من الصعب للغاية التنكر أو إنكار حقيقة لا يكل التاريخ ولا يمل من تأكيدها وهي أن الحكم هو الوصول إلي السلطة والاضطلاع بها، أي أن عملية الوصول إلي السلطة عن طريق الانتخابات أو المدرعات أو المؤامرات أو الانقلابات الصامتة أو بأي طريقة أخري لا يحوّل هؤلاء الذين يصلون إليها إلي حكام إلا بعد أن ينجحوا في القيام بتحويل كل أفكارهم ومفاهيمهم عن السلطة إلى إجراءات تنفيذية داخل مجتمعاتهم يتحملون مسئوليتها أمام شعبهم وأمام التاريخ. هذا هو فهمي لــ "الاضطلاع بالسلطة" وهي ـ الاضطلاع ـ كلمة صعبة النطق، ومن النادر أن يستخدمها أحد هذه الأيام ربما لعدم الحاجة إليها عمليا، أو ربما لدلالتها على فعل لم يعد له وجود. ولما كانت كل كلمة في حد ذاتها تمثل بالنسبة لي نغمة علي الاستماع إليها جيدا لأفهم معناها، كأي رسالة مشفرة تركها لي الأجداد. لذلك لا بأس من أن أعرض عليك ما وصلت إليه من تصور حول هذه الكلمة التي أظن أن اللاوعي الجمعي نحتها بهذا الشكل لينبه إلي ما ينتظر الفرد أو الجماعة من مصاعب عند تحويلها إلى فعل، وعندما نقوم بتحويلها إلى حروف موسيقية فربما اكتشفنا مفرداتها وهي: ضلع.. أضلاع.. ضلوع.. ضالع، وهي جميعا توحي بالمسئولية والقوة في فعل ما ثم عدة كلمات أخرى التصقت بها في هارمونية وهي: إطلاع.. طلوع.. طلع.. طلعة.. مطالعة (المعرفة واكتسابها) وهي جميعا تحتوي علي معان إيجابية في حياة البشر. الاسم العلمي للحكام على ما أظن هو رجال الدولة، أي هؤلاء الذين يهتمون بالدولة وهي مهنة لها قواعدها ومواثيقها كأي مهنة أخرى، تماما كما نقول رجل صناعة ورجل مسرح ورجل أعمال، ومن البديهي أنني أقصد الرجال والنساء علي حد سواء. لا ريب في ان صاحب كل مهنة يواجه في عمله في كل لحظة مشكلة عليه أن يقوم بحلها، أي عليه أن "يضطلع" بها، وهو ما يحتم عليه أولا التعرف والاعتراف بهذه المشكلة وهذا هو بالضبط ما يجعل من المعرفة والاعتراف شيئا واحدا. من المستحيل على أي شخص الاعتراف بشيء في غياب المعرفة الصحيحة به وبأبعاده، ونحن نمارس يوميا وبشكل يكاد يكون غريزيا مئات عمليات الاعتراف المبنية على المعرفة وذلك عندما نحرص علي مراعاة القواعد المطلوبة للزمان والمكان في كل فعل نقوم به. اسمح لي أن أبسط لك فكرتي إلى أقصي حد.. أريدك أن تتخيل حمالا في الميناء يقف في مواجهة طرد عليه أن يحمله (يضطلع به) علي ظهره أو علي كتفيه، لابد أن نفترض ابتداء أنه في صحة جيدة تجعله لا ئقا لعمله، في البداية لابد من معرفة أن هذا الطرد وهي تلك المعرفة التي اكتسبها من خبرته الطويلة، ثم الطريقة (التكنيك) التي سيتبعها في حمله بغير أن تتمزق عضلاته وهو ما يحتم عليه بالطبع أن يفكر بطريقة واقعية لا مجال فيها لرغباته الخاصة أو عواطفه. وحتى عندما يكون الأمر متعلقا بالغيبيات فأقصي ما يستطيعه هو أن يبتهل إلى السماء ليس لترسل ملائكة لتحمل عنه هذا الطرد، أو تقوم بمعجزة لتحويل محتوياته إلي ريش طيور، ولكنه سيطلب من الله سبحانه وتعالى ــ تماما كما نفعل جميعا ــ ليس أن يخفف حمولته.. بل أن يعطيه القدرة علي حملها. هذا هو ما يجب أن تعرفه جماعة حماس في فلسطين وأيضا الجماعة الأم في القاهرة. لن تنزل ملائكة من السماء لحل مشاكل الشعب الفلسطيني وذلك بعد أن اختارهم للقيام بذلك، كما أن عليهم أن يتنبهوا إلى أن وصولهم إلي السلطة في حد ذاته لا يجعل منهم حكاما بغير الاضطلاع بهذه السلطة، وهو ما يحتم عليهم الاعتراف المبني علي المعرفة أن الشعب الفلسطيني قد اختارهم ليس ليغيظ رجال فتح، أو لأنه يؤمن أن أفكارهم ستتحول أتوماتيكيا في الشارع إلي خبز وإدام وزبد وفصول دراسية ومصانع دوارة وحقوق إنسان ولكن لأنه يريد منهم بما يتسمون به من انضباط وتطهر أن يقوموا بتحقيق آماله وأمانيه كشعب عانى كثيرا من مستعمريه ومن محرريه ومن أصدقائه ومن أعدائه على