الموسيقى هي أصوات الكائنات التي خلقها الله تعالى، تصعد اناشيدها في الفضاء على اختلاف وتباين نغماتها وتدل دلالة واضحة على عظمة الخالق عز وجل، وابداعة في خلقه فهي نشيد الطبيعة المتصاعد من فجاج الأرض المتصل بعنان السماء، والمتمثل في أصوات الطيور المغردة وأمواج البحر المتلاطمة وهدير المياه في السواقي والشلالات وحفيف الأوراق في المزارع والغابات الممتدة على هذه البسيطة.ولقد اهتدى الإنسان منذ القدم إلى الأصوات المنبعثة من الطبيعة وصاخ لسماعها واستمتع بنغماتها المتعددة لقد أصاخ الراعي قديماً إلى أصوات رخيمة تنبعث من بين القصب المتشابكة في الحقول الزراعية والى أصوات الطيور في نشيدها على الأشجار وإلى صوت الماء في الساقية ينساب مترقرقاً استمع إلى نغمات متداخلة إذا تجمعت ائتلفت وإن تفرقت انتظمت، استمع إلى تلك الأصوات وهي تتصاعد بانتظام وانسجام ثم قال في نفسه: أمن القصب ينبعث هذا الصوت الرخيم؟ وعمد بعد ذلك إلى قصبة فثقبها ونفخ فيها فاخترع أول آلة موسيقية.وكان البدوي في صحراء جزيرة العرب يعتلي سنام ناقته تم يسير في الأرض فيجتاز البراري والقفار فإذا به يسمع أصوات الرياح تمر بين الكثبان الرملية تخترق سكون الليل وتتداخل أصواتها محدثة نعمات يرتجف لها نياط فؤاده وتنشرح لها نفسه ثم يشرع في الحداء على إيقاعات تلك نغمات العذبة.ولا يمكن أن نتجاهل ماللموسيقى من منزلة خطيرة في الحياة الجماعية وفهم الموسيقى وحبها والإفادة منها بالغناء والعزف أو بالاشتراك في جوقة غنائية أو موسيقية كل ذلك يدخل في نطاق الثقافة العامة.ومعروف ان المسلمين في عهد النبوة كانوا يستعينون بالغناء عندما يشتغلون بأي عمل عضلي لزيادة نشاطهم في العمل، وظهر في وسطهم نوع من الغناء المسمى الرجز، ويروي ابن هشام في السيرة النبوية ان النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل على ابي أيوب الأنصاري في المدينة أمر ببناء مسجده، وشارك بنفسه في بنائه فلما رآه بعض الصحابة من المهاجرين والأنصار يعمل بهمة ونشاط في حفر ساسات المسجد ونقل الأحجار إليه في حين كان بعضهم قد تعب من العمل وجلس للراحة فقال قائل منهم: لئن قعدنا والنبي يعمل [c1] **** [/c] لذاك منا العمل المضللفقام الصحابة من فورهم لمواصلة البناء وهم يغنون نوعاً من الرجز وينشدون أمام الرسول(صلى الله عليه وسلم) وهو يردد معهم:اللهم لا خير إلا خير الآخرة [c1] **** [/c] اللهم ارحم الأنصار والمهاجرةوكان علي بن ابي طالب حاضراً، فشرع يحفزهم ويردد معهم الأرجوزة الآتية:لا يستوي من يعمر المساجدا [c1] **** [/c] يدأب فيه قائماً وقاعداومن يرى عن الغبار حائذا.ومعروف كذلك أن نساء يثرب وأطفالها كانوا قد استقبلوا الرسول (صلى الله عليه وسلم) عند وصوله المدينة المنورة يوم الهجرة بالدفوف والطبول وهم يغنون ترحيباً به قائلين:طلع البدر علينا [c1] **** [/c] من ثنيات الوداعوجب الشكر علينا [c1] **** [/c] مادعا لـله داعأيها المبعوث فينا [c1] **** [/c] جئت بالأمر المطاعجئت شرفت المدين [c1] **** [/c] مرحباً ياخير داعوكان ظهور الإسلام حدثاً ضخماً غير أكثر معالم الحياة العربية إذ جمع شتات القبائل العربية في امة واحدة دينها الإسلام ودستورها القرآن وتخضع لرئيس واحد هو الرسول عليه السلام ثم خلفاؤه من بعده.