في هذه اللحظات الحرجة التي يمر بها الجنوب علينا نحن كافة الوطنيين تناسي الخلافات والوقوف في جبهة متحدة متآزرة ضد خطط الاستعمار ومؤامراته .. على أن ذلك لايعني التنازل عن جوهر مواقفنا الوطنية ولايعني التخلي عن ممارسة حقنا وواجبنا في النقد الهادف والرقابة اليقظة والتنبيه إلى جميع الاحتمالات!!إن الموقف اليوم أخطر من أن يحتمل السلبية التي تلتزمها الهيئات والجماعات الوطنية وأكبر من أن يحتمل الغموض والمواربة والالتواء ..بهذه الروح يجب أن ننظر إلى الأحداث الأخيرة في لحج .. وبفهم أعمق وأشمل وأدق لقد أتضحت لنا على مر الأيام ومن خلال جميع الأحداث التي مرت بنا خطوط السياسة البريطانية في الجنوب، وهي تتمثل في هذين الخطين الرئيسين:- السير بعدن في خط الحكم الذاتي المشبوه، الذي يرمي إلى طمس عروبة عدن وإيجاد كيان خاص لها منفصل عن الجنوب مرتبط بالكومنولث .. وما مشروع التعدين وعملية الهجرة الأجنبية والدستور الجديد إلا معالم في طريق هذه السياسة الخاصة بعدن. اقامة اتحاد فيدرالي في المحميات بهدف إضفاء الصفة الشرعية على الوجود الأجنبي في هذه المنطقة وقطع الطريق على وحدتها مع اليمن.ولقد جيء بالقاعدة العسكرية من قبرص إلى عدن لتحمي هذه السياسة وتحيل خطوطها إلى حقائق رهيبة في أرضنا.ولكن المد العربي التحرري .. ثم اتحاد اليمن أخيراً مع الجمهورية العربية المتحدة ـ كما قلنا في مقال طويل لنا قبل أسبوعين ـ يهدد آخر معقل للاستعمار بأشد الأخطار ويدعم الاتجاه نحو الوحدة اليمنية ويشكل إغراء كبيراً لأبناء الجنوب للانضمام إلى اليمن.ولقد ترك هذا كله آثاره السريعة المباشرة على الموقف في المحميات. فطور الأعمال الثورية هناك وأذكى جذوتها وتحولت هذه الأعمال ـ كما ذكر الوالي في خطابه الأخير ـ من مجرد مناوشات قبلية سلاحها البنادق إلى معارك بالمدافع والأسلحة الاوتوماتيكية الثقيلة.وكرد فعل لاتحاد اليمن مع الجمهورية العربية المتحدة عمد الاستعمار إلى محاولة إحياء مشروع الاتحاد الفيدرالي للمحميات من جديد لتحقيقه على مراحل تحت اسم “الولايات العربية المتحدة” .. ولكن المحاولة تصطدم هذه المرة بظروف أخطر وأشد .. نظراً لنمو الكفاح الشعبي نسبياً وتزايد قوة موقف اليمن ونفوذ القومية العربية .. كما تصطدم المحاولة بموقف السلطان علي عبدالكريم بمعارضته لمشروع الاتحاد الفيدرالي للمحميات.ولانذيع سراً إذا قلنا إن السلطان علي لايقف وحده وانما يقف معه بعض ذوي النفوذ والسلطة في المحميات ويقف معه بالدرجة الأولى قادة رابطة أبناء الجنوب .. فبين السلطان علي وقادة الرابطة علاقات شخصية وسياسية مشتركة قديمة .. والحكومة اللحجية إلى حد كبير حكومة رابطة تتألف من رجال الرابطة في لحج .. والزميل الأستاذ شيخان الحبشي لايكف عن الإشادة بوطنية السلطان علي من إذاعة صوت العرب.