إلى بيزنس قرصاني يصطاد السمك الكبير من ناقلات وشاحنات تحمل ما يسعر بالملايين و... تأملوا ما يجري في الواقع: زوارق سريعة تجوب المياه في عرض البحر علي مسافة من خليج عدن والقرن الإفريقي وبأسلحة أوتوماتيكية وموبايلات من أحدث طراز وأجهزة رادار يتأكدون أن السفينة المستهدفة غير مسلحة .. بلغ ما هاجمه هؤلاء المفاعيص ما بين 90 إلى مائة سفينة هذا العام وحده ! ( ضعف رقم العام الماضي !) واستطاعوا الاستيلاء منها عمليا علي 40 سفينة تحصلوا من ورائها علي الفدية التي تتراوح ما بين مليون إلي 2 مليون حتي بلغت حصيلتهم نحو 30 مليونا في العام وحاليا ما يزال تحت أيديهم 14سفينة رهن انتظار الفدية، منها شاحنة البترول السعودية التي يطلبون لها فدية 25 مليونا أي «ربع» ثمن حمولتها بالتمام وكانت متجهة إلي الولايات المتحدة عن طريق رأس الرجاء الصالح...من أهم ما تحت أيديهم حاليا غير الشاحنة السعودية، سفينة أوكرانية تحمل شحنة أسلحة 33 مدرعة «دبابة».. كانت في طريقها إلي جنوب السودان...هنا لابد أن يتبادر السؤال كيف يتيسر لهؤلاء أن يستولوا علي سفن كبيرة بتلك القوارب الصغيرة؟ ثم أنهم جماعات عديدة أي لا يجمعهم تنظيم واحد بل فئات متعددة معظمها من إقليم «بونت» في الصومال وجمع بينهم نوع من التضامن أو التعاون والتنسيق... طريقهم إلي عرض البحر يتم بسفن كبيرة نسبيا تصل بهم إلى قرب السفينة المستهدفة فينزلون إلي الماء بقواربهم السريعة ويتسلقون المستهدفة بأجسامهم الخفيفة مستخدمين الحبال والخطاطيف «جمع خطاف» وبسلاحهم الخفيف سريع الطلقات وقد تنجح أو يفشلون ولكنهم يعودون دائما سالمين باستثناء مرة أو مرتين فقط تم أسر بضعة أفراد...حققوا أموالا وفيرة وتحولوا في العامين الأخيرين إلي حياة مغامرات مثيرة ولا أفلام السينما بل وتزوجوا بأجمل الفتيات الافريقيات وبنوا بيوتا واشتروا السيارات وصاروا أقرب إلي «موضة» فالقرصنة لها موقع من خيال الصبا لدى شعوب كثيرة تغذت علي أساطير وميراث من أفلام هوليوود القديمة العامرة بروايات المغامرات أقرب إلى البطولات.. وذكر الإعلام الغربي أن عيد «هاللوين الأمريكي» في آخر أكتوبر هذا العام شهد لأول مرة رواج ملابس القرصان فألهبت خيال الصبيان وأقبلوا عليها أكثر من لباس «الكاوبوي» ورجال رحلات الفضاء بل ولو تعلمون.. فإن أحدث الألعاب الإلكترونية للأولاد لها رواج حاليا بين أمريكا واليابان وهي لعبة الاستيلاء علي سفينة في عرض البحر...!الآسيويون لهم أكثر من عامين وهم وحدهم يعانون الأمرين خلالهما من عمليات القرصنة هذه وكم دفعوا الملايين مقابل الإفراج عن سفنهم وأحدثها سفينة كورية دفعت فدية مليون دولار وحركة التجارة في آسيا ضربت فعلا إلي حد كبير ومعلن...إنما لم تتيقظ الدول الكبري في الغرب وتتحرك إلا مؤخرا عندما استولي القراصنة علي سفينة البترول السعودية المتجهة إلي أمريكا وطرح التساؤل عن احتمالات المستقبل لو تركت الأمور لمدة أخرى وتطور القراصنة وصاروا أكثر ثراء واستطاعوا شراء صاروخ أرض - جو مثلا !...حلف الأطلنطي والأسطول الخامس الأمريكي وقطع من أساطيل دول آسيوية تقدر بنحو 14سفينة عسكرية من دول متعددة أصبحوا منتشرين وتقوم حاليا دوريات مراقبة تجوب منطقة خليج عدن وشرق إفريقيا وساحل الصومال... إنما منطقة الخطر هذه شاسعة لذا يبدو التواجد البحري للقوى الكبرى هذا غير كاف لحل المشكلة فعدد السفن التي تمر من طريق الخطر هذا يقدر بنحو 20 ألف سفينة في المتوسط كل عام وأضمن طريقة لحماية الناقلات أن تتولى كل سفينة تجارية إيجاد قوات حراسة بحرية خاصة بها أي تدبير حماية ذاتية... هذا أو بقاء أكثر من بارجة عسكرية وعلى ظهرها طائرات هليوكوبتر تتدخل عند الحاجة ...تساؤلات عديدة مطروحة حول قانونية عمليات تواجد سفن عسكرية مسلحة تزاول مهاما قد لا يسري عليها قانونيا مبدأ الدفاع عن النفس ... إذن لا يبقى من طريق أسلم للتصرف من الوجهة الشرعية القانونية غير تفويض من الأمم المتحدة ... وهو ما لم يحدث حتى الآن سوى مع الهند فقط هي التي تقدمت بطلب لهذا التفويض وفق حق الدفاع أمام الاعتداء والتهجم علي سفن تجارية لها بينما تتخذ طريقها في المحيط الهندي ...ما يدعو إلي القلق والشكوك أيضا هو احتمال انتهاز الفرصة وتدبير سيطرة دولية دائمة بنحو ما تهيمن على هذا الطريق البحري المهم بين المحيط الهندي ومنطقة الخليج ... فما نشهده في موضوع ضرب القرصنة هو شيء آخر أقرب ما يكون إلي تدخل مباشر للقوى ... الولايات المتحدة أنشأت في البنتاجون مركز قيادة افريقية قائم بذاته .. وحلف الأطلنطي والاتحاد الأوروبي دخلا الساحة .. وروسيا تريد أن تعيد إنشاء القاعدة البحرية في عدن ... والهند حصلت علي تسهيلات مراس لسفنها «العسكرية» في سلطنة عمان .. واليابان تبحث إصدار قانون لنشر قطع من أسطولها القوي حماية لطرق نقلها البحري الذي يمر بشرق أفريقيا .. والمحيط الهندي علي ما يبدو يتحول إلي مسرح جديد في اللعبة الكبرى بين الأمم ....علاج مشكلة القرصنة هو في إعادة بناء دولة الصومال لتقف علي قدميها دولة مركزية قوية تتولى مسؤولياتها إزاء الخارجين علي القانون من شعبها .. مشكلة القرصنة بحاجة إلي قوة دولية «للبناء» في هذا وحده إنهاء القرصنة وحماية التجارة الدولية بنحو مقبول وملائم ويتفق والقانون الدولي ولا يكون الأمر مجرد قوات عسكرية تتدخل بنحو غير قانوني ولو صدر بتفويض ... مجرد خروج مدرعات الأساطيل لقمع «شوية مفاعيص» ليس علاجا بل هو مقو فعال لنزعات التمرد ودوافع الانتقام وهذان هما المرتع الخصب لإنجاب الإرهابيين. [c1]* عن صحيفة (أخبار اليوم) المصرية [/c]