حد سواء. هو قرار اتخذه اللاوعي الجمعي للشعب الفلسطيني، وقرارات اللاوعي الجمعي هي أكثر القرارات صدقا في تاريخ الشعوب. إن حكاية إزالة إسرائيل كهدف معلن لعشرات السنين ثم تحويل هذا الهدف أو تعديله إلي مجرد أمل أو حلم بعيد على الأجيال القادمة أن تقوم بتحقيقه، ليست أكثر من غطاء شفاف يستر العجز عن الفعل وانعدام الرغبة في إقامة الدولة والتي بغيرها لن تقوم للشعب الفلسطيني قائمة. إن الفكر الثوري بطبيعته سياسيا كان أو دينيا ينبني علي الأحلام والأهداف البعيدة وهو ما يبرر أو يعطي الحق لأصحابه في ضخ الأكاذيب الكبرى بين الناس فيتقبلونها بدافع من التعاسة بوصفها حقائق.الأفكار الثورية تعطي شرعية لانعدام المنطق أو العدوان عليه، أو إصابته في قدمه فيصبح أعرجا، فعندما يقول أحد قادة حماس وهي المقولة التي تتردد كثيرا هذه الأيام: لقد تفاوضت السلطة الفلسطينية لسنوات طويلة.. فماذا حققت من ذلك..؟ .. لا شيء.. فلماذا نتفاوض نحن؟ المقولة من ناحية المنطق الصوري صحيحة، وهي أيضا تكسب صاحبها ملامح بطولية غير أنها في حقيقتها للأسف ليست أكثر من إعلان عن العجز والفشل وعدم القدرة علي الاضطلاع بمسئولية الحكم. يبدو أن طول إحساسهم بالمسئولية تجاه السماء فقط جعلتهم عاجزين عن تحمل مسئولية شعبهم الذي يعيش علي الأرض. أما رجل الدولة فلابد أن يرى الأمور على النحو التالي: لقد تفاوض الآخرون لسنوات طويلة دون أن يصلوا لشيء، وعلي أنا أن أعرف لماذا فشلوا لكي أتفادي أسباب هذا الفشل.. أما أنا فأنا قادر علي التفاوض ولابد أن أصل إلى أقصي ما أستطيع الوصول إليه في حماية العالم كله. مرة أخري وليست أخيرة، الهدف الذي أتصور أنه هدف الجميع، هو إقامة دولة فلسطينية تكون في علاقة جيرة طبيعية مع إسرائيل ومع كل دول المنطقة والعالم، دولة عصرية تحترم حقوق الإنسان. هذا الهدف طريقه الوحيد هو التفاوض. من المقولات الراسخة في تاريخ الدبلوماسية، أنك في التفاوض لا تستطيع أن تصل إلى أكثر مما تستطيع مدافعك الوصول إليه. غير أن الرئيس السادات كسر هذه القاعدة أو لعله أضاف إليها قاعدة جديدة هي: في التفاوض.. أنت تستطيع الوصول إلى هدفك مسلحا ليس بمدافعك بل بما تستطيع أن تقدمه من سلام. علينا أن نساعد التاريخ على أن يري ما نريده ليقوم بتنفيذه، وهذا لن يحدث إلا بعد أن نعرف نحن ماذا نريد بالتحديد، هل هو الدولة العصرية، أم قوميتان داخل حدود دولة واحدة هي إسرائيل؟ اذهبوا إلي كل دول الأرض وشعوبها، سيقولون لكم نفس الكلام ومن يقول لكم عكس ذلك فهو يخدعكم أو يستغلكم لمناوشة أعدائه، جاعلا منكم وقودا يشعله لتدفئة عواطف شعبه الذي يعاني برودة الاستبداد والفقر وانعدام الحرية، فلا تضيعوا الوقت.. لا تكونوا أبطالا.. كونوا رجال دولة. نعم.. هناك لحظة تاريخية على الزعماء الثوريين أن يتحولوا فيها إلى رجال دولة يفكرون في حياة الناس وأرزاقهم ومصالحهم، لا أوروبا ولا أمريكا ولا العرب والمسلمين بقادرين على تلبية احتياجات الشعب الفلسطيني بعيدا عن الشعارات والمرارات وكشوف الأحزان والفواجع، حكومته وحدها ستكون قادرة على ذلك بما تتيحه للناس من سلام وسيادة للقانون. وليكن السؤال هو.. ما هو الأفضل للشعب الفلسطيني؟ بغير الاعتراف بالحق في وجود دولة فلسطينية الى جانب دولة اسرائيل ، والاعتراف باتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية، والاعتراف باتفاقية السلام الأردنية الإسرائيلية، والاعتراف بالمبادرة العربية للسلام التي أقرتها قمة بيروت العربية ، والاعتراف باتفاقية أوسلو، سيكون من المستحيل الوصول إلى دولة فلسطينية عصرية أو حتى فاشية. يالها من مهمة شاقة، أن تحاول إقناع الناس بالاعتراف بما يعيشونه من واقع وبما يحيط بهم من حقائق.* كاتب مصري
|
فكر
التفاوض المباشر هو الطريق الوحيد لإقامة الدولة الفلسطينية
أخبار متعلقة