وكان طبيعياًُ ان لايقف السلطان علي مكتوف اليدين إزاء هذه المحاولة يحدوه ـ فيما يحدوه ـ الشعور بالخطر على مركزه إذ أن قيام الاتحاد يسهل للإنجليز عزله والضغط عليه بهدف تحويله عن موقفه .. فكان هناك نشاط سياسي واتصالات وانقلاب في شعارات الرابطة وبياناتها وتقرب واضح إلى اليمن والجمهورية العربية المتحدة!وكان ـ بالمقابل ـ أن انزعج البريطانيون لنشوء هذا الموقف في لحج ذات الطبيعة الاستراتيجية البالغة الأهمية بالنسبة للانجليز باعتبارها ممراً للقوات البريطانية إلى الضالع وبعض مناطق الثورة في المحميات ولما يربطها من حدود طويلة مع اليمن ولقد كانت هذه الحدود هي الحدود الوحيدة تقريباًَ الهادئة في المحمية الغربية .. ولكن هدوؤها لم يعد مضموناً كما يبدو بعد اتساع وامتداد رقعة الأعمال الثورية في المحميات!!وإلى ما قبل دخول الحملة العسكرية إلى لحج بأيام قليلة كان المراقبون السياسيون يسمعون عن اشتداد الصراع الخفي في لحج حول مشروع الاتحاد الفيدرالي المزمع إقامته في المحميات .. وعندما جاءت أنباء الحملة مع تباشير عيد الفطر أدرك المراقبون السياسيون من أول وهلة ان المقصود الأول والحقيقي هو النهج أو ما تسميه الدوائر الرسمية بخطر موقف اليمن المتزايد وان التهم التي وجهت إلى السادة “آل الجفري” ليست إلا السبب المباشر لاتخاذ هذه الاجراءات التي حركتها في الحقيقة دوافع وعوامل تتصل باستراتيجية السياسة البريطانية في المنطقة والتي يهمها تثبيت اقدامها هناك لمواجهة الموقف الناشئ عن اتحاد اليمن مع الجمهورية العربية المتحدة .. ولتمهيد الطريق ـ أكثر فأكثر ـ أمام مشروع الاتحاد الفيدرالي البريطاني للمحميات.[c1]الملاحظة الأولى [/c]ولسنا الآن بسبيل استنكار ما حدث في لحج من تمركز القوات العسكرية ومن اعتقال وتشتيت بعض رجال الرابطة هناك .. ثم تعطيل صحيفة “الجنوب العربي” المناضلة فالذين يدركون طبيعة الاستعمار لايستغربون صدور ذلك من جانبه ولكن لنا ـ ومن وجهة النظر الوطنية الخالصة ـ ثلاث ملاحظات على الأحداث الأخيرة .. والملاحظة الأولى تنصب على موقف السلطان علي عبدالكريم .. وهو موقف يكتنفه الغموض ويتميز بالسلبية والاهتزاز والازدواج!!إن ثمة أكثر من سؤال يجب أن يضع له السلطان على الجواب الشافي الصريح ..- لماذا يعارض مشروع الاتحاد الفيدرالي للمحميات؟- وماذا يريد على وجه التحديد؟- وما مدى جديته وصدقه فيما يقال عن اتجاهه في ظل معاهدة نحو اليمن والجمهورية العربية المتحدة؟- وكيف نوفق بين تمسكه بكرسي السلطنة في ظل معاهدة الاستشارة والحماية وبين رغبته في ذات الوقت في الظهور بمظهر السلطان الوطني المناهض لمشاريع الاستعمار؟ولماذا ذهب إلى لندن في هذه الظروف؟ ومن يشكو ولمن يشكو؟!