واوجد الإسلام للعرب مفاهيم دينية وخلقية واجتماعية تغاير المفاهيم الجاهلية وسن من الشرائع ماهو كفيل بتنظيم المجتمع الإسلامي ودعم روابط الأسرة ورفع شان المرأة واخذ بيد الفقراء والمستضعفين وتوحد العرب جميعاً تحت راية الإسلام واتجهت أنظارهم إلى فتح الأقطار المجاورة لهم تلبية لداعي الجهاد وفي سبيل نشر الدعوة الإسلامية وإقامة العدالة الاجتماعية في جميع بقاع الأرض.وفي ظل تلك الأجواء المتوثبة لخوض المعارك الجهادية كان لابد من وجود نوع من الأغاني الأراجيز التي يرددها المقاتلون لتحفيزهم على مواصلة القتال وتحميسهم للانقضاض على الأعداء ولم يكن لائقاً في مثل تلك الظروف أن يتغنى المغنون بالأغاني الرقيقة التي تحرك المشاعر وتهز العواطف الجياشة نحو الجنس الآخر خاصة في مجتمع المدينة الطاهر غير أن انتقال مركز الخلافة من المدينة إلى دمشق في عهد بني أمية أدى إلى انكباب كثير من أبناء أثرياء المدينة على حياة الترف واللهو المجون والعبث وقد شجعهم الخلفاء على ذلك بما كانوا يغدقون عليهم من مال ليصرفوهم عن المطالبة بالخلافة ويكفوا عن نقد سياسة الحاكمين وكان عمر بن ابي ربيعه واحداً من الشعراء الشباب الأثرياء الذين انصرفوا إلى العيشة الوادعة وكان له مع نساء عصره معاتبات وأقاصيص غزلية وكن يغازلنه ويغالهن ويبادلنه مجونيانه، وفي هذه البيئة لماجنة ظهر لأول مرة الغناء الرقيق.وذكر صاحب المستطرف أن أول من غنى في الإسلام الغناء الرقيق(طويس) وكان أصله من اليمن وهو الذي علم الغناء (ابن سريح) الذي قيل انه فاق الناس بالغناء في زمانه.ويقال ان طويس هذا كان اسمه (طاؤوس) ولكنه تخنث فصغروا اسمه وصار يدعى (طويس) ويقال انه أول من غنى بالرمل فقد كان يقول عن نفسه(انا طاؤوس الجحيم، اشأم من يمشي على ظهر الحطيم) أي على ظهر الأرض.وقد اساء (طويس) بتخنثه إلى الموسيقى والغناء في المجتمع الإسلامي، كمجتمع المدينة الطاهر، الذي كان في بداية تشكله إسلاميا في وقت كان الناس يتهيئون للجهاد والدفاع عن الإسلام ونشر دعوته في الأصقاع المختلفة ولذلك نظر المسلمون الأوائل إلى (طويس) وأمثاله من المغنين المخنثين نظرة ازدراء واستحقار.. لذلك طالبوا ولاة الأمر بتحريم الغناء لأنهم يريدون تنشئة شباب الإسلام على الشجاعة بكل ماتتطلبه من رجولة وإقدام ليتسنى لهم مواجهة أعداء الإسلام بقوة وصلابة إذ لم يكن الغناء قبل ذلك محرماً .غير أن شكوى الناس إلى والي المدنية حينذاك عثمان بن حيان المري الذي قدم إليها من قبل الخليفة الوليد بن عبدالملك سنه ثلاث وتسعين للهجرة، من إنتشار ظاهرة الغناء الماجن في مدينة الرسول، أمر لا يمكن قبوله، لما في ذلك من مفسدة للشباب والناشئة.وتقول بعض الروايات إن جماعة من الإشراف من قريش والأنصار اجتمعوا إلى والي المدينة عثمان بن حيان المريّ عند قدومه إليها من دمشق، يسلمون عليه ويطالبونه أن يحرم الغناء وذكروا له انه ليس أجدى للناس ولا انفع لهم من هذا التحريم ولا أولى بعمله منه فأجابهم إلى ماطلبوه وبعدها شاع حديث منسوب إلى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يقول: «ليكونن في آمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف» (رواه البخاري في باب الأشربة، برقم 5590).ويرى بعض الباحثين أن أشراف المدينة هم الذين أضافوا لفظة (المعازف) إلى الحديث ليقنعوا الوالي بتحريم الغناء، فما كان منه إلا أن يأمر المغنين بالرحيل عن المدينة ومهلهم ثلاثة أيام ليرحلوا.