فريد صبحى: أن يكون لك صديق فتلك نعمة لا تقدر بثمن.. ولكن.. ليس أي صديق.. الصديق الحقيقي هو الذي تدوم صداقته إلى ما لا نهاية.. أحياناً إلى ما بعد الموت.. لا يفارقك طيف الصديق.. يبقى إلى جوارك يرنو إليك بنظراته الحانية.. يطوق عنقك بساعده تارة وتارة يضع يده على كتفك كما تضع الأم الرؤوم يدها على كتف ابنها.. كلماته يتردد صداها في أذنيك.. وصخبه ودعاباته ورنين قهقهاته.. فتغمرك السعادة وترتسم على شفتيك ابتسامة حزينة.. ويأخذك الشوق إليه حتى لو كلفك ذلك الذهاب إلى حيث هو.. حتى لو كان في السماء!في الحديث القدسي أن جبريل عليه السلام هبط على رجل يضرب في الأرض فسأله جبريل.. إلى أين يارجل.. فأجاب إلى بلد فيها صديقي.. قال جبريل.. وماذا تبغى منه، ألحاجة تود أن يقضيها لك.. أجاب الرجل.. بل لأطمئن على حاله.. قال جبريل.. وتكلف نفسك مشقة وعناء كل هذا الطريق.. أجاب الرجل.. نعم لأني أحبه.. قال جبريل..أذهب يا رجل إذن إلى صديقك واعلم أن الله يحبك الآن كما تحبه!في المدرسة الابتدائية كان لقائي بصديق العمر.. في مصر عبدالناصر.. في منتصف القرن الماضي كان من أسرة مستورة الحال.. متميزاً بذكائه.. متميزا أكثر بأخلاقه الرفيعة وأدبه الجم.. في أول يوم تعارفنا فيه طوق عنقي بساعده ونحن نتمشى في ساحة المدرسة.. حتى وصلنا معاً إلى الجامعة!مع اقتراب موعد الجلوس لامتحان التخرج تعرض صديق العمر للمرض.. ومع ذلك نهض من فراش المرض وتوجه وهو مريض إلى قاعة الامتحان حيث امتحن في كل المواد وعاد ليرقد في فراش المرض رقدته الأخيرة.. ومنذ ذلك اليوم لم يوقظه أحد ليخبره بنجاحه في الامتحان.. ربما لم يكن بحاجة لفرحة النجاح في الجامعة بعد أن فاز بالنعيم في الدار الآخرة!مات صديق العمر طاهر الذيل.. كان ملاكاً يسير على الأرض.. مات صديقي وفي قلبه قصة حب.. لا شك أن ألم حبيبة قلبه كان فادحاً.. كذلك كان ألمي.. ربما استطاعت هي أن تنساه.. ولكن كيف أنساه أنا.. ذلك هو الفرق بين الحبيب والصديق.. ربما لأن الحب أخذ وعطاء.. أما الصداقة فهي عطاء لا ينتظر مقابل!!وتمضي السنوات في رحلة العمر حتى أوشكت على الانتهاء.. وتأبى الأقدار أخيراً إلا أن أرى صديق العمر من جديد.. وأين.. في عدن.. التقيته في الطريق قد كبر وشاخ واشتعل رأسه شيباً.. لم أستطع التعرف عليه للوهلة الأولى.. تغير كثيراً.. خاصة وقد غير اسمه (محمود عباس سلطان) ليصبح (وهبي معروف عقبة)!يالها من أقدار.. يستهويها لقاء الأرواح حتى بعد أن يفرق بينها الموت.. لعله التقدير والرضا الإلهي بالعلاقات الإنسانية حين تصفو من شوائب الأنانية والمصالح الشخصية.. وتسمو إلى مرتبة الحب لله وفي الله!صديق العمر أو لنقل صديق آخر العمر.. وهبي معروف عقبة.. لم تدم صحبته أكثر من عامين.. كما التقيته فجأة تركني فجأة.. كانت زيارة قصيرة.. أو لنقل زيارة خاطفة.. ثم تركني أسير وحدي في الطريق.. تماماً كما تركني قبل أربعين عاماً حين كان شاباً يافعاً.. وها هو اليوم ينفض الرماد عن جمر أحزاني!