ملامح رمضانية
القاهرة /14اكتوبر/وكالة الصحافة العربية : مازالت أحياء القاهرة والقرى تتناقل أصداء النداء المحبب إلي النفوس طوال ليالي شهر رمضان « إصح يا نايم .. وحد الدايم .. رمضان كريم » ، ورغم عدم حاجة الناس إلي المسحراتي في العصر الحديث ، لكنه بات من الملامح الرمضانية البارزة ، والتي لا يمكن أن تنقرض بتقادم السنين .عرفت مصر المسحراتي في عام 832 هـ ، وكان الوالي « عتبة بن إسحاق » أول من قام بعملية التسحير ، وهو يردد نداءات التسحير علي ضوء القنديل ، بينما يسير من مدينة العسكر إلى جامع عمرو بن العاص بالفسطاط ، مما يؤكد أن هذه المهنة كان لها احترامها ووقارها ، حتي أن الوالي كان يقوم بها ، ويحرص على الخروج كل ليلة في برد الشتاء أو حر الصيف ، ليوقظ النائمين لتناول وجبة السحور والتأهب لصلاة الفجر.ويرجح المؤرخون أن ظهور الوالي ( المسحراتي ) في مصر ، والتفاخر بهذه المهنة ، يعود إلي أن أول مسحراتي عرفه التاريخ الإسلامي ، كان بلال مؤذن الرسول ، والذي كان يجوب الطرقات لإيقاظ المسلمين ، وقد قال الرسول صلي الله عليه وسلم إن بلالاً ينادي بالليل فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم وكان يؤذن لصلاة الفجر ، وحتي القرن الثامن الهجري كانت القناديل التي تعلق فوق المآذن هي التي تحدد للناس مواعيد السحور والإمساك ، فإذا كانت مضاءة كان موعد السحور ، وإذا أطفئت كان ذلك إيذانا أن الفجر اقترب ، وهذا ما يفسر المآذن المضاءة بمصابيح الكهرباء طوال ليالي شهر رمضان منذ هذا التاريخ وحتى يومنا هذا .[c1]أبو نقطة[/c]ويذكر الأدب الشعبي أن العصر الفاطمي شهد مسحراتياً يدعي « أبو نقطة » ، وكان يشتهر بحلاوة صوته ، وأسلوبه العذب وقدرته الفائقة علي إرتجال الزجل ، حتي الخليفة أمر بإحضاره إلي حديقة القصر ، ليوقظه وقت السحور ، ثم أمر بعد ذلك بتوفير المال اللازم له حتي يكون المسحراتي الخاص للخليفة ، وبذلك كان ( أبو نقطة ) لا يعمل طوال العام إلا شهرا واحدا فقط هو شهر رمضان ، وهكذا لعب المسحراتي دورا هاما خلال التاريخ الإسلامي ، وأصبح ـ فيما بعد ـ من الشخصيات الشعبية المحبوبة ، والتي تعبر عن التراث ،وتعرفها جميع طوائف الشعب في مصر والعالم العربي والإسلامي ، بكافة إنتماءاتها الطبقية ، حيث لا يتحقق حضورها إلا من خلال شهر رمضان ، ولا تظهر إلا في لياليه المباركة .[c1]وصف المسحراتي [/c]وقد بهرت هذه الشخصية الرحالة والمستشرقين ، الذين زاروا مصر خلال القرون الماضية ، مثل المستشرق الإنجليزي « إدوارد لين » ، حيث توقف عند شخصية المسحراتي ، ودوَّن عنه بعض الصفحات في كتابه « المصريون المحدثون » ، والذي شمل طبائع وعادات وتقاليد المصريين في القرن التاسع عشر .يقول لين : « إن المسحر - المسحراتي - يطوف في ساعة متأخرة من الليل ممسكا بيده اليسري طبلة صغيرة ، وسيرا من الجلد يضرب به على الطبلة ، ويصطحب المسحر غلاما معه يحمل قنديلين في إطار من الجريد، ويقف المسحر والغلام عند أبواب بيوت المسلمين ، ويضرب علي الطبلة ثم ينشد قائلا : « يسعد مين يقول لا إله إلا الله »، ثم يضرب على الطبلة بالنغمة نفسها ، ويقول : « محمد الهادي رسول الله » ، وبعد أن يضرب على الطبلة يواصل إنشاده قائلا : « أسعد