إننا سنقدر لأي سلطان أي موقف معارض للاستعمار ولكن الذي يؤسفنا بالنسبة للسلطان علي أنه حرص دائماً على الاحتفاظ بموقفه كسر خاص لايعرفه إلا المرتبطون به وما لم يعمل السلطان على توضيح وتحديد موقفه فإن الشعب ليس ملوماً إذا لم يتعاطف معه بالقدر الكافي وإذا نظر إلى الأمر وكأنه مجرد نزاع خاص بين السلطان والانجليز.فالشعب لايحب المواقف المهزوزة أو انصاف المواقف .. ولايؤمن إلا بالمواقف الايجابية الصلبة من الاستعمار وبالذين يلتزمون جانب الشعب وحده ويختارون طريق القومية العربية.[c1]الملاحظة الثانية[/c]إذا صح أن رجال الرابطة كانوا يقومون بنشاط سياسي في لحج موجه ضد مشروع الاتحاد الفيدرالي للمحميات فلا بد انه نشاط محدود فوقي لايخرج عن دائرة ذوي النفوذ والسلطة في المحميات ولذلك رأينا ان اجراءات الاعتقال في أبين مثلاً قد انحصرت في واحد من هؤلاء ولهذا السبب أيضاً لم يعرف الشعب شيئاً عن ذلك النشاط وفوجئ بالحوادث الأخيرة مفاجأة!ومن هنا تبرز ضرورة العمل على المستوى الشعبي وفي صفوف الجماهير .. وبالتأكيد ليست معارضة هذا السلطان او ذاك هي التي تمنع قيام مشروع اتحاد المحميات وإنما هناك عوامل داخلية وخارجية يأتي في مقدمتها موقف الشعب ورفضه الحاسم لأي اتحاد سلاطيني استعماري.من أجل هذا كنا ندعو دائماً إلى الاتجاه إلى الشعب والارتباط به والاعتماد عليه وحده في إحباط جميع المشاريع الموجهة ضد الحركة الوطنية، وان سبيلنا الصحيح اليوم إلى ذلك هو القيام بعملية فضح للمشروع على أوسع نطاق وعملية حشد وتعبئة وتنظيم قوى الشعب في عدن والمحميات بمعزل عن الفئات الحاكمة.وفي تقديرنا لموقف أي سلطان معارض لهذا المشروع يجب ان لاننسى أنه ليس من مصلحة الشعب ان تغدو القضية الوطنية مجرد صراع بين السلاطين والاستعمار وان أكبر ضمان لانجاز اهداف الشعب وحماية مكاسب كفاحه الوطني هو ان تكون القضية الوطنية تحت قيادة صلبة واعية منبثقة من صلب الشعب![c1]الملاحظة الأخيرة[/c]إن خطوط السياسة البريطانية في الجنوب وان بدت تسير ـ من حيث الشكل طبعاً ـ في خطين متوازيين يستهدفان إقامة كيانين منفصلين لكل من عدن والمحميات إلا أن الظروف قد تدفعهما إلى الالتقاء عند نقطة واحدة وبشكل من الأشكال!وهذا احتمال آخر ـ وإن بدا بعيداً ـ يجب ان يتنبه له الوطنيون وأن يواجهوه منذ الآن!وبعد ..إن الأحداث الأخيرة في لحج كانت إنذاراً رهيباً لكافة الوطنيين بأن يتناسوا خلافاتهم وينتظموا في جبهة وطنية متحدة .. إن الأمر ليس أمر السلطان علي وليس أمر دخول القوات إلى لحج .. والقوات البريطانية موجودة في كل مكان من الجنوب بقدر ما هو أمر مواجهة الموقف من أساسه ومن كل جانب وعلى مستوى الأحداث في الداخل والخارج .. وأمر انتصار حركتنا الوطنية الهادفة إلى التحرر والوحدة.ومن أجل هذا يجب أن نتحد .. وأن نعمل![c1]*عبدالله باذيب / الفكر ـ العدد ـ 87 ـ السنة الثانية ـ 4 مايو 1958م [/c]
لكي لا تكون قضيتنا صراعاً بين السلاطين والاستعمار
أخبار متعلقة