..كثيرون هم الذين يعتقدون بأن أمريكا هي السبب الرئيس للإرهاب في الشرق الأوسط. ربما يكون الأمر كذلك. ولكن يجب أن لا ننسي أن للإرهاب أسبابه الثقافية والدينية والسياسية والاجتماعية العربية كذلك. ومن ينكر هذه الأسباب، فإنه يقع في خطأ جسيم. وفي هذا المقال سوف نحاول التعرف علي بعض الأسباب الاجتماعية التي أدت إلى رفع وتيرة الإرهاب في الشرق الأوسط. يقول عالم الاجتماع السوري الأمريكي حليم بركات، إن المجتمع العربي تحكمه مجموعة من القيم، التي تحول بينه وبين تقدم الحداثة فيه. وربما كانت هذه القيم من جملة الأسباب الاجتماعية التي رفعت من وتيرة الإرهاب في العالم العربي. فهذه القيم تساعد علي انتشار الأصولية الدينية، والإرهاب خرج من عباءة هذه الأصولية. ويمكن حصر هذه القيم، بقيم القدرية، وليست قيم الخَلْق والسيطرة علي المحيط، والقيم السلفية المغلقة التي يقوم عليها النظام السياسي، والقيم الفورية الحماسية الارتجالية والانفعالية غير المنهجية، وقيم تفضيل المكاسب الآنية علي المكاسب البعيدة المدي، والقيم المطلقة الدينية غير النسبية، والقيم العائلية غير الوطنية وغير الفردية، والقيم الذاتية الخاصة غير الموضوعية العامة، والقيم العمودية ذات المدلولات الطبقية غير الأفقية، والقيم التي تعطي الأفضلية لأهل الثقة والقرلبة العائلية ، لا لأهل الخبرة والشباب والعلم ، والقيم التي تُشجِّع علي استيراد المقتبسات المُعلَّبة، لا المقتبسات الفكرية ( النظام السياسي بين القيم الحضارية التقليدية والحديثة، ص282-290). فهل ساهمت هذه القيم الاجتماعية مساهمة قريبة أو بعيدة، في رفع وتيرة الإرهاب في المجتمع العربي؟ والجواب علي ذلك يتضمن احتمالاً كبيراً. وهي إن لم تساهم هذه القيم من قريب، فقد ساهمت من بعيد. ولكن هذه المساهمة لم تكن هي وحدها التي رفعت وتيرة الإرهاب في المجتمع العربي، إذ أن هناك عوامل اجتماعية أخرى ساهمت مساهمة فعالة في هذا المجال. ومنها هذه العوامل التي حاول المفكرون العرب المعاصرون رصدها وتحليلها، لتكون رافعة واقعية وملموسة لازدياد الأعمال الإرهابية في العالم العربي: 1- إن كافة عناصر هذا المجتمع لا تتقدم مجتمعةً تقدماً واحداً متكافئاً. فنري أن هناك مستويات في هذا المجتمع تتقدم وهناك مستويات تتأخر. هناك نواحٍ تزدهر، وهناك نواح تتقهقر. هناك مستويات ترتفع، وهناك مستويات تنحدر. هناك مظاهر وآليات تأخذ بروح الابتداع، وهناك مظاهر تأخذ بتلابيب الاتباع. ومن هنا تظهر هذه الفوضي التي نراها الآن في المجتمع العربي، وهذا الإهمال والابتذال في الشارع والمدرسة والبيت والفن والأدب والفكر وغير ذلك. لا نسق واحداً في المجتمع العربي. ولا نظام أوركسترالياً متناسقاً في هذا المجتمع.ففي الوقت الذي يتقدم فيه الأدب شعراً ونثراً ويأخذ بأساليب الإبداع الفنية الحديثة، نرى النقد العربي ينكر هذا، ويقف من هذا الإبداع موقف الجاحد والرافض.وفي الوقت الذي يتقدم فيه الفكر السياسي تقدما محدوداً، نري أن الممارسة السياسية تتخلف، وتأخذ بأنظمة الخلافة الوراثية، وبآليات هذه الخلافة وميراثها السياسي العتيق. وفي الوقت الذي يتقدم فيه الفكر العَلْماني والفكر الحداثي تقدماً ذهنياً ملموساً، ولكن علي الورق وفي الصالونات والمنتديات الثقافية، نرى أن الشارع العربي يخطو نحو الفكر الديني خطوات واسعة، ولكن علي مستوي الشعائر والمظاهر فقط.وفي الوقت الذي يتقدم فيه الاقتصاد العربي، ويأخذ بالأساليب المالية الحديثة نسمع أصوات المؤسسة الدينية ما زالت تنادي بمحاربة النظام المالي العالمي، وترميه بالربوية، والحرام، ومخالفة الدين. ومن الواضح أن الحداثة العربية قد أصابت الاقتصاد العربي بالدرجة الأولي، ثم الأدب العربي. وظهرت نتائجها واضحة في الاقتصاد العربي، ذلك أن الحداثة لا تتحدد بالأفكار بل عبر الموقع الاقتصادي - الاجتماعي وهو ما حصل في إنجلترا حين قاد البيورتان الإنجليز ثورتي 1649، 1688 اللتين أرسيتا قواعد الثورة الاقتصادية. وقد سبقوا بهذا المفكرين العقلانيين الإنجليز. كما يقول محمد رصاص.