الليالي لك يا فلان » ولم تختلف ملامح المسحراتي ، وطرائقه في التسحير ، باستثناء اختفاء ( القنديل والغلام ) ، وذلك بعد إنارة الشوارع بمصابيح الكهرباء ، ليجوب أرجاء المدينة أو القرية ليردد النداءات ، فهو يعرف أسماء سكان المنازل ويحييهم فردا فردا ، لينتبه النائمون أنه لم يخلف موعده الليلي ، وتدب في البيوت الحياة ، ليلتف أفراد العائلة حول مائدة السحور ، ثم يتأهب الرجال إلي للذهاب إلى المسجد القريب لأداء صلاة الفجر .[c1]المسحراتي والأطفال [/c]ولعل الأطفال هم أسعد الناس بقدوم شهر رمضان ، خاصة أنهم يحرصون علي سماع المسحراتي كل ليلة ، وقد يتطوع أحدهم بترديد نداءاته ، بينما يكون هو في شارع أو حارة أخرى ليكمل عمله في المنطقة المخصصة له ، بينما يسير خلفه مجموعة من الأطفال الذين يحدثون البهجة في الشوارع الخالية .وللمسحراتي ذاكرة قوية وبديهة حاضرة ، فقد يطلب منه أحد الناس أن يذكر اسم ابنه أو ابنته ،فيقوم بتحيتها من خلال نظمه الشعري المحبب إلي النفوس . ويقول : عطية محمد ( 53 سنة) إنه قد ورث هذه المهنة عن والده ، ويقوم بها بشكل تطوعي ، حيث لا يتقاضي أجرا معلوما عليها ، ولكن أهل الخير في قريته يتوافدون على بيته في أول أيام العيد ، يقدمون له التهنئة بعيد الفطر وعادة ماتكون هداياهم هي لفائف من الكعك والبسكويت .وما زالت الأحياء الشعبية في القاهرة تحرص علي وجود « المسحراتي » ، بينما اختفى تماما من الأحياء الراقية ، والتي يكتفي سكانها بسماع البرنامج الإذاعي الشهير (المسحراتي) بصوت الموسيقار الراحل سيد مكاوي وأشعار فؤاد حداد ، وقد استقر البرنامج في وجدان ملايين المصريين بعذوبة ألحانه وكلماته والصوت الشجي الذي يردد النداءات الشهيرة المتوازنة ، ويمزجها بالمناسبات الوطنية ونقد بعض السلوكيات وتقويمها خلال الشهر الفضيل .[c1]أساليب المسحراتي[/c]ولا زال المسحراتي ( المصري) يستخدم الطبلة في تسحير النائمين ، وذلك بخلاف الأقطار العربية الأخري التي تستخدم ( الطار ) و ( المزمار ) مثل أهل اليمن، أو تستخدم النفير والأبواق مثل أهل الشام .واذا كان المسحراتي في القرية أو المدينة يستخدم الطبلة لإيقاظ النائمين ، فتلك المهمة تقوم بها الكشافة في دولة إندونيسيا .ولم يعرف بلد آخر سوى مصر « المسحراتية » أو المرأة التي تقوم بالتسحير ، ففي عهد أحمد بن طولون كانت النساء يقمن بعمل المسحراتي دون أن يبرحن منازلهن ، فكانت كل امرأة تنادي علي جارتها من نافذة منزلها لإيقاظها ، ولم يعرف أن النساء كن يخرجن إلى الشوارع للتسحير ، لأن الرجل اختص نفسه بهذا الواجب الذي يتجدد كل عام .ويختلف أداء المسحراتي من شخص لآخر، فهناك المسحراتي خفيف الظل ، الذي يتجاوب الناس مع نداءاته ، ولا يغادر مكانه إلا بعد إضاءة المصابيح ، وتأكده من استيقاظ النائمين ، بل قد يتبادل التحية والتعليقات الطريفة مع صاحب البيت .وعلى جانب آخر نجد المسحراتي الذي يؤدي مهمته في وقار ودون أن ينتظر محادثة أحد ، وفي أغلب الأحيان يمضي دون أن يكون أهل البيت قد أفاقوا من نومهم .وحين يوشك الشهر على الانتهاء يبدأ المسحراتي في ترديد نداءاته > يوحش رمضان < فيقول : “لا أوحش الله منك يا شهر الصيام .. لا أوحش الله منك يا شهر الكرم والجود والإيمان” .