وكان فقيه المدينة وعالمها الكبير عبدا لله بن محمد، المعروف بابن ابي عتيق غائباً عن المدينة إذ ذاك ولكنه عاد إليها في الليلة الثالثة من صدور قرار ترحيل المغنين، وكان عبدا لله هذا سيداً شريفاً وأريحيا طروباً، يسمع الغناء ويطرب له ويستنشد الشعر ويحسن نقده فلما وصل المدينة قصد منزل المغنية (سلافه الزرقاء) ليسلم عليها ويسأل عن حالها.فقال لها: بدأت بك قبل ان أصير إلى منزلي.فقالت: أو ماتدري ماحدث؟ وأخبرته الخبرفقال: لا ترحلي، أقيمي حتى السحر، أي إلى قبيل الفجرفقالت: لماذا لا ارحل وقد أمر الوالي بترحيلنا جميعاًفقال: إني أريد أن ألقاه، وانظر في أمر الترحيلفقالت: إنا نخاف إلا يغني لقاؤك، ونعجل بالترحيلفقال: لاباس عليكثم مضى إلى الوالي عثمان فاستأذن عليه، واخبره أن أول شيء فعله عند قدومه إلى المدينة هو التسليم عليه، ثم قال: أن أفضل مافعلت هو تحريم الغناء ومن أشار لك بذلك؟ فقال: أن اهلك هم الذين أشاروا عليّ بذلك. فقال: انك قد وفقت ولكني رسول أمراه إليك تقول:أن الغناء كانت صناعتي، فتبت إلى الله منها، وأنا أسالك أيها الأمير إلا تحول بينها وبين مجاورة قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال عثمان: إذن ادعها لك أي لك حرية التصرف بأمرها أن شئت أبقيتها وان شئت رحلتها فقال: إن أبقيتها فلن يدركها الناس، ولكن تدعوها وتنظر في أمرها فان كانت ممن يترك تركتها. فقال: ادعها، فأمرها عبدا لله بن ابي عتيق أن تحضر مجلس الأمير فاتت إليه وفي يدها سبحة، وآخذت تحدثه عن مآثر أبائه وأجداده فأعجب بها وبفصاحتها فقال لها بن ابي عتيق اقرئي الأمير شيئاً من القرآن فقرأت فأعجب بقراءتها فقال لها غني للأمير، فغنت فأعجب الأمير بغنائها وانشرح لها صدره ونزل من مجلسه وجلس بين يديها ثم قال: لا، والله مامثلك يخرج من المدينة فقال له ابن أبي عتيق:سيقول الناس: إذن لسلامة وحدها في البقاء والإقامة ومنع غيرها ورحلهم فقال له عثمان: لقد أذنت لهم جميعاً بالبقاء.ونستدل من ذلك أن الغناء في الإسلام لم يكن محرماً لذاته وانما كان التحريم لذلك النوع من الغناء والموسيقى الذي ابتدعه(طويس) وجماعته من المغنين المخنثين فالتحريم لم يكن لذات الغناء أو الموسيقى، وانما للسلوك المشين الذي يصاحب الغناء كالذي كان يسلكه(طويس) وجماعته، في غنائهم المتسم بالميوعة والرقة ومايصاحبة من ابتذال أو تعري.وإذا كان هناك من تحريم للغناء - كما يرى بعض الفقهاء - فما ذلك إلا لرفض السلوك المصاحب للغناء كالذي كان يسلكه(طويس) وجماعته المخنثين الذين يغنون كانوا بميوعه في مدينة الرسول(صلى الله عليه وسلم) وكان ذلك التحريم متزامناً مع تحريم تشبه الرجال بالنساء، وتحريم لبس الحرير بالنسبة للرجال واستكراه إسبال الإزار، ونحو ذلك من الأمور التي كان يمارسها بعض المخنثين من شبان المدينة، الذين كانوا يلبسون الثياب الحريرية المعطرة بالطيب والزعفران، ويتحلون بالذهب ليميزوا أنفسهم ويلفتوا النظر إليهم.فالتحريم لم يكن للغناء ذاته، ولا للموسيقى نفسها، وانما كان التحريم للسلوك غير الأخلاقي المصاحب للغناء والموسيقى، كالذي كان يمارسه المخنثون أو كالذي نراه في بعض أغاني وبعد، فان الهدف من تحريم الغناء والموسيقى- أن كان هناك تحريماً- إنما هو وقاية فتيان المدينة وشبانها من الانجرار وراء جماعة المخنثين لان الناس يريدون تنشئة الشبان على الرجولة والخشونة والصلابة ليكونوا قادرين على تحمل مسؤولية نشر الدعوة الإسلامية والدفاع عن الإسلام إما تحريم الغناء والموسيقى لذاتهما فان ذلك لا ينسجم مع الفطرة الإنسانية التي فطر الله الناس عليها. ويتعارض مع قوله تعالى» وان تعدوا نعمة الله لا تحصوها أن الله لغفور رحيم»(النحل،18).