وفي الوقت الذي يحتدم فيه الصراع بين الأصالة والمعاصرة في الفكر العربي المعاصر، بحيث أصبح هذا الصراع إشكالية ثقافية وفكرية محضة، نرى أن العربي البسيط يمارس الأصالة والمعاصرة معاً في الوقت نفسه، وفي اليوم الواحد، دون أن يجد صعوبة في ذلك، أو عائقاً. فهو يذهب إلي البنك في الصباح، ويُجري معاملات ربوية محرّمة في عُرف السلفيين. وفي الظهر يذهب إلي المسجد لأداء صلاة الظهر. وفي المساء يستمع إلي الموسيقي والغناء التي تُعتبر مكروهاً في زعم السلفيين، ويشاهد أفلاماً غربية مكروهة في عُرف الأصوليين، ثم يؤدي صلاة العشاء، وينام. وقس علي ذلك أمثلة كثيرة في حياة المواطن العربي اليومية التي تتشابك فيها الأصالة مع المعاصرة تشابكاً يؤدي إلي سير الحياة، لا إلى إعاقتها. وهو ما يريده العربي، بحيث لا ضرر ولا إضرار. إنه يريد من المعاصرة أن تُسهِّل له حياته، ويريد من الأصالة أن تُؤمِّن له حياته، بغض النظر عن دعوات الأصوليين والمعاصرين وصيحاتهم ضد هذا أو ذاك. والحياة الواقعية العربية الآن تأخذ من الأصالة والمعاصرة ما يفيدها وتترك ما يعيقها. وما لا سوف يجده العربي في تراثه - وهو الكثير - سيأخذه من المعاصرة والحداثة، لا مرغماً، ولا طائعاً، ولكن لكي يضمن حياته وحُسنَ سيرها ومستقبله وضمان استمراره. فالأصالة والمعاصرة تتحققان عن طريق الطرف الثالث وهو واقع الأمة واحتياجاتها الراهنة. وهذا الطريق هو القادر علي خلق الوحدة العضوية بين الطرفين المتعارضين. ولذا لزم أولاً رصد حاجات العصر والتعرف علي متطلباته، وتشخيص المرحلة التاريخية التي تمر بها المجتمعات الحالية. فتلبية هذه المتطلبات وسد هذه الحاجات هي الغاية من تحقيق الأصالة والمعاصرة (حسن حنفي ، الأصالة والمعاصرة، ص135). وهذا ما هو قائم الآن، سيما وأن العربي لا يعيش في عالم منعزل أو منفصل، وإنما يعيش في وسط العالم الحداثي، ويتعامل معه على أوسع نطاق تجارياً واقتصادياً وثقافياً وتعليمياً وسياسياً. فهو شريك في صنع هذا العالم وإن كان الشريك الخاسر الرابح، لأن لا شيء لديه يقدمه لهذا العالم. فهو يأخذ منه ولا يعطيه. 2- إن المجتمع العربي ما زال مجتمعاً عشائرياً قبلياً طائفياً في تركيبه الاجتماعي، وفي تركيبه الثقافي، وفي تركيبة السياسي. ولعل أبلغ وأوضح العلامات في التعبير عن عدم مدنية المجتمع العربي هي نظرة الإنسان العربي ذاته إلي الديمقراطية باعتبارها مشكلة، وأزمة ولعبة لا فائدة منها، لا باعتبارها ممارسة سياسية عملية، وفكراً وسلوكاً لا ينتميان إلي الحقل السياسي وحده. ومن هنا، فإن العربي لا يستطيع أن يعيش الديمقراطية كواقع، وأن يخوضها كمعركة (سعيد بنسعيد، إشكاليات في الفكر العربي والعلوم الإنسانية، ص13). 3- في المجتمع العربي هناك مشكلة ازدواجية حياتنا التي يتنازعها الجديد والقديم، والأصالة والمعاصرة، وموقفنا من هذه الازدواجية. وقد تمثلت هذه الازدواجية في مختلف مظاهر الحياة العربية في الماضي والحاضر. ويروي حسن حنفي، أن باشوات مصر في العهد الملكي، كانوا يبنون قصورهم بأسلوب عصر النهضة الإيطالي ويؤثثونها بأسلوب لويس الخامس عشر والسادس عشر، وفي الوقت نفسه يعادون الغرب (ثقافتنا المعاصرة بين الأصالة والتقليد، ص7). ونرى الحال نفسه في العالم العربي الآن على نطاق واسع، خاصة بعد أن أصبح الغرب المنتج الرئيسي لمواد الاستهلاك، وآليات المعرفة، والمواصلات، والاتصالات وغير ذلك. وأصبح الغرب كطعام البخيل، مأكولاً مذموماً.
|
فكر
هل للإرهاب جذور اجتماعية ؟
أخبار متعلقة