عامان ظللنا نقطع فيها الطريق.. من البيت إلى السوق ومن السوق إلى البيت.. طبيعة (الشيوبة) حق عدن كانت غالبة عليه.. كما هي أيضاً غالبة علي.. التبكير كل صباح والذهاب إلى السوق لشراء (خصار) للبيت.. الخضرة واللحم والصيد.. لا يسمحون لأحد غيرهم القيام بهذه المهمة الدقيقة والحساسة ربما لأسباب اقتصادية وأخرى تتعلق بحسن الاختيار.. وأيضاً لأسباب إنسانية وأخلاقية يتميز بها أبناء وأهالي عدن الطيبون!دعوني أعود للحديث عن صديقي.. عامان ونحن نسير على الطريق.. من السوق إلى البيت والعكس.. نسير الهوينا ونستريح هنيهة .. ولكننا لا نتوقف عن الكلام.. أحلى كلام.. في السياسة في الأدب في المرأة في الدين في الحب .. في كل شيء!في أول كل لقاء كان صديقي يقدم لي قطفة من آخر الأخبار العالمية والعربية والمحلية (كان الرجل يقضي لياليه متابعاً لإذاعات وقنوات فضاء العالم.. ويقلب صفحات الكتب العربية والانجليزية في الأدب والقصة وحياة العظماء في التاريخ) وبعد أن ننتهي من تحليل الأحداث وما وراء الخبر نخوض في حال البلاد والعباد .. وخاصة حالي وحاله!كثيراً ما كان يبادرني بالسؤال عن حالي.. ها.. كيف استويت.. وأيش سويت.. وكتلميذ يقدم لأستاذه دفتر الواجب المدرسي .. كان يمسك بقلمه الأحمر وهو يقلب صفحات الدفتر ويضع علامة صح هنا وغلط هناك.. تماماً كما يمسك بمبضعة الطبيب الجراح الماهر ويمر به على الجزء المصاب من جسد المريض المسجى بين يديه.. هكذا في أيامه الأخيرة كنت ألمس في كلماته ونظرات عينيه حنو الأب وعطف الأخ على أخيه .. كأنه كان يستشعر قرب الرحيل!هناك من كان يرى في (وهبي عقبة) إنساناً حاد الطبع غليظ القول.. هؤلاء لم يحظوا بصحبته أو ممن لم يتمكنوا من زحزحته قيد أنمله عن ما كان يعتقد هو أنه الحق.. وهناك من عرفوه عن كثب ودأب فاحترموا الرجل وجعلوا له في قلوبهم مكاناً علياً.. فهو رجل مبادئ ومواقف .. عريق المنبت .. كريم الأصل.. شحذته قسوة الحياة وظلم الإنسان.. شديد الصلابة شديد الحزم.. ولكنه ارحم من الأم على طفلها عندما يتعلق الأمر بإنسان ضعيف أو صاحب حق 1يلجأ إليه.. عميق الإيمان .. عواطفه وروحه وجماع أفكاره كلها معلقة بالسماء وبكتاب السماء.. القرآن الكريم.. حاد الذكاء سريع الإدراك حلو النكتة .. قناصاً بارعاً للأفكار والمعاني المختبئة وراء الكلمات!اليوم وبعد رحيل صديق آخر العمر.. اليوم وأنا أسير وحيد في الطريق .. الناس يستوقفونني.. يمدون إلى أيديهم بعيون ملؤها الرثاء يقدمون لي واجب العزاء في صديقي (وهبي معروف عقبة).. ومازالوا يستوقفونني تباعاً يعظمون لي الأجر.. يا الهي.. أنا لست من أهل الفقيد ولا قريب .. والناس تعرف ذلك.. لماذا إذن يصرون على تقديم واجب العزاء .. سؤال احترت في الإجابة عليه.. ربما لان المشاعر الإنسانية عميقة الأغوار.. وكم هي رائعة!ختاماً لابد أن آتي إلى ذكر رجال قاموا بالواجب بتعهد الفقيد أثناء مرضه هما الطبيب احمد علي الخينة مدير عام مستشفى عدن والطبيب عبدالإله السمان.. تماماً كما يتعهد الابن أباه .. وكما تولاه بالرعاية والاهتمام والزيارة الكريمة الأخ عبدالكريم شائف أمين عام المجلس المحلي .. ثم كان على رأس المشيعين من بيت الفقيد إلى مثواه الأخير الأخ احمد محمد الكحلاني محافظ عدن.تغمد الله الفقيد بالرحمة والغفران وألهم أهله وذويه الصبر والسلوان.
|
تقرير
وهبي معروف عقبة
أخبار متعلقة