أن الغناء والموسيقى نعمة من الله تعالى انعم بها على عباده وخص بها بعض الناس ممن أعطاهم الصوت الحسن والقدرة على التذوق والمهارة في التلحين والعزف والأداء الجيد.وإذا كان هناك من تحريم للموسيقى والغناء فيكون ذلك في الحالات التي يتم فيها الكفر بهذه النعمة وتوجيهها وجهة خاطئة او تسخيرها لأغراض غير شريفة فإذا انحرفت النعمة عن غاياتها انقلبت إلى نقمة على صاحبها والمجتمع وفي ذلك قال الله تعالى:((ومن يبدل نعمة الله من بعد ماجاءته فان الله شديد العقاب)) «البقرة،211».ولذلك فان الإنسان مطالب بان يشكر الله على آية نعمة أنعمها عليه، ((ذلك بان الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا مابانفسهم)) «الأنفال،53». أي انه من واجبه ان يجعل هذه النعمة فيما يرضى الله، ولا يتخذها وسيلة لعمل مايغضب الله، لأنه ان فعل ذلك يكون ممن قال الله تعالى فيهم: ((وإذا أنعمنا على الإنسان اعرض وناء بجانبه))”الإسراء،43،وفصلت،51”. ويكون الإنسان في هذه الحالة قد كفر بهذه النعمة وأنكر وجودها، ويكون بذلك ممن قال الله تعالى فيهم ))يعرفون نعمة الله عليهم وينكرونها وأكثرهم الكافرون)) “النحل،83” .ومن الإنكار أن يتخذ المرء النعمة وسيلة لعمل المنكر أو يتخذها وسيلة لعمل الباطل فهو بذلك ينكر النعمة ولا يعترف بوجودها لديه وهو ممن قال الله فيه” أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله هم يكفرون” (النحل،72).وإذا وسعنا في دائرة مفهومنا للنعمة فان ذلك سيجرنا للحديث عن نعمة الجمال ونعمة الصحة ونعمة العلم ونعمة القوة ونعمة السلطة ونعمة الجاه وغيرها من النعم فكل هذه النعم ليست محرمة لذاتها إلا إذ انحرفت عن غاياتها او اتخذها أصحابها وسائل لارتكاب المأتم والمحرمات او جعلوها وسيلة للأضرار بالناس فحينئذ يكون الانسان قد كفر بنعمة الله وبدل نعمة الله كفراً.وعودة إلى حديثنا عن الموسيقى فلا يستطيع احد ان ينكر ان الموسيقى نعمة من نعم الله التي لا تحصى، فهي بالنسبة للسامع نعمة لايدرك قيمتها الا من كان مريضاً بالصمم، والذي يمتلك القدرة على الغناء إنما يمتلك نعمة من نعم الله، وهبة اياها ليمتحنه أيشكر او يكفر، والله يقول: ((نعمة من عندنا كذلك نجزي من شكر))”القمر،35”.ولذلك فان الغناء والموسيقى ليست محرمة على النحو الذي يزعم فيه بعضهم مالم تكن سبباً في ارتكاب آثم أو عمل معصية وبالتالي فان الاستمتاع بنغماتها الرخيمة مطلوب احياناً لما تحدثه في النفوس من انشراح فهي تحول احياناً الحزن إلى مسرة والهوس إلى سكينة والكآبة إلى مرح. فهي اذن كالنسيم العليل الذي يهب بعد الحر القائظ او هي كسكون البحر بعد هيجانه فهي ترفرف بأجنحتها في سمائنا على قلوب كانت بالحقد قد تهيجت ، وتهدي اعصاباً كانت بالكراهية قد تشنجت.ولله در الشاعر الذي كان قد طرب لسماع أغنية شدا بها احد المغنين فقال:غناؤك لو وعاه الصخر يوما [c1] **** [/c] لعاد الصخر ذا قلب طروبوفنك كيف سموه غناءً [c1] **** [/c] وما سموه بالحسر العجيبتخط يداك بالألحان سطراً [c1] **** [/c] من الأفراح في القلب الكئيببنانك تمنح الأوتار روحاً [c1] **** [/c] فتنطق نطق ذي فهم اريبكان غناك يعطي الروح روحاً [c1] **** [/c] تطير بها إلى كون غريبوعزفك ينعش الآمال فينا [c1] **** [/c] فيبسم كل ذي دهر قطوب
|
دراسات
الموسيقى والغناء في الإسلام
أخبار متعلقة